من هو عمانوئيل؟


ثمة اعتراضان يوجهان إلى نبوة إشعياء؛ حول هوية عمانوئيل من ناحية، وحول الميلاد العذراوي من ناحية أخرى. بالنسبة للأول، يقول بعض الباحثون أن عمانوئيل في إشعياء ٧ : ١٤ ليس يسوع المسيح لكن ابن إشعياء، ماهير شلال حاش بز. وإلا فما معنى أن يَعد الرب بخلاصًا لآحاز الملك، في شخص عمانوئيل (والمفترض أنه ابن إشعياء)؟ بالنسبة للثاني، يعترض البعض على الميلاد العذراوي بحجة أن المصطلح المستعمل بواسطة إشعياء ٧ : ١٤ "عَلْمَه" لا يعني عذراء لم تتزوج، بل فتاة. والاعتراضان مرتبطان ببعضهما البعض. فإن كان عمانوئيل هو ابن إشعياء، إذًا، فلا حاجة للميلاد العذراوي. وإن كان مصطلح "عَلْمَه" لا يعني عذراء، فإن هذا بدوره يعني أن عمانوئيل ليس هو المسيح، بل ابن إشعياء المولود لأبويه.

لكي نجيب عن هذان الاعتراضان نحتاج أولاً أن نفهم القليل عن الخلفية التاريخية لنبوة إشعياء عن عمانوئيل. الوعد بعمانوئيل، والذي أعطاه الرب لآحاز (إش ٧ : ١٤)، كان في ظل تحالف آرام (سوريا) وإسرائيل (المملكة الشمالية) ضد يهوذا (المملكة الجنوبية). استعانت مملكة يهوذا، ممثَّلة في ملكها آحاز، بآشور لصد هذا الهجوم من قِبل التحالف الآرامي الإسرائيلي ضدهم. إلا أن الرب أراد طمأنة وتعزية آحاز ملك يهوذا، بأن يدعوه ليتكل عليه، بدلاً من اتكاله على آشور. فدعا الرب آحاز ملك يهوذا أن يطلب منه آية لكي يشجعه بسبب الهجوم الذي جاء عليه من قبل تحالف المملكة الشمالية مع آرام: "أطلب لنفسك آية من الرب إلهك. عمق طلبك أو رفعه إلى فوق" (إش ٧ : ١١). ولكن آحاز رفض هذا العرض السخي من الرب قائلاً: "لا أطلب ولا أجرب الرب" (إش ٧ : ١٢). إلا أن الرب يعطيه هذه الآية على أي حال وبدون موافقته: "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش ٧ : ١٤). وقبل أن يكبر هذا الصبي الموعود به سَيُدَمَّرُ ملكا إسرائيل وآرام "لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تُخْلَى الأرض التي أنت خاشٍ من ملكهيا" (إش ٧ : ١٦).

في إشعياء ٨ يولد الابن الموعود به وهو ابن إشعياء النبي: "فاقتربت إلى النبية فحبلت وولدت ابنًا. فقال لي الرب: ادعو اسمه ماهير شلال حاش بز" (٣). ويعود الرب ويؤكد على حقيقة أنه قبل أن يكبر الصبي ويصبح قادر على الكلام ستأتي الدينونة على آرام وإسرائيل: "لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو: يا أبي ويا أمي، تُحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور" (٤). يرى الكثير من الباحثين أن ابن إشعياء هذا هو التحقيق المباشر للنبوة في إشعياء ٧ : ١٤ "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل".

إلا أن النبوة الخاصة بعمانوئيل، كما يُفهم من النصوص التي سنتناولها في الأصحاحات من ٧ – ٩ في إشعياء، على قدر من التعقيد، وهي أكبر من أن يكون إتمامها كليًا في ابن إشعياء. يرى باحثا العهد القديم، چ. دانيل هايز وتريمبر لونجمان، أن هذه النبوة هي رمز. وهو أمر مرتبط بـ "المنظور القريب البعيد". المنظور القريب البعيد هو أن نبوة بعينها تشير إلى أكثر من حدث مستقبلي واحد. فقد تتناول حدث في المستقبل القريب، وآخر في المستقبل البعيد. من هنا تَسَمَّت بالمنظور القريب البعيد. والسبب في أنه منظور واحد ذو بعدين يشمل أحداث قريبة وبعيدة هو أن الأنبياء كانوا يرون النبوة مترابطة وكأنها حدثًا واحدًا مكونًا من أحداث متعاقبة. أو لغرض الترميز.

هذه النبوة المركبة بخصوص عمانوئيل تمت جزئيًا في ابن إشعياء. هذا هو التحقيق القريب للنبوة. إلا أن النبوة تحققت أيضًا بصورة كلية أعظم في حدث مستقبلي آخر ألا وهو تجسد المسيح، عمانوئيل الحقيقي. وهذا هو التحقيق البعيد للنبوة. والسبب في أننا لا نرى أن ابن اشعياء، ماهير شلال حاش بز، لا يمكن أن يكون الاتمام أو التحقيق النهائي للنبوة، هو أننا نجد المفهوم حول هوية عمانوئيل ينمو شيئًا فشيئًا. ونرى هذا بدءًا من إشعياء (٨ : ٨) إذ يقول: "ويندفق إلى يهوذا. يفيض ويعبر. يبلغ العنق. ويكون بسط جناحيه ملء عرض بلادك (أرضك) يا عمانوئيل". إن عمانوئيل هنا لا يمكن أن يكون هو ماهير شلال حاش بز. فهو لا يملك أرض يهوذا كلها.

يقول جون أوزوالت في شرحه لـ إش ٨ : ٨:

"ومع ذلك، فإن تسمية يهوذا بأرض عمانوئيل يوضح بجلاء أن ماهير شلال حاش باز، أو أي شخص آخر، ربما يكون قد شكل التحقيق الأولي للآية (العلامة)، إلا أنه لم يكن التحقيق النهائي لها. في نهاية المطاف، عمانوئيل هو مالك الأرض، وهو الشخص الذي وُجِّهت ضده تهديدات آشور، وهو من يتوقف الخلاص في النهاية عليه. لا يمكن أن يكون هذا ابن إشعياء، ولا حتى ابن مجهول لآحاز. يمكن أن يكون فقط المسيا، الذي فيه يكمن كل رجاء. يبدو الأمر أنه وبينما ينغمس إشعياء بشكل أعمق وأعمق في التضمينات السرية لآيته، قد فوجيء بالمعنى الأعمق لآيته: الله معنا، والأفضل من ذلك كله، سيكون معنا، ليس فقط في التطورات غير الشخصية لـ التاريخ، ولكن بطريقة ما كشخص".

في عدد ١٠ أيضًا نجد مفهو عمانوئيل، أي الله معنا، يتسع أكثر، ليعني أكثر من مجرد ابن إشعياء. إذ يعني هزيمة الأمم المعادية "تشاوروا مشورة فتبطل. تكلموا كلمة فلا تقوم. لأن الله معنا". أي عمانوئيل ليس مجرد طفل وُعِدَ به لإشعياء، من أجل تعزية آحاز ومملكته يهوذا. إن عمانوئيل حقيقة باقية، بل إنه شخص يهوه نفسه، المسيا الذي سيعطيهم نصرة نهائية وباقية على أعدائهم.

ولعل مفهوم عمانوئيل يصل لذروته في إشعياء (٩ : ٦ – ٧) حيث نقرأ: "لأنه يُولد لنا ولد، ونُعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا، إلها قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا".

يعلق باحثا العهد القديم، چ. دانيال هايز وتريمبر لونجمان، كيف أن مفهوم عمانوئيل يصل إلى ذروته في الوعد المسياني بمجيء ذلك الشخص الذي له الصفات الإلهية:

"ثم في إشعياء ٩ : ٦ تحدث النبي عن طفل مرة أخرى، الآن فقط يتم ربط الطفل بالرجاء المسياني لِمَلِك داودي عظيم قادم. يشير إشعياء إلى هذا الطفل بأنه ‘عجيبًا مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام’. إن هذا الشخص الآتي يُقَدَّمُ على أنه الشخص الذي سيتمم العهد الداودي في ٢ صموئيل ٧. مرة أخرى، العدل والبر هما المعايير السامية التي يتم من خلالها تعريف هذه المملكة القادمة (إشعياء ٩ : ٧). بنهاية إشعياء ٩ : ٧، فإن الطفل المذكور لأول مرة في ٧ : ١٤، كآية لآحاز، يُدمج في شخصية تاريخية مذهلة ذات صفات إلهية ستؤدي إلى الاسترداد المؤسس على الوعد لداود. لذلك، وفي حين أن طفل وُلِدَ في القرن الثامن قبل الميلاد حقق جزءًا من هذه النبوة (آية آحاز)، لم يكن هذا الطفل سوى رمز أو نذير للتحقيق النهائي الذي حدث في يسوع المسيح. بدون تردد، يعرّف العهد الجديد بوضوح أن يسوع هو تحقيق لهذه النبوة. ولكن حتى ذلك الحين، فإن بعض الإنجازات الكاملة فيما يتعلق بإنشاء المملكة الموصوفة تكمن في المستقبل (على الأقل من وجهة نظر ما قبل الألفية)".

هذا فيما يتعلق بهوية عمانوئيل، الأمر الذي ينقلنا بدوره إلى الاعتراض المتعلق بمصطلح "عَلْمَه". يرى الباحثون أن "عَلْمَه" لا تعني بالضرورة "عذراء"، لكن "شابة في عمر الزواج". وأن هناك كلمة عبرية خصيصًا بمعنى "عذراء" وهي "بِتُولَه" والتي غالبًا ما يصحبها تعبير "لم يعرفها رجل". لكن رغم ذلك لا يمكن أن نقول أن كلمة "عَلْمَه" تخلو من معنى العذرية تمامًا. ليس فقط لأن الكلمة يمكن أن تعني ذلك، بل أيضًا لأنها تُرجمت في السبعينية إلى "عذراء" (بارثينوس). وإن لم يحتمل مصطلح "عَلْمَه" أي معنى للعذرية، إذًا فلماذا ترجمتها السبعينية بهذا المعنى؟ إذًا، يمكننا القول أن مصطلح "عَلْمَه" يمكن أن يعنى كل من عذراء، وفتاة في سن الزواج.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا أصر إشعياء على استخدام مصطلح "عَلْمَه" الغامض نسبيًا مقارنة بـ "بِتُولَه" إن أراد إبراز مفهوم العذرية؟ أعتقد الإجابة هي أن إشعياء أراد أن يشمل معنى العذرية لكنه بنفس المصطلح أراد أن يشير إلى أمر آخر أيضًا. أو بكلمات أخرى، أراد أن يشير إلى شخصين، ابن اشعياء، وابن الله. ابن إشعياء كاتمام أولي للآية، وابن الله، المسيا، كالاتمام النهائي والأعظم لها. يقول جون ن. أوزوالت: "الاستنتاج الذي نجد أنفسنا مدفوعين إليه هو أنه بينما لم يرغب النبي في التركيز على العذرية، لم يرغب أيضًا في تركها جانبًا (كما كان يمكنه أن يفعل باستخدام 'إِشَّا' أو أي مصطلح آخر لكلمة 'امرأة'). في الواقع، ربما استخدم هذا المصطلح على وجه التحديد بسبب ثرائه وتنوعه".

من ناحية أخرى، لو كان إشعياء قد استخدم المصطلح الذي لا يعني شيء آخر سوى عذراء لم يعرفها رجل "بِتُولَه"، لكان بذلك قد استثنى ابنه ماهير شلال حاش بز. لكن إشعياء آثر المصطلح الآخر ليجمع حدثين خلاصيين في مصطلح واحد "عَلْمَه". حدث الخلاص في المستقبل القريب من آرام وإسرائيل. وحدث الخلاص الأعظم في المستقبل البعيد، خلاص يهوذا (وإسرائيل والعالم) من سيادة الشر والخطية بمجيء المسيا. لهذا يشير أوزوالت إلى أنه لو كان إشعياء قد استعمل المصطلح الذي يشير إلى العذرية بدون لبس لكان آحاز فاته تطبيق الآية على زمنه في محنته: "لو استخدم إشعياء ‘بِتُولَه’ هنا، لربما كان آحاز قد انغمس في هذا الفكر لدرجة أنه كان سيفتقد الارتباط المحدد بزمنه".

بكلمات أخرى، استعمل إشيعاء هذا المصطلح خصيصًا ليضمن أن تكون النبوة الخاصة بعمانوئيل منطبقة على زمن آحاز، ولكي تكون في الوقت نفسه منطبقة على كل زمن من خلال عمانوئيل الحقيقي، مولود العذراء مريم التي لم يعرفها رجل (إلى وقت ميلاد يسوع).

يضيف أوزوالت إلى كلماته السابقة قائلاً:

"من ناحية أخرى، تطلبت آية إشعياء، ذات الجانبين، في زمن آحاز، شيئًا أعظم. نعم، يمكن اعتبار اختفاء آرام وإسرائيل دليلاً على وجود الله معهم. لكن ماذا عن آشور، التي وثقوا بها بحماقة والتي ستنقلب قريبًا على عميلها البائس (يهوذا)؟ هل كان الله معهم في ذلك؟ ولنفترض أن قوى أعظم من آشور صعدت إلى المسرح العالمي، فماذا بعد؟ ... لكن لا يوجد طفل يولد لامرأة شابة في أيام آحاز دليل على حضور الله في كل الأوقات ... لذلك يجب أن تكون علامة آحاز متجذرة في وقتها الخاص لتكون لها أهمية لذلك الوقت، ولكن يجب أيضًا أن تمتد إلى ما بعد ذلك الوقت وإلى وضع أكثر عالمية إذا كانت حقيقتها الجذرية هي أكثر من مجرد أمل باطل. لمثل هذه المهمة المزدوجة، فإن مصطلح ‘عَلْمَه’ مناسب بشكل مثير للإعجاب".

إن استعمال إشعياء لمصطلح "عَلْمَه" الغامض نسبيًا، ليشمل بذلك زمن آحاز، من خلال الاتمام المبدئي والجزئي للنبوة، وأيضًا كل زمن آخر، من خلال الإتمام النهائي والأعظم لها بمجيء المسيا، يؤكد ما قلناه سابقًا حول كون عمانوئيل مفهوم كبير. إذ يشير هذا الاسم بصورة مبدئية إلى ابن إشعياء، وأيضًا وبصورة مطلقة ونهائية، إلى تجسد المسيا، خلاص يهوذا وإسرائيل والعالم بأكمله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس