هل الكتاب المقدس يصادق على كل شيء يسجله؟


بكلمات أخرى، هل النصوص الواردة بها لعنات في المزامير هي مشاعر شريرة لا تليق أن تصدر من داود؟ هل كلام أيوب وأصدقاؤه، مجادلاتهم اللاهوتية فيما بينهم، صحيحة لاهوتيًا؟ هل اقتباس بولس لأشعار الفلاسفة يعني أن الفلسفة كلها صحيحة لاهوتيًا (الفلاسفة كانوا شعراء في نفس الوقت)؟ هذه الأسئلة وأخرى مشابهة لها تثور حول هذه القضية.

والإجابة على هذا السؤال هي بالنفي. لا، الكتاب المقدس لا يصادق على كل شيء يسجله. ولكن، كل شيء مسجل فيه هو وحي لفظي معصوم نافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح.

على سبيل المثال، الكتاب المقدس لا يصادق على القول "ليس إله" لأن قائله جاهل كما نفهم من القرينة المباشرة. ولا يصادق على طلب إيليا الموت لنفسه لأن هذه لم تكن مشيئة الله كما نفهم من مغزى الأحداث فضلاً عن أنها مقولة ليست من الإيمان. ويصادق جزئيًا على لوم آدم لامرأته، أي أن حواء مسؤولة فعلاً (فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلتِ تك 3 : 13)، رغم أن المسؤولية الرئيسية تقع على عاتق آدم. ويصادق كليًا على نبوة قيافا عن المسيح "خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب" (يو 11 : 50) رغم أن قيافا لم يكن يعلم أنه يتنبأ وكان من بين الذين تآمروا على صلب المسيح.

إن كان الحال هكذا، فكيف نعرف ما إذا كانت تلك المقولة، أو هذا السلوك، مُصادق عليه بواسطة الوحي أم لا؟ ما هو المعيار لذلك؟ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة بصورة مطلقة، لكن مما لا شك فيه أن هناك بعض الإسترشادات التي يمكن أن تنير لنا هذا الطريق.

إن الإجابة عن أي سؤال يتعلق بتفسير النص الكتابي تكمن في الكتاب المقدس نفسه بصورة رئيسية. إما في قرينته القريبة (المباشرة)، أو في قرينته البعيدة، أو في مغزى ما يقصه علينا، أي ليس بالإخبار المباشر لكن بإظهار العواقب والنتائج، أو في ضوء اللاهوت الكتابي العام. صحيح أننا نستطيع الإستعانة بمصادر خارجية كخلفيات تاريخية وما إلى ذلك، إلا أن تلك المصادر الخارجية لا ينبغي أن تكون أكثر من مجرد أداة لخدمة النص وليس قاضيًا للحكم عليه. في كل الأحوال علينا التمسك بالمبدأ المُصْلَح بسلطان الكلمة وعدم اعتناق أي شيء من شأنه تقويض سلطة النص.

ينبغي أن ننطلق من المنهج المُصْلَح الذي يعلم بأن الإجابة تكمن في الكتاب المقدس نفسه. طبقًا للتعليم المصلح فإن النص الكتابي يُفْهم في ضوء اللاهوت العام للكتاب المقدس بأكمله (أنالوجيا فيديه). كما أن النص الأقل وضوحًا ينبغي أن يُفَسَّر في ضوء النص الأكثر وضوحًا (أنالوجيا سكريبتورا). هذان المبدآن هما روح سولا سكريبتورا، أي أن الكتاب المقدس وحده هو السلطة اللاهوتية الوحيدة المعصومة. لا يمكن أن تنادي بسلطان الكتاب المقدس وحده وفي نفس الوقت دون أن تدع النص يكون معيارًا لنفسه. 

الاسترشادات الأربعة الآتية هي إعمالاً لمبدأ أن الكتاب المقدس يفسر نفسه لأنه صاحب السلطان المطلق على نفسه.

أولاً، السياق المباشر ينبغي أن يكون أول معيار نلجأ له عند محاولة اكتشاف ما إذا كان الكتاب المقدس يدين أو يصادق على شيء بعينه. مهما أبرزنا أهمية السياق المباشر في حسم المسألة فلا يمكن أن نكون قد بالغنا. السياق أو القرينة هي أهم شيء على الإطلاق عند التفسير. قد ينص مثلاً السياق المباشر صراحة عن سلوك ما أنه "قبح في عيني الرب" (تك 38 : 10) أو قد يخبرنا "فحمي غضب الرب على ..." (خر 4 : 14). إلا أن هناك نصوص كثيرة لا يعلّق الوحي عليها مباشرة سواء بالإيجاب أو السلب كما نرى في المثالين السابقين.

ثانيًا، هنا يأتي دور القرينة النصية البعيدة. أي ما يقوله الكتاب المقدس عن نفس الأمر ولكن في نص آخر. قد يكون من الصعب علينا أن ندرك من السياق المباشر ما إذا كانت أقوال أو أفعال بعينها قويمة أو شريرة، أو ما إذا كان المثال المقدم علينا التمثل به أم رفضه. لهذا علينا أن نستشير النص الكتابي العام فيما يخص المسألة التي نبحث فيها.

المثال الشائع على ذلك هو ما يسمى بـ "مزامير اللعنات". كثيرون يقولون (وعلى رأسهم سي إس لويس) أن اللعنات أو الديونونات التي يصوبها داود في صلواته على الأشرار هي مشاعر شريرة وآثمة ينبغي أن نتجنب فعلها. لكن هناك أسباب كثيرة تجعلنا نرفض هذا الإدعاء، مثل مصادقة العهد الجديد على هذه الدينونات. الرب يسوع المسيح نفسه اقتبس من تلك المزامير مطبقًا نصوصها على نفسه، ودون أية إشارة إلى وجود ما يشينها. قارن (مز 35 : 19، 7 : 4 ، 69 : 4 ، 109 : 3)، مع (يو 15 : 25). أيضًا راجع (مز 69 : 9)، في ضوء (يو 2 : 17) وأيضًا (رو 15 : 3). للمزيد، راجع مقال آخر بعنوان "مزامير اللعنات". إن من يحدد ما إذا كانت مزامير اللعنات مشاعر آثمة أم لا، ليس أنا، ولا حتى سي إس لويس، بل الكتاب المقدس نفسه.

مثال آخر على ذلك هو اقتباس بولس لأقوال بعض الفلاسفة (أع 17 : 28). إن اقتباسات بولس لبعض الفلاسفة ينبغي أن توضع في ضوء إدانة بولس للفلسفة ككل، باعتبارها ديانة وثنية من صنع الإنسان. فبينما يرى بولس أن هناك أشياء صحيحة قالها الفلاسفة، إلا أن منهجهم، ومحتوى فلسفاتهم بصفة عامة مضاد للحق الإلهي (كو 2 : 8 ، 1 كو 1 : 19 – 21).

ثالثًا، الكتاب المقدس، في الكثير من الأحيان، يخبرنا عن حقيقة الأشياء من خلال السرد أكثر من التعليق المباشر والصريح على الأفعال والأقوال التي أوردها. أي أن الإجابة على بعض السلوكيات، قد لا تكون صريحة في القرينة القريبة، أو حتى في القرينة البعيدة، بل قد تكون ضمنية، في نسيج السرد الكتابي للنص موضوع التساؤل.

يقول اللاهوتي س. جون كولينز:

"علاوة على ذلك، منذ عام 1980 كان هناك تقدم هائل في دراسة الشعر السردي للكتاب المقدس. النتيجة الأكثر أهمية بالنسبة لنا هي إدراك أنه في ضوء الميزات الموجودة في السرد الكتابي، يجب أن نتوقع أن كتبة الوحي ينقلون وجهة نظرهم بوسائل غير مباشرة ومقتضبة، ولا سيما التأكيد على الإظهار (إظهار القلب من خلال العمل والكلام) أكثر من الإخبار (التقييم الصريح للشخصيات والأفعال)".

تطبيقًا لهذه القاعدة، علينا أن ننظر في الرواية التي نحن بصددها لنرى ما هي العواقب التي آلت إليها تلك الأحداث. إن كان لدينا شك حول حقيقة فعل أو قول ما، علينا أن نبحث عما أثمرته تلك الأفعال أو الأقوال في الرواية نفسها حتى ندرك ما إذا كان الكتاب المقدس يصادق عليها أم يدينها. المثال على ذلك، هل أراد الله لإبراهيم أن يقدم اسحق إبنه ذبيحة؟ نهاية القصة تقول لنا أن الله لم يرد له أن يذبح اسحق ذلك لأن الرب لم يسمح له. ولهذا فالكتاب المقدس لا يصادق على الذبائح البشرية.

رابعًا، وأخيرًا، ماذا يقول الحق الكتابي العام عن النص موضوع التساؤل. إن الحكم على ما إذا كان الكتاب المقدس يصادق على شيء يرد به أم لا ينبغي أن يأتي في ضوء الحق الكتابي العام. لا يمكن أن يصادق الكتاب المقدس مثلاً على أمر هو ضد الحق المعلن في كل أرجاءه. هل يصادق الكتاب المقدس على كل محتوى الحوار الذي دار بين أيوب وأصدقاءه؟ بينما سفر أيوب بأكمله معصومًا عصمة لفظية، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب، ليس بالضرورة أن تكون كل الأفكار الواردة في الحوار صحيحة. بل علينا أن نأخذ كل فكرة على حدى لنفحصها في ضوء الحق الكتابي العام. والدليل على ذلك هو أن الرب نفسه يقول أن أصدقاء أيوب أنفسهم لم يقولوا الصواب عن الرب وأيوب (أي 42 : 7 – 8). في الوقت نفسه الذي يصادق فيه الرب على ما قاله أيوب. وهذا لا يعني بالضرورة أن كل شيء قاله أصدقاء أيوب خطأ وإن كان في مجمله كذلك.

خلاصة ما سبق هو إنه كان هناك صعوبة في تحديد ما إذا كان الكتاب المقدس يصادق على أمر وارد به أم لا، فإن الحل يكمن في النص نفسه. ذلك لأن النص هو المعيار الأوحد لنفسه. قد تأتينا الإجابة صراحة في السياق المباشر، أو صراحة في السياق البعيد، أو ضمنيًا في مغزى الأحداث نفسها، أو في ضوء الحق الكتابي العام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس