بتاع تنمية بشرية؟




تقدم كلية اللاهوت الرسولية بالإسكندرية كورس تنمية بشرية عن فن اتخاذ القرارات في الحياة، الوصايا العشر للنجاح، والوعي بالذات. ولكن، مثل هذه الدعوة، وما يصاحبها من وعود بالرخاء، بها الكثير من المشاكل اللاهوتية. سأكتفي بالإشارة إلى ثلاثة منها تتعارض وصميم الإيمان المسيحي.

أولاً التنمية البشرية أيديولوجية علمانية ذات طبيعة تفاؤلية حول الإنسان. إن رهبان التنمية البشرية، كما يسمون بالإنجيلزية gurus، يفترضون القدرة في الإنسان على مساعدة ذاته. فغير المسيحي قادر على اتخاذ القرارت المصيرية ومعرفة ذاته وتحقيقها. وهذا عكس التعليم الكتابي بالخطية الأصلية. تنادي عقيدة الخطية الأصلية، كما صاغها المصلحون، بأن كل شيء في الإنسان تأثر بالسقوط، ولا سيما الإرادة والعقل. وتأثير الخطية الأصلية على العقل يسمى بـ "التأثيرات الفكرية للخطية الأصلية". الأيديولوجيات العلمانية، مثل التطور والتنمية البشرية، إلخ، تفترض صعود الإنسان من حالة سفلى إلى حالة عليا. بينما يعلم الكتاب المقدس بسقوط الإنسان من حالة الكمال إلى حالة الفساد الجذري.

ثانيًا، التركيز على الذات. إن التنمية البشرية أيديولوجية علمانية تدعو للتمركز حول الذات، مثل تحقيق الذات، والوعي بالذات، وتقدير الذات، وإنجاح الذات، إلخ. لاحظ كيف تقود النظرة التفاؤلية لطبيعة الإنسان إلى التركيز عليه. وهذا بدوره في تعارض مع يعلمه لنا الكتاب المقدس، بأن ننكر أنفسنا ونتمركز حول المسيح. أن نفعل كل شيء لمجد الله. وأن ما لدينا، وما ليس لدينا، جميعًا لمجد الله في المسيح. إن كانت الطبيعة البشرية ملوثة بالخطية الأصلية (كما رأينا في النقطة السابقة)، فمكانها الطبيعي هو الصليب، وليس التنمية. إن المركز وحده فقط من حق المسيح. التركيز على الذات إذًا هو إزاحة للمسيح من المركز وتتويج الذات بدلاً منه.

ثالثًا، التنمية البشرية تقدم نفسها على أنها حكمة بديلة لتغيير الإنسان، وهي بذلك تنافس الكتاب المقدس وتستبدله. لاحظ الدعايا المستخدمة أنها "وصايا عشر للنجاح"، وانها "فن" (أي نوع من الحكمة). إن هناك تغيير تهدف التنمية البشرية لإحداثه. والتغيير، بالنسبة للمسيحي، هو أمر متعلق بالتقديس. وأي تغيير متعلق بالتقديس، مثل الإقلاع عن عادة سيئة، أو أن نصير أشخاص أفضل من الناحية الأدبية، فإن كلمة الله كفؤ له وتكفي من أجله. هذا ما علمه بولس "كل الكتاب هو موحىً به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتأديب والتقويم الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح" (٢ تي ٣ : ١٦ – ١٧).

إن كانت التنمية البشرية تسهم في تغيير المسيحي، أو حتى تساعد الإنسان الخاطيء، إذًأ، فالكتاب المقدس ناقص ويحتاج إلى مادة خارجية لتكمله. أو على أقل تقدير، تكون كتب وكورسات مساعدة الذات موحى بها بقدر الكتاب المقدس. ويصبح بذلك أن المسيحيين طيلة الـ ١٩ قرن الماضية فاتهم الكثير ولم يتغيروا أو يتقدسوا بالقدر الكافي، بما في ذلك الرسل. ذلك لأن علم التنمية البشرية، أو بالحري شبه علم التنمية البشرية، هو مستحدث في القرن العشرين.

هل لاحظت أني وصفت التنمية البشرية في السطور السابقة بأنها "شبه علم"؟ إن هذا ما يراه أيضًا أستاذ علم النفس بجامعة سان فرانسيسكو جيم تايلور. بل إنه يصفها بما هو أقسى من ذلك: "غشًا". وربما لو كان قد انتبه أنصار التنمية البشرية من المسيحيين إلى النقد الموجه لها من العلمانيين لما انزلقوا في هذا الفخ.

بإختصار، يقول تايلور، في مقال له نُشر على موقع الطب النفسي psychologytoda.com بعنوان "التنمية البشرية: هل صناعة مساعدة الذات غشًا؟"، إن برامج مساعدة الذات self-help، بما تصدره من كتب وكورسات ومحاضرات هي صناعة تُقَدَّرُ بعشرة مليارات دولار في السنة. وهذا الرقم الضخم في حد ذاته يخبرنا أن أحدًا لم يجد بعد طريق التغيير. إن الناس لا يزالوا يبحثون عن التغيير. كتاب تلو الآخر، وكورس يعقبه آخر، والمحاضرة بعد الأخرى، والمزيد والمزيد من المواد التي تعدك بالتغيير الذي لم تستطع أن تحققه لك المواد السابقة. بالمناسبة، إنها ليست برامج مساعدة للذات، بل هي "مساعدة"، لأن هناك آخر يقدم لك المساعدة في كتاب أو محاضرة.

يواصل تايلور نقده اللاذع والقيم للتنمية البشرية بالقول أن هناك العديد جدًا من المقالات التي كُتِبَتْ في نقد الخداع الذي تروج له برامج التنمية البشرية تلك. وخداعها يكمن في تلك الوعود الكاذبة التي تقدمها. ونراه أيضًا في تلك الأسماء العلمية التي تخلعها على المادة التي تقدمها (مثل قانون الجذب الفكري الذي يجعله يبدو وكأنه حقيقة كقانون الجاذبية الأرضية). كتب واسطوانات تعدك بالنجاح والازدهار والتغيير في مقابل القليل من الدولارات. يا لها من صفقة! إن الذين يتم مساعدتهم فقط هم الذين يحققون الأرباح من تلك الصناعة المؤسسة على شبه العلم ذلك!

يضيف تايلور بأن التغيير ليس سرًا يحتاج إلى كل مثل هذه البرامج والكورسات والكتب. إنه بسيط: فأنت تقرر ما تريد تغييره، ثم تبحث عن استراتيجية تُسَهِّلُ لك هذا التغيير، ثم تكرس نفسك لإحداث هذا التغيير. ورغم بساطة ذلك، إلا أنه ليس سهلاً. بل إنه غاية في الصعوبة. ولهذا السبب لا يتغير أغلب الناس. كما أن هذه الصعوبة تفسر لماذا تُقَدَّرُ تلك الصناعة النشطة للتنمية البشرية بالمليارات. لم يُقَدِّمُ أحد بعد لأولئك المليارات من البشر الطريق إلى التغيير. ولو عرف أحدهم الإجابة على سؤال "كيف يتغير الناس" لن يكون هناك صناعة تمنية بشرية بالمليارات، بل سيكون هناك شخص غني واحد فقط.

ويخلص تايلور إلى النتيجة النهائية بعبارته هذه:

" لذلك إذا كنت تبحث عن طريقة سريعة وسهلة للتغيير من أي كتاب مساعدة للذات أو قرص مضغوط أو قرص DVD يعدك بتغيير فوري وبدون مجهود، فضعه مرة أخرى على الرف أو أعده إلى أمازون. يمكنني أن أؤكد لك أنك تضيع أموالك ووقتك".

إن كان تايلور، وهو لا يتكلم من منظور مسيحي، يعتقد بفشل التنمية البشرية المتمثلة في برامج مساعدة الذات والنمو الشخصي، فهل لنا نحن المسيحيين الذين لدينا كلمة الله الكاملة، ومعونة الروح القدس العظيمة، أن نستبدلهما بالحكمة البشرية التي هي جهالة لدى الله، وبالإرادة البشرية الميتة بالذنوب والخطايا؟

إن التنمية البشرية، كما رأينا، مضادة للحق المسيحي. في كونها تتميز بنظرة تفاؤلية حول طبيعة الإنسان، بينما يعلمنا الحق المسيحي بأننا وارثون للفساد ولا يسكن فينا شيء صالح. وفي كونها تدعو للتمركز حول الذات، في حين تعلم المسيحية بإنكار الذات. وفي كونها تقدم نفسها كحكمة بديلة للكتاب المقدس، في ذات الوقت الذي يشهد فيه الكتاب عن نفسه بأنه فعال بصورة مطلقة ولا يحتاج إلى مصادر خارجية لتكميلنا وتقديسنا. فكيف يمكن تزويج هذه الإفتراضات المضادة للحق الكتابي بما يعلمه الكتاب المقدس؟ إن أحد الثمار الناتجة عن تزويج الحق الكتابي النقي بحثالة التنمية البشرية هو إنجيل الرخاء!

وقد يظل سؤالاً عالقًا، إن كانت التنمية البشرية لا تغيرنا، فما الذي يمكنه ذلك إذًا؟ إن الله عَيَّنَ أن نتغير وننمو كمسيحيين من خلال ممارسة وسائط النعمة المعتادة، الصلاة، قراءة ودراسة الكلمة، شركة القديسين، ممارسة الفرائض، العبادة، والتلمذة. فيما عدا ذلك، لا يوجد أية تنمية أدبية للإنسان.

“Personal Growth: Is the Self-Help Industrya Fraud?” 2011. Psychology Today. 2011.https://www.psychologytoday.com/us/blog/the-power-prime/201104/personal-growth-is-the-self-help-industry-fraud.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس