هل يمكن أن نختلف حول تفسير النصوص الكتابية ونظل جميعًا مسيحيين؟


كثيرًا ما سمعنا الادعاء بأنه لا يوجد تفسير واحد فقط صحيح للكتاب المقدس. وطبقًا لكلمات أحدهم:

"لا يوجد تفسير واحد للكتاب المقدس ... فالتفسيرات المختلفة والمتنوعة لنصوص الكتاب المقدس هي اجتهادات بشر قد تصيب وقد تخطئ، لذا فليس من حق أحد أن يزعم أن فهمه أو تفسيره للنص الكتابي، هو التفسير الوحيد الصحيح أما باقي التفسيرات فهي خاطئة وضالة".

إلا أنه لدينا الكثير من الأسباب التي تثبت خطأ هذا الادعاء.

– إن كان من الصعب الوقوف على تفسير النص الكتابي، أو لو كانت كل التفاسير صالحة بدون تمييز، فإن هذا يعني أنه لا يمكن الاتفاق حول معنى أن تكون مسيحي من الأساس. إن طبيعة شخص المسيح وعمله مؤسسان على تفسيرًا صحيحًا للنصوص الكتابية. وبالتالي، إن كانت كل التفاسير متساوية، لتساوى من يرى في المسيح معلمًا فقط أو حتى ثوريًا مع من يراه الله المتجسد. ولأصبحت عقائد خطيرة مثل الثالوث بل والإنجيل نفسه على المحك. لأن هذه العقائد مرهونة بتفسيرًا صحيحًا للنصوص الكتابية. وهذا كله يجعل الإيمان القويم متساوٍ مع الهرطقات. الأمر الذي ينحدر بنا في النهاية إلى التعددية وعالمية الخلاص.

– غالبًا ما يهدف أصحاب هذا الإدعاء لتهمش العقيدة من خلال القول أن أي تفسير للنصوص الكتابية صالح بقدر صلاحية باقي التفاسير. إلا أن ما قيل عن العقيدة يمكن أن يُقال أيضًا على الأخلاقيات. فالنصوص الكتابية تحوي عقائد وأخلاقيات. تطبيقًا لذلك، فإن عدم إمكانية الاتفاق حول العقائد يعني أيضًا عدم إمكانية الاتفاق حول الأخلاقيات التي يحضنا عليها الكتاب المقدس. إن المتشكك هنا ليس لديه سوى خياران، أن يكون انتقائيًا فيرى بعض الأشياء يقينية وبعضها الآخر غير يقيني، أو أن يكون متسقًا مع منهجه الشكوكي اللاأدري فيرى أن كل شيء نسبي، العقيدة، وبما في ذلك الأخلاقايات الكتابية.

– القول أن التفسيرات المتضاربة للنصوص الكتابية جميعها مشروعة بحجة أنها اجتهادات، وأن لا أحد يمتلك الحق المطلق، هو اتهام ضمني للكتاب المقدس بالغموض. ومن ثم اتهام لله بأن إعلانه عن نفسه غير واضح. كما أن الكتاب المقدس نفسه لا يسمح بهذا الاعتقاد. ذلك لأن الكتاب المقدس يفترض عبر أجزاءه أنه النور، ومشورة الله، وحكمتة. كيف يمكن للنور أن يكون غامضًا، وكيف للحكمة أن تكون مبهمة وغير متفق على معناها؟ لو كان قائل هذا الادعاء يفترض وضوح الكتب المقدسة، أو وضوح إعلان الله عن نفسه، لما أمكن له أن ينطق بهذه الكذبة.

– إن هذا الادعاء، أيضًا، يتعارض والمنهج المصلح في نقطتين. الأولى هي وضوح الكتب المقدسة. والثانية هي أن تفسير النص الكتابي يخضع لمبدأ التفسير النحوي والتاريخي. بالنسبة للأولى، وعلى رغم أن الكتب المقدسة ليست واضحة لجميع البشر بنفس القدر، ومع أن الشخص الواحد لن يجد كل النصوص الكتابية بنفس الوضوح، إلا أن كل ما يتعلق بالخلاص والتقديس واضحان في كلمة الله. كما أن النصوص الأقل وضوحًا يمكن فهمها في ضوء النصوص الأكثر وضوحًا. إن سولا سكريبتورا لا قيمة لها بدون أن تكون الكتب المقدسة واضحة!

بخصوص الأمر الثاني، فقد نادى المصلحون بالتفسير النحوي التاريخي للنصوص الكتابية. أي، تفسير النص الكتابي طبقًا لمعناه النحوي المباشر، وفي ظل قرينته التاريخية. بكلمات أخرى، فإن المعنى يتحدد دائمًا وفقًا للقواعد النحوية والأسلوب الأدبي المتبع في النص، مع أخذ القرينة التاريخية في الاعتبار.

وعليه فأن تقول أن كل التفسيرات جائزة، على اختلافها وتضاربها، هو أن تطعن في أهم مباديء الإصلاح البروتستانتي.

– الادعاء بأن كل التفسيرات المختلفة للنصوص الكتابية صالحة يغفل تمامًا حضور وفعالية الروح القدس في الكنيسة. ليس فقط أنه اتهام لله بالغموض (كما رأينا)، لكن هو أيضًا طعن في نشاط وعمل وقوة الروح القدس. إن كانت التفسيرات المتضاربة جميعها صحيحة بنفس القدر، نظرًا لعدم إمكانية التيقن من التفسير الصحيح للنص الكتابي (كما يدعي أولئك)، أين إذًا دور الروح القدس هنا؟ إن لم يكن هناك أمل من وجود تفسيرات صحيحة ومتسقة للنصوص الكتابية، فنحن هنا نستبعد الدور التعليمي للروح القدس من المشهد تمامًا. ونطعن في صدق وعد المسيح لنا بأنه سيرسل لنا الروح الذي يرشدنا إلى جميع الحق، ويذكرنا بجميع ما قاله. فالروح هو الذي يعلمنا ويرشدنا ويذكرنا بجميع الحق.

تطبيقًا لذلك، إن كان من المستحيل الوقوف على معنى النص الكتابي، الأمر الذي يعني عدم فعالية الروح القدس في تعليمنا وإرشادنا، فإن تقديسنا يعد أمرًا مستحيلاً بدوره. نظرًا لأن تقديسنا متوقفًا على التغذي على تلك النصوص الكتابية وفهمها، الأمر الذي يحدث بعمل الروح القدس. كما أن الكنيسة بذلك تصبح غير ممكنة لأنها، وفقًا للمنهج المصلح، مؤسسة على تعليم وتفسير صحيحان للكلمة (جنبًا إلى جنب مع التأديب الكنسي وممارسة الفريضتان).

– لا نجد إشارة واحدة في كل العهد الجديد تدل على أن الرب يسوع المسيح تساهل مع التفسيرات الخاطئة لليهود، بحجة أنها جمعيًا اجتهادات. بل الموعظة على الجبل بأكملها تفسيرًا صحيحًا لتفنيد التفسيرات اليهودية الخاطئة لنصوص العهد القديم. "سمعتم أنه قيل"، أي التفسير الخاطيء لنصوص العهد القديم، في مقابلة "أما أنا فأقول"، أي التفسير الصحيح لتلك النصوص. إن هذا وحده يبرز إيمان المسيح بوضوح الكتب المقدسة، وإمكانية الوصول للتفسير الصحيح بل وضرورته. وليس مثل الصورة القاتمة التي يرسمها أولئك بادعائهم الخفي بغموض الكتاب واستحالة الاتفاق على تفسيره.

– بالإضافة إلى كل ما سبق، فإن ما دونه الأنبياء في العهد القديم، والرسل في العهد الجديد، هو أحداث التاريخ الفدائي. وينبغي أن نلحط ان الأنبياء والرسل في تدوينهم لتلك الأحداث، لم يكن لديهم حرية اختلاق تفاسير أو معانٍ لتعاملات الله الفدائية مع شعبه أو لأحداث ذلك التاريخ. يقول بطرس: "أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص". أي أن الأنبياء (وكذلك الرسل من بعدهم)، عند كتابة الأسفار المقدسة، لم يقوموا بتفسير أحداث التاريخ الفدائي حسب أهوائهم، بل دونوا الإعلان الموضوعي كما هو. هذه السلطة الموضوعية الذاتية للنص، تظل كما هي عند التفسير كما كانت في التدوين. صحيح أنه كان لدى الرسل والأنبياء حرية التعبير، طبقًا لأساليبهم الأدبية، إلا أنه لم يكن لديهم الحرية في تغيير المعنى. الحق لا يحتمل التغيير، سواء عند تدوينه (بواسطة الأنبياء والرسل) أو تفسيره (بواسطتنا).

إن لم يكن هناك متسع لاجتهادات الأنبياء وآرائهم الشخصية في الحق، فكيف يكون لنا نحن؟ إن النبوات التي خطها الأنبياء ليست من تفسير خاص أو اجتهادات تصيب أو تخطيء. وليس لنا أن نقحم التفسيرات التي تحلو لنا على الحق غير المتغير الذي استقبله الأنبياء والرسل.

– لو كانت كل التفاسير صحيحة بنفس القدر، إذًا، يصبح الإنسان هو من يحدد معنى النص، وليس أن السلطة النهائية تكون للنص ذاته. أن تقول أن كل التفسيرات صحيحة، هو أن تقول أن النص لم يعد له أي سلطة على نفسه، بل إن الإنسان هو الذي له تلك السلطة عليه. وذلك يؤدي إلى تقويض السلطة الذاتية للنص.

بعض التحفظات الختامية

صحيح أن الحق ثري وله أبعاد كثيرة، إلا أنه يظل حقًا واحدًا غير قابل للتعددية. وصحيح أيضًا أنه يمكن أن يكون للنص الكتابي الواحد أكثر من تطبيق، إلا أن إلا أن التفسير، أي المعنى المباشر طبقًا للقواعد النحوية والقرينة التاريخية، دائمًا وأبدًا ما يكون واحدًا. وعليه، يظل مبدأ حصرية التفسير الواحد الصحيح مبدءًا ثابتًا.

طبعًا يمكننا أن نختلف على تفسير نصوص كتابية ليست متعلقة بجوهر الإيمان المسيحي ونظل مسيحيين. ومع ذلك يظل أن الإختلاف في تفسير النصوص الكتابية ليس معناه إمكانية التنوع في التفسير. لكن معناه أن هناك تفسير واحد صائب وتفسير آخر خاطيء (أو أكثر).

ختامًا، ومما لا شك فيه، أن الادعاء أعلاه ناتج عن توجه مسكوني، لاطائفي، نتيجته المنطقية أنه لا يوجد حق واحد ثابت. وأنه لا يمكننا أن ندافع عن تعاليم جوهرية مثل الخلاص بالنعمة من خلال الإيمان، وحصرية المسيح. فغالبًا ما يقال هذا الادعاء في سياقات مسكونية عبر طائفية. لكن كما رأينا هناك الكثير جدًا من الأسباب التي تجعلنا نرفض هذا الادعاء.

اجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ ِللهِ مُزَكُى، عَامِلاً لاَ يُخْزَى، مُفَصِّلاً [مفسرًا ومعلمًا] كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَةِ.
(٢ تي ٢ : ١٥)

تعليقات

  1. حمد لله على السلامة.. أتمنى يكون غيابك الفترة اللي فاتت آل ل مجده ول خيرك.

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً لدعمك ومتابعتك أخي كيرلس.
      الرب يباركك.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس