هل اتخذ المسيح طبيعة بشرية فاسدة؟


يبدو أن الاعتقاد بأن يسوع اتخذ طبيعة بشرية فاسدة أو ملوثة بالخطية اعتقادًا منتشرًا إلى حدٍ ما. فنجده مثلاً، وإن لم يكن بصفة ‏رسمية، لدى بعض الكاثوليك واللوثريون، ولدى الأرثوذكسية الشرقية بصفة خاصة. ولسنا هند بصدد تقديم تأريخ لهذا التعليم لكن لابد ‏من الإشارة إلى أنه في الفترة الحديثة علّم به كارل بارت ورَوَّج له توماس تورانس. كلاهما علّم بأن المسيح اتخذ طبيعة بشرية ساقطة، ‏وإن لم يخطيء فعليًا. ‏

وهذا السؤال مرتبط تمام الإرتباط بسؤال آخر حول بشرية المسيح: هل كان من الممكن أن يسقط المسيح في الخطية؟ أجبت بالنفي عن ‏هذا السؤال الأخير في مقالين آخرين وسأكتفي هنا بالتركيز على مسألة ما إذا كان قد اتخذ المسيح فعلاً طبيعة بشرية فاسدة. إلا أن واحدًا من أوجه الارتباط بين السؤالين هو أن ‏الادعاء باتخاذ يسوع طبيعة بشرية ساقطة يفترض أنه كان قابلاً للخطأ أيضًا. ‏

وجه آخر من أوجه الارتباط بين السؤالين هو أن كلاهما يهدفان إلى التأكيد على بشرية المسيح وأنه شابهنا في كل شيء. إلا أن السؤال حول ما إذا ‏كان المسيح قد اتخذ جسدًا فاسدًا (طبيعة ساقطة) يهدف إلى أمر آخر غير قويم؛ اعطاء التجسد مكانة مركزية من خلال نسبة قيمة ‏كفارية له، وذلك بغرض الإقلال من شأن الكفارة العقابية للصليب. بكلمات أخرى، فإن من يعلّمون بأن المسيح اتخذ طبيعة بشرية ملوثة ‏بالخطية (دون أن يخطيء) يقولون أيضًا أن المسيح اتخذ تلك الطبيعة الفاسدة لكي ينتصر على الفساد الذي فيها من خلال طاعته وبره، ‏بحيث أن الصليب هو ذروة تلك الطاعة وليس مركزها، وبهذا تكون الطبيعة البشرية قد شُفِيَت من فسادها. ‏

ت. ف. تورانس

قبل أن أقوم بتفنيد الخطأ الجسيم بأن المسيح اتخذ طبيعة بشرية ساقطة، أود أن أستعرض فكر تورانس حول هذا الأمر. لن يكون هذا بأي حال من الأحوال تحليل شامل أو حصر لما علّم به تورانس بخصوص هذا الأمر لكن مجرد فكرة عامة عنه. سأستعمل أيضًا هذه المصطلحات: طبيعة فاسدة، طبيعة ساقطة، بشرية ملوثة، جسد فاسد، بشرية خاطئة، كمترادفات.

لا يوجد من يلخص لنا فكر تورانس أفضل من اللاهوتي روبرت ت. واكر، فهو ابن اخته، وتلميذه، ومن قام بتحرير كتاب "التجسد: شخص وحياة يسوع" لـ تورانس. يقول واكر في مقدمة كتاب "التجسد":

"قَدَّسَ يسوع الجسد الساقط – إذ اتخذ لنفسه جسدنا الساقط، وعلى قدر ما كان هذا الجسد ساقطًا، إلا أن يسوع لم يخطيء، بل قَدَّسَ بشريتنا الساقطة. لقد اتخذ آدم الثاني لنفسه بشرية آدمية ساقطة، ولكن بحياته الطائعة في تلك البشرية الخاطئة أبطل خطيتها وأعادها إلى الشركة مع الله. يرى تورانس أن الحياة البشرية ليسوع هي حياة يصارع فيها ذات الطبيعة البشرية الساقطة التي اتخذها لذاته لكي يعيدها إلى طاعة ومحبة الله. عائشًا في الطبيعة البشرية الخاطئة، يصارع يسوع معها في ‘بكاء شديد ودموع’ ومن خلال حياة صلاته وطاعته المستمرة للآب يرد تلك الطبيعة إليه مرة أخرى. نما يسوع في حكمة الله ومعرفته، مستبدلاً عصيان آدم بحياته البشرية ذات البر الكامل. وفي حياة تَوَحُّد متزايد مع الخطاة، يدخل يسوع أكثر فأكثر في حالتهم، آخذًا خطاياهم ومرضهم على عاتقه لكي يبطلها بنقائه مقدمًا في المقابل حياته وبره".

النتيجة المنطقية لذلك هي أن التجسد يصبح مركز الكفارة، والصليب هو النتيجة الطبيعة لها أو ذروتها أو كمالتها. بحيث أن قلب الحدث الكفاري يصبح حياة المسيح وليس موته. وهذا ما خلص إليه واكر أيضًا حول فكر توارنس:

"اتخذ يسوع جسدًا ساقطًا ولكنه لم يخطئ، وهذا لا يمكن أن يُفهم إلا بشكل ديناميكي – أي من خلال ذات مصارعة يسوع مع الجسد الساقط الذي اتخذه حتى يقدسه. إن حياة يسوع بأكملها هي حياة ديناميكية في المصارعة [مع الطبيعة الفاسدة التي اتخذها]، وتَعَلُّم الطاعة، والتوحد [التضامن] علانية مع الخطاة في المعمودية، ولكن أيضًا في نموه في البر والشركة الحميمة مع الآب. في وسط توحده المتزايد مع الخطاة، الذي بلغ ذروته على الصليب، يصوغ يسوع حياة من البر البشري الكامل وهذا البر البشري الإيجابي هو الذي يكمن في قلب عقيدة تبريرنا والاتحاد به من خلال الروح".

ولدينا هنا مجموعة من الاعتراضات على فكر تورانس. أن المسيح اتخذ الفساد طبيعة له. وأن الخطية طبيعة تحتاج لشفاء أكثر من كونها ذنبًا يحتاج للكفارة العقابية. وأن حياة المسيح هي مركز الكفارة. سنركز على الادعاء بأن المسيح اتخذ جسدًا ساقطًا. إذ بإنهيار هذا الادعاء يسقط هذا النظام اللاهوتي بأكمله. لكن ثمة تحفظ هام حول اعتراضنا على اعطاء المركزية لحياة المسيح وجعلها قلب الكفارة مع تهميش أو إقصاء الصليب، وليس أن كلاهما قلب الكفارة معًا. لا مشكلة لدينا هنا على الاطلاق مع نسبة قيمة كفارية عظمى للتجسد. على العكس، فإنه يفوتنا جزءًا خطيرًا من كفارة المسيح إن أنكرنا أن للتجسد جانب مركزي في الكفارة. هذا الجانب الكفاري للتجسد يتمثل في اتضاع المسيح وولادته تحت الناموس وطاعته الإيجابية. إلا أنه شتان الفرق بين أن ننسب قيمة كفارية للتجسد، كما نجد في تعليم اللاهوت المصلح عن الطاعة الإيجابية، وبين اعطاء تلك القيمة للتجسد على حساب الكفارة العقابية في الصليب.

والآن، ما الأسباب اللاهوتية والكتابية على خطأ الاعتقاد بأن المسيح اتخذ طبيعة بشرية ساقطة لكي يقدسها من خلال طاعته وبره وصراعه معها؟

الادعاء باتخاذ المسيح لطبيعة بشرية فاسدة مؤسس على نظرة مجتزئة للخطية

أكد تورانس مرارًا وتكراراً أنه رغم اتخاذ المسيح بشرية ساقطة، إلا أنه لم يخطيء إطلاقًا. لكن هذا الادعاء اختزالي ويفترض نظرة مجتزئة للخطية. فهو يرى الفعل فقط هو الآثم وليس الطبيعة الساقطة التي تنتجه أيضًا. إن بولس يتكلم عن الخطية باعتبارها طبيعة فاسدة "الخطية الساكنة فيّ" (رو ٧ : ١٧ ، ٢٠).

وهناك ارتباط وثيق بين طبيعة الخطأ (الفساد)، وبين الخطأ نفسه (الذنب) على الأقل من ثلاثة أوجه:

لا يوجد فساد بدون فعل خاطي، ولا يوجد فعل خاطيء بدون فساد.
الله يكره الطبيعة الشريرة ويدينها بقدر كراهيته للفعل الشرير.
الفساد يأتينا كدينونة على الرغبة في الخطأ.

بالنسبة للأول، لا يوجد شخص له طبيعة فاسدة إلا ويخطيء. ولا يوجد خاطيء ليس له طبيعة فاسدة. الخطية إذًا تلوث وذنب معًا. طبيعة وفعل. أصل وثمار. الشجرة الفاسدة لابد وأن تثمر ثمارًا فاسدة مثلها. تطبيقًا لذلك، أن تقول أن المسيح اتخذ طبيعة فاسدة، هو أن تقول أن وقوعه في الخطأ كان محتومًا (مت ١٢ : ٣٣). وهذا ضد الحق الكتابي عن المسيح جملة وتفصيلاً.

وفيما يتعلق بالثاني، إن الله لا يسر بالفعل الفاسد بقدر ما لا يسر بالطبيعة التي تنتجه. ودينونة الله هي على كل من الطبيعة الخاطئة وعلى فعل الخطأ نفسه. بكلمات أخرى إن الطبيعة الفاسدة في حد ذاتها ذنب تستوجب الدينونة. يقول إقرار الإيمان البلجيكي:

"نؤمن بأنه من خلال عصيان آدم امتدت الخطية الأصليَّة إلى كل الجنس البشري، وهي فسادٌ للطبيعة بأكملها، ومرض وراثي، يُصاب به الأطفال حتى وهم داخل رحم أمهاتهم، وهي تُنتِج من داخل الإنسان كافة أنواع الخطايا، إذ هي بداخله مثل أصل يثمرها؛ ومن ثمَّ فهي نجسة وكريهة في عيني الله حتى أنها كافية لإدانة كل الجنس البشري".

لاحظ أن إقرار الإيمان البلجيكي يتحدث عن الخطية الأصلية، أي عن فساد الطبيعة البشرية، في كونها في حد ذاتها "نجسة وكريهة في عيني الله". إقرار إيمان ويستمينستر بدوره يؤكد نفس الأمر:

"كل خطية، كِلا الأصليّة والفعليّة، كونها تعدِّيًا على الناموس البار لله، وضده، تجلب، في ذات طبيعتها، الذنب على الخاطئ، وبها يقع تحت غضب الله، ولعنة الناموس، وهكذا يصير خاضعا للموت، بكل المآسي الروحيّة، والزمنيّة، والأبديّة".

إقرار الإيمان المعمداني لعام ١٦٨٩ يؤكد نفس الحق أيضًا:

"ومع ذلك، فإن فساد الطبيعة هذا وكل الأفعال الناشئة عنه هي خطية فعلية وحقيقية".

إن الله لا يحكم بالدينونة على الثمار فقط دون أن يحكم على الأصل الذي يثمرها أيضًا بنفس الحكم (مت ٣ : ١٠، ١٢ : ٣٣). يقول سبرول "إن الله لا يرسل الخطية إلى الجحيم بل الخاطيء". وهذا يعني أن الله يدين كل من طبيعة الخطية وفعل الخطية كلاهما.

تطبيقًا لذلك، أن تقول أن المسيح اتخذ طبيعة فاسدة، حتى ولو لم يخطيء، هو أن تقول أن المسيح كان تحت الدينونة بالفعل. كيف يمكن أن يكون المسيح تحت الدينونة بسبب طبيعته الفاسدة، بينما يصلح كمخلص لتحمل الدينونة عنا؟

فضلاً عن ذلك، كيف للمسيح أن يكون قد اتخذ بشرية ملوثة بالفساد بينما هو نفسه، طبيعةً وفعلاً، كان موضوع مسرة الآب؟ إن الطبيعة الإلهية نفسها ما كانت ستتحد بطبيعة فاسدة. كيف يمكن أن يجتمع في شخص المسيح الواحد طبيعة إلهية قدوسة، وطبيعة بشرية فاسدة تحت دينونة الله حتى ولو لم تخطيء بالفعل؟ إن الاتحاد الهيبوستاتي يجعل فكرة فساد الطبيعة البشرية ليسوع أمرًا مستحيلاً.

بالنسبة للثالث، فإن آدم صار فاسدًا، ونسله من بعده، كدينونة على تمرده على الله. أي أن الفساد الذي حل بآدم لم يكن فقط نتيجة طبيعية لفعلته المشينة، بل حكم الله عليه بأنه أسلمه إلى الفساد الذي أراده. إن الفساد يصيب الطبيعة البشرية كدينونة من الله على محبة الإنسان للإثم. آدم فسد لأن الله أسلمه إلى اختياره بالتمرد عليه. وفي رومية ١ غضب الله المُعْلَن هو أنه أسلم الأشرار إلى رغبتهم في الفساد. أن تقول إذًا أن المسيح كان به فسادًا هو أن تقول أنه أراد الفساد وأسلمه الله إلى هذا الاختيار.

الادعاء باتخاذ يسوع لبشرية ملوثة بالفساد مؤسس على افتراض خاطيء حول مشابهته لنا في كل شيء

أصحاب الادعاء بأنه كان لابد للمسيح من اتخاذ طبيعة بشرية ساقطة حتى يكون مشابهًا لنا في كل الشيء، جعلوه فعلاً كذلك للدرجة التي أصبح هو أيضًا يشبهنا في احتياجه لمن يخلصه من الفساد. بكلمات أخرى، لقد تطرف بهم الحال في جعل يسوع مشابهًا لنا في كل شيء حتى فقد المسيح الشيء الوحيد الذي يميز طبيعته البشرية عن بشريتنا: نقاوته.

يحتج تورانس ومن يسيرون على منهجه بنصوص مثل "من ثم كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء" (عب ٢ : ١٧). ويعتبرون قول جريجوريوس النزينزي: "ما لم يتخذه لم يشفه" أمرًا حاسمًا في هذا الأمر. إلا أن الاعتقاد بأنه كان لابد للمسيح أن يتخذ طبيعة فاسدة لكي يشابهنا في كل شيء، يفترض أن الفساد لصيق بالطبيعة البشرية. وهذا غير صحيح. فآدم كان بشرًا بالحق قبل سقوطه. المؤمنين أيضًا سيظلوا بشر بالحق بعد فداء أجسادهم. لهذا لم يكن من الضروري أن يتخذ المسيح جسدًا فاسدًا لكي يشفه. لقد كان من الضروري أن يكون إنسان حق، لا أن يكون وارثًا للفساد. لزم أن يكون آدم جديد لا أن يكون من نسل آدم الساقط. رأس عهدي جديد نقي يمثل نسله الروحي بنقاوته أمام الله.

إن المسيح مشابه لنا في أن له روح وجسد بشريين. ومشابه لنا في محدوديتنا وفي ضعفات بشريتنا. لكنه لم يحتاج أن يتخذ الفساد، لأنه حينها سيكون مشابهًا لنا أيضًا في حاجته إلى آدم جديد أو مخلص من الفساد. تقول اعترافات الإيمان المصلحة:

"آخذًا صورَةَ عَبدٍ، صائرًا في شِبهِ النّاسِ، متخذًا بالحقيقة الطبيعة البشريَّة، بكل ضعفاتها، ما خلا الخطية" (إقرار الإيمان البلجيكي).
"ابن الله، الأقنوم الثاني في الثالوث، الكائن إلهًا حقًا وسرمديًّا، من جوهرٍ واحدٍ ومتساوٍ مع الآب، لما جاء ملء الزمان، اتخذ لنفسه طبيعة الإنسان، بكل صفاتها الجوهريّة، وضعفاتها المشتركة، لكن بدون خطية" (إقرار إيمان ويستمينستر).
"لما جاء ملء الزمان، اتخذ طبيعة بشرية، بكل خصائصها الأساسية ونقاط الضعف المشتركة فيها، ولكن بدون خطيئة" (إقرار الإيمان المعمداني)

ما لم يتخذه لم يشفه لا تعني أنه اتخذ الفساد بالضرورة، بل اتخذ الطبيعة البشرية، بكل جوانبها؛ الروح والجسد، وبكل بضعفاتها، مخضعًا نفسه لعواقب الفساد، دون أن يتخذ الفساد نفسه.

الادعاء باتخاذ المسيح لبشرية ملوثة بالفساد يعني عدم أهليته كمخلص

ذكرنا سابقًا أن أصحاب الادعاء بأن يسوع اتخذ جسدًا ساقطًا لكي يكون مشابهًا لنا في كل شيء جعلوه مشابهًا لنا حتى في حاجته إلى من يخلصه هو. طبعًا هم لا يقولون ذلك صراحة، ولكن هذا لا ينفي أنها نتيجة منطقية ضرورية لما يدعونه. بالإضافة إلى ذلك، فإن أصحاب الادعاء بأن المسيح كانت له طبيعة فاسدة، يفترضون أنه من الممكن أن تكون له طبيعة فاسدة بدون الخضوع للفساد. فكيف تكون فاسدة إذًا؟ أن تقول أن طبيعة يسوع كانت فاسدة أو ساقطة هو أن تقول أنه كان مستعبدًا للفساد.

تخيل أن يكون الطبيب نفسه مصابًا بنفس المرض الذي أعجز مرضاه. إننا ننتحدث هنا عن طبيبًا ومرضى جميعهم عاجزون. ما يستطيع الطبيب، المصاب بنفس المرض المُعْجِز، فعله، هو أن يتعاطف مع مرضاه فقط. إن هذا بالضبط ما يدعيه تورانس ومن يسيرون على منهجه. لو كان المسيح قد اتخذ طبيعة فاسدة، فهذا يعني أنه عبد للفساد، وخاضعًا له، وكل من عاطفته وفكره وإرادته وجسده جميعًا مستعبدة لهذا الفساد.

يصور الكتاب المقدس الخاطيء على أنه عبد للفساد. يقول بطرس "وهم أنفسهم عبيد للفساد، لأن ما انغلب منه أحد، فهو مستعبد له أيضًا" (٢ بط ٢ : ١٩). إن بطرس هنا يردد ما قاله معلمه من قبله: "كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية" (يو ٨ : ٣٤). وهذا لا يعني فقط أنه طالما لم يقترف الإنسان أية خطية إذًا فهو ليس عبد للخطية. بل تعني أيضًا أن كل عبد للفساد سيثمر فسادًا. كل من يعمل الخطية هو عبد للفساد. وكل من له طبيعة بشرية فاسدة أو عبد للفساد حتمًا سيخطيء. الشجرة الفاسدة لا يمكن إلا وأن تنبع فسادًا: "اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدًا أو اجعلوا الشجرة ردية وثمرها رديًا" (مت ١٢ : ٣٣).

والعبودية ليست هي الصورة الوحيدة التي يرسمها الكتاب المقدس للحقيقة الروحية للخاطيء. فهو ميت روحيًا أيضًا. والخاطيء ليس فقط ميت لأنه يفعل الخطية، بل لأنه أساسًا ميت روحيًا فهو يفعل الخطية. أي أن الأفعال الخارجية دليلاً على الموت الداخلي، كما أن الموت الداخلي لابد وأن يظهر نفسه في الشرور التي تخرج منه إلى العالم الخارجي. إن الموت والفساد من منظور ما مترادفان. أن يكون الإنسان فاسد هو أن يكون ميت روحيًا لذلك يعمل الذنوب والخطايا. وبتطبيق هذا الأمر على المسيح أيضًا يثور السؤال: إن كان المسيح اتخذ طبيعة فاسدة روحيًا، أي مائتة، كيف يمكن للميت أن يعين المائتون؟ أليس الميت روحيًا هو ذاته تحت الدينونة لطبيعته الفاسدة؟

إلا إن تورانس يقول أن المسيح انتصر على فساد طبيعته البشرية من خلال صراعه معها وطاعته للبر. لكن، في ضوء أن الفساد عبودية، ليس هناك اختيار أمامنا سوى القول أن المسيح قد انتصر على هذا الفساد بألوهيته، طالمًا أن الطبيعة البشرية فاسدة ومنهزمة تحت الفساد. وهذه هي النتيجة الحتمية الوحيدة المتروكة لنا طبقًا لهذه المنظومة العقيدية. الأمر الذي يقود بالضرورة إلى تشوه الكفارة. فالطبيعة البشرية نفسها لم تكن قادرة في حد ذاتها على مواجهة الخطية إذا كانت خاضعة للفساد. وهذا يعني أن بشريته أخفقت في الطاعة. وأن الطبيعة الإلهية هي التي نجحت، من خلف الستار، في الإنتصار على الفساد والصراعات التي واجهها المسيح.

وهذا بدوره يثير السؤال المنطقي والضروري؛ ما فائدة الطبيعة البشرية إذًا؟ ما من أحد يشك أن الطبيعة الإلهية قادرة على سحق الشر. لكن جوهر التجسد هو أن تنتصر الطبيعة البشرية ذاتها على الشر، دون معونة من الطبيعة الإلهية، وإن كان من جُرب هو شخص المسيح الواحد الذي لم ينفصل لاهوته عن ناسوته لحظة واحدة (الإتحاد الهيبوستاتي). إن هذا الحل، بأن ألوهية يسوع هي التي انتصرت على الخطية، يقترب من كل من الدوسيتية (يسوع لم يكن بشر حقيقي)، والأبولينارية (البشرية اِبْتُلِعَتْ بواسطة الألوهية)، طالما في النهاية أنه لا نفع من الطبيعة البشرية.

الادعاء باتخاذ المسيح لبشرية ساقطة يعني أنه لم يكن له سلطان على حياته

إن موت الإنسان يعني أنه مدين بحياته إلى الله ومن ثم فهو بلا سلطان عليها. والموت هو ذروة الفساد. الإنسان الفاسد ميت في الروح. وجسده أيضًا، وإن كان به شكل من الحياة، فهو مائت، أي يعمل فيه الموت شيئًا فشيئًا. لهذا يستعمل بولس كل من الفساد والموت كمترادفان: "لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت" (١ كو ١٥ : ٥٣ – ٥٤). كما أنه يشير هنا إلى كون الموت عملية مستمرة. فهو مائت بالفعل وإن لم تصل عملية الموت إلى ذروتها بعد. وهذا بالمناسبة يفسر كيف حلت دينونة الله على آدم بمجرد أكله من الثمرة المحرمة، إذ انفصلت روحه عن الله وطرد من الجنة وأصبح جسده مائتًا يعمل فيه الموت.

تطبيقًا لذلك، إن كان المسيح قد اتخذ بشرية ساقطة، فهذا يعني أن الموت يعمل فيه بالطبيعة. فكونه له طبيعة فاسدة يعني أنه خاضع لحكم الموت بالفعل بسبب ذلك الفساد. وإن كان خاضعًا لحكم الموت بالفعل فهذا معناه أنه ليس له السلطان أو الحق على حياته لكي يضعها من أجل الخطاة. بل يصبح هو شخصيًا في حاجة إلى بديل بار عنه. يقول المسيح: "ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا. هذه الوصية قبلتها من أبي" (يو ١٠ : ١٨). لقد كان للرب يسوع المسيح سلطان مطلق على حياته لأنه كان خاليًا من الفساد. لم يكن موته شيء سيحدث له بالطبيعة بسبب بشريته الطاهرة. بل كان استثناء وخضوعًا من طرفه للموت. لهذا نقرأ أنه أسلم روحه لله ولم تؤخذ منه "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي. ولما قال هذا أسلم الروح" (لو ٢٣ : ٤٦).

الادعاء باتخاذ يسوع لبشرية ملوثة لا يجعل هناك حاجة للميلاد العذراوي

الإنسان يرث الفساد من أبويه (أنظر مقال: "البراهين على الخطية الأصلية). وبميلاد المسيح من عذراء تم تعطيل الطريقة التي يتوارث بها الفساد عبر الأجيال. لهذا يربط جبرائيل بين الحبل المعجزي ليسوع وبين كونه قدوسًا "الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك القدوس المولود منكي يدعى ابن الله" (لو ١ : ٣٥).

أن تقول أن يسوع اتخذ جسدًا ساقطًا هو أن تقول أنه وارثًا للفساد. وحينها يصبح الميلاد العذراوي إضافة لا قيمة لها للاتحاد الهيبوستاتي. يصبح اتهام العلمانيون بأن الميلاد العذراوي مستوحى من القصص الوثنية اتهامًا ذو ثقل. ذلك لأنه تم تفكيكه من "حدث المسيح" الواحد المترابط في الحبل به وحياته وموته وقيامته. إن تورانس هنا يناقض منهجه الذي يدعي أنه ينظر إلى المسيح نظرة متكاملة بدءًا من مولده ثم حياته وموته وقيامته وصعوده. إذ بالادعاء بأن المسيح وارثًا للفساد أصبح الميلاد العذراوي غير ذي معنى وغير مرتبط بفداء المسيح. إن ميلاد المسيح من عذراء لم يعرفها رجل يفترض مسبقًا، بل ويثبت، كل من الخطية الأصلية للبشر، وفي نفس الوقت نقاوة طبيعة المسيح من كل فساد موروث.

الادعاء باتخاذ المسيح لجسد ساقط يعني تجريده من وظيفته كرئيس كهنة

أن تقول أن المسيح كان وراثًا للفساد، هو أن تقول أن عقله وعاطفته وإرادته تأثروا جذريًا بهذا الفساد. لكن، على عكس ما يدعيه هذا المنهج تمامًا أنه كان لابد أن يتخذ المسيح الفساد لكي يشاركنا آلامنا، نقول أنه كان من الضروري أن تكون بشريته بلا شائبة حتى يستطيع ممارسة وظيفته الكهنوتية. كيف كان سيدرك المسيح مدى تشوه الإنسان ويشعر بآلامه إن كانت قدراته على الشعور والإدراك هي ذاتها مشوهة بالفساد؟ يعلّم اللاهوت المصلح بأن الخطية الأصلية أصابت الإنسان في فكره أيضًا، وهو ما يُعرف بـ "التأثيرات الفكرية للخطية الأصلية". إن كل تشوه فكري لدى الإنسان سببه الفساد الموروث. وعليه، فإن كان الطبيب نفسه يعاني من الخَرَف Dementia كيف سيتواصل مع مريضه ويدرك حالته ويقيمها؟ إن الطبيب في حاجة ماسة أن تكون كل قواه البشرية في أفضل حالاتها حتى يعين مريضه!

إن أعظم ما في بشرية المسيح هو أنها كانت غير ملوثة بالفساد الجذري. كانت بشرية مرهفة الحس وليست بليدة كبشريتنا. كما أنها كانت تتمتع بالذكاء والحكمة كما خلقهما الله في آدم قبل السقوط. أن تقول أن يسوع كان وارثًا للسقوط هو أن تقول أنه كان محرومًا من تلك القدرات الضرورية جدًا لكي يكون رئيس كهنة قادر أن يعين المجربين. أيهما أجدر بمهمة إعانة المتألم، شخص مرهف الحس، أم شخص بليد الإحساس كأبناء آدم الساقطون؟ شخص حكيم وذكي أم شخص أوهن الفساد عقله؟

نصوص كتابية تثبت نقاوة طبيعة المسيح من الفساد الموروث

هناك الكثير من النصوص الكتابية التي تثبت خلو المسيح من أي فساد ولكن سأكتفي ببعضها:

"الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك القدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو ١ : ٣٥)

أشرنا سابقًا إلى أن هناك علاقة واضحة بين ولادة المسيح من عذراء وبين عدم وراثته للفساد الجذري. إن جبرائيل يربط هنا بين الحبل المعجزي العذاروي للمسيح بواسطة عمل الروح القدس (السبب) وبين كونه قدوسًا (النتيجة) في قوله "لذلك". وهو يتكلم هنا عن طبيعة المولود وليس فقط عن حياته الخالية من الخطية بعد الولادة.

"لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء" (يو ١٤ : ٣٠)

بعض الترجمات أوردت النص السابق "وليس له سلطان عليّ"، "وليس له مطالبة بشيء فيّ". والشيطان له سلطان على الإنسان لكون الإنسان خاضعًا للفساد. إن الكتاب المقدس لا يُعَلِّم بأن الإنسان عبد للشيطان، وإلا لانتفت مسئولية الإنسان لأنه حينها يصبح عبدًا لشيء خارجه. لكن يقول أن الإنسان عبد للخطية، أي للفساد الذي فيه. والشيطان فقط له سلطان على الإنسان من خلال استغلال الفساد الذي في الإنسان. إنه يستغل ذلك الفساد ليخدعه ويغويه. لهذا لم يكن للشيطان أي ثغرة أو سلطان أو قوة على بشرية المسيح.

"أرسل الله ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد" (رو ٨ : ٣)

إن بولس في هذا النص كان حريصًا للغاية للقول أن المسيح اتخذ جسدًا بشريًا، أي ذات طبيعتنا البشرية، ولكن فيما عدا شيئًا واحدًا "الفساد"، لهذا يضيف بولس "شبه جسد الخطية". وكأن بولس يسير على الحبل هنا، من ناحية يريد التأكيد على بشرية يسوع الحق "في الجسد"، وفي نفس الوقت لا يريد أن يُساء فهم ذلك فَيُعْتَقَدُ بأن يسوع اتخذ طبيعة فاسدة فيؤكد أن يسوع اتخذ "شبه جسد الخطية".

"عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح" (١ بط ١ : ١٨ – ١٩)

إن المقارنة هنا هي بين أشياء تفنى أو تفسد، مثل الذهب والفضة، وبين حمل بلا عيب أو دنس، أي بلا فساد. نفس الكلمة التي استعملها بطرس هنا "تفنى" هي التي استعملها بولس في قرينة حديثه عن الجسد الفاسد في (١ كو ١٥ : ٥٣ – ٥٤). لقد حَرَّمَ الرب في العهد القديم تقديم أية ذبيحة بها عيب مثل الأعمى والمكسور والمجروح والبثير والأجرب والأكلف (لا ٢٢ : ١٩ – ٢٥). لهذا يقول الله على فم نبيه ملاخي أنه رَفَضَ الذبائح المعيبة التي قدمها له الإسرائليين معتبرًا إياها شرًا (مل ١ : ٨). كيف يمكن أن يكون يسوع ذبيحة وكفارة عن الخطايا بينما كان به فساد في طبيعته؟ لكن نشكر الله أن يسوع كان حملاً بلا عيب ولا دنس، وأن دمه كان دمًا كريمًا. لهذا قُبلت ذبيحته التي بلا عيب من الله.

"وتعلمون أن ذاك أُظْهِرَ لكي يرفع خطاينا، وليس فيه خطية" (١ يو ٣ : ٥)

فليس فقط أنه "لم يفعل خطية" (١ بط ٢ : ٢٢) بالفكر أو بالقول أو بالفعل، وليس فقط أنه "لم يعرف خطية" (٢ كو ٥ : ٢١)، أي ليس هناك أي نوع من الألفة أو الرغبة بينه وبين الخطية، بل أيضًا "ليس فيه خطية". وهنا الإشارة إلى طبيعته الطاهرة. إن استعرنا لغة بولس في رومية ٧ وقمنا بتطبيقها على قول يوحنا تصبح "ليس هناك خطية ساكنة فيه".

خاتمة

ربما لم يزل هناك سؤالاً عالقًا رغم الحجج السابقة. إن لم يكن قد أخذ المسيح طبيعة فاسدة لينتصر عليها بالبر كما يقول تورانس، فكيف تم الشفاء منها أو الانتصار عليها؟ الحل مع الفساد، يخبرنا بولس، هو صلبه "عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية، كي لا نعود نستعبد أيضًا للخطية" (رو ٦ : ٦). لقد صُلبت طبيعتنا الفاسدة مع المسيح على الصليب. ولكن كيف حدث ذلك؟ من خلال الاحتساب! لقد اِحْتُسِبَتْ طبيعتنا العتيقة في صليب المسيح باعتباره آدم الآخير. لم يكن يسوع في حاجة لأن يتحد بطبيعة بشرية فاسدة، ذلك لأنه اتحد بالفاسدون أنفسهم. فهو نائبًا وبديلاً عنهم، لأنه واحدًا معهم. هناك وحدة عضوية وقانونية بينه وبين قديسيه. كل ما يعمله يكون لحسابهم وبإسمهم.

أخيرًا، وبناء على كل ما سبق، فإن يسوع لم يتخذ بشرية ساقطة أو فاسدة. وإلا لكان هو في حاجة إلى من يخلصه من الفساد لكون الفساد عبودية وموت. ولصار يسوع حملاً معيبًا به فساد لا يمكن أن يقبل الله ذبيحته. ولصار هو نفسه تحت حكم الموت لكون الفساد يعمل فيه مما يعني أن حياته ليست ملكه. ولتشوهت قدراته البشرية بسبب ذلك الفساد الأمر الذي يقوض وظيفته كرئيس كهنة. هذا وبالإضافة إلى كل ما قلناه سابقًا يتأكد لنا أنه لم يكن من الممكن أن يتخذ يسوع بشرية ساقطة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس