موت الله بين عبثية سليمان وعدمية نيتشه


يقول سليمان "ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما"، كان له الخيل والأموال والنساء والحكمة والسلطان، إلا أنه صرح أخيرا "ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح.. فكرهت الحياة لأنه رديء عندي العمل الذي عمل تحت الشمس لأن الكل باطل وقبض الريح". رأي الحياة كحلقة مفرغة لا نهاية ولا هدف ولا ملأ لها، فالأذن لا تمتلئ سمعا والعين لا تشبع نظرا، والأنهار تجري إلي البحر لتصب فيه، والبحر ليس بملآن، إلي المكان الذي جرت منه الأنهار إلي هناك تذهب راجعة. ولم تكن هذه النظرة نتاج فكر نظري مجرد بل ثمرة واقعه الشخصي الذي عاشه طيلة سنين عديدة ونظره المحصور في الأمور التي "تحت الشمس" فقط، وهو منظور أفقي للحياة يخلو من البعد الروحي تماما. فصارت الحياة له عبثية ولا معني لها أكثر من المعني الذي تراه البهيمة، حيث أن حادثة واحدة تحدث لكليهما في النهاية ألا وهي الموت "فليس للإنسان مزية علي البهيمة لأن كليهما باطل". 

ونيتشه (وهو فيلسوف ملحد من فلاسفة التنوير) قال أن "الله مات"، وبموت الله – بحسب نيتشه – ماتت الخطية والخطاة وكل القيم ومعني الحياة. وأصبح العالم المادي من حولنا هو كل ما هو موجود، فالمادة في صورة حركة، والحياة تدور في دورات، ولا يوجد فردوس أو جحيم بل إن المصير يصنعه الإنسان لنفسه علي الأرض، إذ أن الحياة الفردية هي المعيار ، وعلي ذلك فالعالم حقيقة والله وهم. وبما أنه لا وجود لله إذا فالحياة بلا معني أو هدف، وأنها سخافة ينبغي أن نقبلها ونتعايش معها كما هي. فكانت النتيجة أنه سخر من القيم المسيحية مثل المحبة والنعمة والتواضع والعدل واعتبر الثقافة الغربية منحطة لإعتناقها هذه القيم، وتشكك في القيمة العامة بأن أحدنا لا ينبغي أن يضير الآخر.

علي الرغم من كون الأول مؤمنا بالله والثاني ملحدا عدميا إلا أن هناك نقطة مشتركة في فلسفتي كل منهما للحياة ، أنهما نظرا إلي الحياة أفقيا وليس رأسيا، حصرها سليمان في كل ما يوجد تحت الشمس، ونيتشه أيضا رأي أن العالم المادي هو كل ما هو موجود. ومع أن سليمان لم ينادي لفظيا بموت الله ومن ثم موت القيم الأخلاقية كما فعل نيتشه إلا أنه (أي سليمان) سلك من هذا المنطلق، فلم يعمل أي حساب لخالق يحبه أو لديان سيحاسب أمامه في النهاية، فأطلق العنان لشهواته. ومع كون نيتشه لم يحظي بنفس الإختبار النوعي والكمي للمتع الدنيوية التي اختبرها سليمان، إلا أنه وافق سليمان في ما قاله بخصوص الطبيعة الدورية الفارغة للحياة، ومن ثم فهي باطل الأباطيل وقبض الريح بالنسبة لسليمان، وهي أيضا بلا معني أو هدف أو قيمة بالنسبة لنيتشه. كره سليمان الحياة التي انغمس في ملذاتها، ورآها نيتشه سخافة لا معني لها ينبغي لنا أن نقبلها كما هي ونتعايش معها.

وبناء علي ما سبق ليس بالضرورة أن يكون الإعتراف بموت الله صريح كما نيتشه، بل هناك اعتراف قلبي خفي ينعكس علي السلوك مثلما فعل سليمان. وما أكثر الذين يعيشون حياة سليمان اليوم حيث يكون لهم الإيمان الظاهري والإعتراف الشفهي بالله إلا أنهم يحيون حياة سمتها الموت، موت الله (في قلوبهم) ومن ثم موتهم عنه وحياتهم للعالم ومتعه، وانحصار بصرهم أفقيا في الأرضيات وعدم التطلع فوق رؤوسهم حيث يأتي كل معني. وما إن أحضر سليمان الله إلي معادلته الروحية الوجودية حتي أدرك أنه في حاجة إلي التقوي ومخافة الله "فلنسمع ختام الأمر كله: اتق الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله". أما نيتشه فقد مات علي إلحاده وجن جنونه طيلة الإحدي عشر سنة الأخيرة من حياته. كما أن الكتاب المقدس يعلمنا أن انكار الملحد لوجود الله يكون علي مستوي الشفاة فقط حيث أن بولس يقول "أن معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم"، وإلا لما استطاع الله دينونة من ينكروه لأنهم سيتذرعون بعدم رؤيته. ، ضف إلي ذلك فإن كان الله غير موجود فكيف يقاوم الملحد من لا وجود له؟ وبهذا يتساوي سليمان مع نيتشه في كون كلاهما كاذبا!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس