البراهين على الخطية الأصلية


الخطية الأصلية تعليمًا جوهريًا في المسيحية. لهذا لا عجب أننا نرى الكثير من الهجوم عليه سواء من خارج المسيحية أو من داخلها بواسطة ذوي الأجندات الليبرالية. لكننا لا نستطيع أن نضحي أو حتى نتهاون قليلاً مع الهجوم على هذا التعليم. إن ما نعتقده عن أنفسنا كبشر يؤثر بصورة جذرية على نظرتنا للنعمة وللكفارة بل ولله نفسه. إن كانت عقيدتنا حول الإنسان (الأنثروبولجي) تتسم بالتفاؤل سيؤدي ذلك حتمًا إلى نظرة دونية للنعمة (سوتيريولوجي). وإن كانت عقديتنا حول الإنسان واقعية، أي لا تغفل البؤس والفساد والألم الذي يعاني منه، فإن هذا سينعكس في صورة نظرة سامية للنعمة. فنحن إذًا في مسيس الحاجة إلى دفاعًا عن هذه العقيدة حتى ولو كان مختصرًا.

وقبل أن نستعرض البراهين على صدق عقيدة الخطية الأصلية علينا أولاً أن نعرّف ما هي. إن الخطية الأصلية تشير إلى وراثتنا لكل من ذنب آدم وطبيعته الفاسدة. يعرّف بيركهوف الخطية الأصلية على أنها:

"بحكم ارتباطهم بآدم، فإن جميع الناس، بعد السقوط، وُلِدُوا في حالة ووضعية خاطئة. هذه الحالة تسمى الخطية الأصلية وهي الجذر الداخلي لجميع الخطايا الفعلية التي تدنس حياة الإنسان. وتحتوي على عنصرين: (١) الذنب الأصلي. هذا يعني أن ذنب خطية آدم يُنسب إلينا. منذ أن أخطأ كممثل لنا، نحن مذنبون فيه. مما يعني أن الحالة التي نولد فيها هي حالة انتهاك متعمد للناموس، وبالتالي فإننا بطبيعتنا خاضعون للعقاب ... (٢) التلوث الأصلي. إن نسل آدم ليس فقط مثقلًا بذنوبه، بل يرثون منه أيضًا تلوثهم الأخلاقي. إنهم ليسوا محرومين من البر الأصلي فحسب، بل لديهم أيضًا رغبة إيجابية متأصلة تجاه الخطية".

سيكون منهجي في هذا المقال هو الاعتماد على الكتاب المقدس وحده (سولا سكريبتورا) كالمصدر التعليمي الوحيد المعصوم. وسأبدأ بالإنسان (الأنثربولوجي) وصولاً إلى كل من النعمة (السوتيريولوجي) والمسيح (الكريستولوجي).

بناء على هذا المنهج، وفي ضوء تعريف الخطية على أنها كل من الذنب والفساد المورثين من آدم، هذه بعض البراهين على صحة الخطية الأصلية:

الخطية الأصلية حقيقة لأن الإنسان يموت

إن أول سبب يتبادر إلى الذهن عند إثبات عقيدة الخطية الأصلية هو الموت. لماذا يموت الإنسان؟ لماذا يموت الرُّضَّع؟ إن العلة في موت الإنسان، كبيرًا كان أم صغيرًا، هو أنه وارثًا لكل من ذنب آدم وفساده. إن هذا يمكن أن يثير شتى أنواع الأسئلة في عقولنا. لكن، ما أريد التركيز عليه هنا هو العلاقة بين الخطية والموت. ربما تقول أن الإنسان يولد بريء، أو صفحة بيضاء، لكنه يخطيء بعد ذلك ولهذا يموت. على فرض أن ذلك صحيح، ماذا عن الأطفال والرُّضَّع؟ لو لم يكن الإنسان وارثًا للفساد، ما كان سيموت الأطفال على الأقل. لهذا يقول بولس في أصحاحه الشهير عن الخطية الأصلية: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع" (رو ٥ : ١٢). يؤكد أيضًا بولس الارتباط الوثيق بين الخطية والموت بقوله: "ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد، ولبس هذا المائت عدم موت، فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة: ابتلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت. أين غلبتك يا هاوية. أما شوكة الموت فهي الخطية. وقوة الخطية هي الناموس" (١ كو ١٥ : ٥٤ – ٥٦). أنظر أيضًا (رو ٦ : ٢٣).

لا يموت سوى الخطاة الوارثون للفساد. لهذا كان موت الرب يسوع المسيح استثناء على القاعدة. لأنه أخذ مكان الخطاة المائتون. إما أن يكون الموت أمرًا دخيلاً بسبب السقوط، أو أنه شيئًا طبيعيًا كان سيحدث بغض النظر عن الخطية. إن الكتاب المقدس يرسم صورة قاتمة جدًا للموت أبعد ما تكون عن أمرًا طبيعيًا: فهو عدو لا يستطيع الإنسان قهره، له سلطان وشوكة وأوبئة (ضربات أو لعنات)، ظُلمة، في حاجة إلى ابادته بواسطة قوة أعظم منه، مرتبط بالصراخ والحزن والوجع، وسَيُطْرَحُ في النهاية في بحيرة النار (إش ٢٥ : ٨، هو ١٣ : ١٤ ، لو ٢٠ : ٣٦، ١ كو ١٥ : ٢٦، ٥٥، ٢ تي ١ : ١٠، عب ٢ : ١٤، رؤ ٢٠ : ١٤، ٢١ : ٤). في ضوء ذلك فقط فإن لموت المسيح وقيامته معنى. لقد تحمل الموت عن الخطاة ليأخذ موتهم. ثم قام من الموت ليعطيهم قيامته.

الخطية الأصلية حقيقة لأننا نرث كيانًا فاسدًا بأكمله

يعترض أحدهم على تعليم الخطية الأصلية بقوله: " بالطبع ‏الخطية لا تورث لأنها ليست كيانًا ماديًا".

من ضمن الأسئلة التي تثار حول عقيدة الخطية الأصلية هو كيف نرثها. إن الإجابة التي أرى أنها مقنعة على هذا السؤال هي أننا نرث كيانًا فاسدًا بأكمله من أبوينا، الروح والجسد معًا Truducianism . وليس أن الله يخلق الروح مباشرة في كل مرة يتكون فيها جنينًا Creationism (بيلاجيوس علّم بأن الله يخلق روح كل إنسان مباشرة). والسبب في اعتقادي بصحة النظرة الأولى، أولاً هو أن الله لا يمكن أن يخلق روحًا فاسدة (ولا يمكن أيضًا أن يعطي الجسد المائت روحًا غير مائتة). وثانيًا هو أن الله استراح من عمله كالخالق في اليوم السابع. وأن أي كائن يأتي إلى الكون، سواء إنسان أو حيوان، يأتي نتيجة التناسل حسب قوانين الطبيعة التي أرساها الخالق في أسبوع الخلق. بناء على السببين السابقين، أن الله لا يمكن أن يخلق روح فاسدة، وأنه توقف عن الخلق المباشر من العدم، فإن الإنسان يرث كيانه الفاسد بأكمله، روحًا وجسدًا، من أبويه.

إن أي مسيحي كتابي لا يمكن أن يعتقد بأن الإنسان يُخلق مباشرة من الله بطبيعة ‏بريئة. فالجنين، أو الطفل، يرث كيانًا فاسدًا بأكمله، جسدًا وروحًا، من أبويه. إن كون الأجساد التي نرثها مائتة يعني أن طبيعتنا الأدبية بدورها ‏مائتة أيضًا. وبالتالي، لا يُعقل أن نرث جسدًا مائتًا وطبيعة أدبية غير مائتة. وإلا ستكون النتيجة أرواحًا غير فاسدة (بريئة) في أجسادٍ فاسدة ‏‏(مائتة)، الأمر الذي ينحدر بك إلى الغنوصية أن المادة شر والروح خير. فضلاً عن ذلك، لماذا يخلق الله طبيعة أدبية بارة بينما يترك ‏الجسد مائتًا؟ هل يعقل أن يخلق الله نفسًا بريئة في جسدٍ مائت فاسد؟ ‏

الخطية الأصلية حقيقة لأن الكتاب يعلّم بأنها تبدأ في الرحم

هناك الكثير من النصوص الكتابية التي تؤكد ذلك. فآدم: "وَلَدَ ولدًا على صورته كشبهه" (تك ٥ : ٣). في العدد السابق لذلك يخبرنا موسى: "خلق الله الإنسان. على شبه الله عمله". قرينة الحديث هنا عن صورة أدبية، وليس عن تشابه جسدي بين آدم ونسله. ثم ليس بعد خلق الإنسان وسقوطه بكثير نقرأ أن الرب رأى "أن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته [صباه]" (تك ٨ : ٢١). وداود الذي كان رجلاً حسب قلب الرب، وصاحب العهد معه بأنه لن يكون هناك نهاية لكرسيه، اعترف قائلاً "بالإثم صورت، بالخطية حبلت بي أمي" (مز ‏‏٥١ : ٥). بل إن البشر جميعًا يشتركون في هذا الأمر طبقًا لداود أيضًا: "زاغ الأشرار من الرحم. ضلوا، من البطن متكلمين كذبًا" (مز ٥٨ : ٣). إن قصة إسرائيل ذاتها هي تأكيدًا لعصيان الإنسان، في صورته الجماعية، على الله: "من البطن سُمِّيت عاصيًا" (إش ٤٨ : ٨). يعلّم بولس أيضًا بأننا "بالطبيعة أبناء الغضب" (أف ٢ : ٣). إن الفساد يبدأ معنا في الأرحام. وهذا يفسر لماذا نجد لدى الأطفال عنادًا وكذبًا وعنفًا.

الخطية الأصلية حقيقة لأن الرب يسوع رسم صورة قاتمة عن طبيعة الإنسان

إن لم تكن الخطية شيء ينبع من داخلنا، فلن يكون هناك سوى خيارًا واحدًا أمامنا: أنها تأتي من الخارج. وهذا ما يقوله العلمانيون. إنها ما حدث لنا ونحن صغار فتسبب في حدوث عقد لدينا (فرويد). أو ما يحدث لنا بسبب ظلم المجتمع المتمثل في احتكار وسائل الإنتاج بواسطة الطبقة الثرية (ماركس). أو بسبب النماذج السيئة. أو أن الخطية ليست خاطئة من الأساس بل هي ‏جزء من عملية التطور، فالإنسان يصعد من حالة سفلى وليس أنه سقط من حالة عليا (داروين). ‏

على خلاف كل هؤلاء جميعًا، قال الرب يسوع المسيح "لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زني، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف" (مت ١٥: ١٩). الكلمة اليونانية المترجمة "تخرج" هي (exerchomai)، وبحسب قاموس BDAG تعني أيضًا "يُولد من الشيء، ينبع منه". وقد جاءت بهذا المعني في قول متي "خرجوا من صلب إبراهيم" (عب ٧ : ٥). أنظر أيضًا نفس المعنى في (تك ٣٥ : ١١، ٢ أخ ٦ : ٩، مت ٢ : ٦).

إن الرب يسوع يقول هنا أن مشكلة الإنسان الأدبية عميقة الجذور فيه ولصيقة به. فليس ما يدخل فم الإنسان ينجسه، بل ما ينشئه قلبه من أفكار شريرة تخرج إلي العالم (المجتمع). إنها تولد أو تنبع من الداخل ثم تخرج إلى الخارج. ليس ما فعله الآخرون نحونا، بل ما فعلناه نحن ضدهم (وضد الله في المقام الأول). لنفس هذا السبب فإن خط سير النعمة يكون في الإتجاه المضاد تمامًا: إنها تأتينا من الخارج إلى الداخل بعمل روح الله وكلمته.

ومفهوم خروج الإثم أو ولادته من القلب (وليس مجيئه من الخارج) كما علّم المسيح، يوجد عبر صفحات الكتاب المقدس:

"حبل شقاوة وولد إثمًا، وبطنه أنشأ غشًا" (أي ١٥ : ٣٥).
"هوذا يمخض بالإثم. حبل تعبًا وولد كذبًا" (مز ٧ : ١٤).
"ليس من يدعو بالعدل، وليس من يحاكم بالحق. يتكلون علي الباطل، ويتكلمون بالكذب. قد حبلوا بتعب وولدوا إثمًا" (إش ٥٩ : ٤).
"ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتًا" (يع ١ : ١٥).

فضلاً عن قول المسيح أن الشر يولد من القلب، ولا يأتينا من الخارج، فقد علّم أيضًا أن الشجرة الجيدة تصنع أثمارًا جيدة، والشجرة الردية تصنع أثمارًا ردية "لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارًا جيدة" (مت ٧ : ١٧). إن الثمار الردية تدل على الأصل الردي الذي جاءت منه. بل إن يسوع يذهب لأبعد من ذلك بقوله أن "كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية" (يو ٨ : ٣٤). علّم يسوع أيضًا بأن الخطية دين (مت ٦ : ١٢)، والخاطيء مدين (اغفر لنا ذنوبنا في الأصل اليوناني "ديوننا"). وهذا يعني أن الإنسان غير قادر على الإيفاء بدينه لكونه عبد للفساد. ضف إلى ذلك تعليم المسيح بحتمية الولادة الجديدة (يو ٣)، الأمر الذي يفترض بدوره فساد الطبيعة البشرية وافتقار الإنسان للقدرة على تخليص نفسه، كما سنرى في النقطة التالية.

أن تنكر الخطية الأصلية، إذًأ، هو أن تكون على خلاف مما علّم به المسيح. هو بمثابة التكذيب له.

الخطية الأصلية حقيقة لهذا نحن في حاجة إلى الولادة الجديدة

إن كان الإنسان يولد فاسدًا مائتًا، فإن طبيعته لا ينفع معها الإصلاح، بل الصلب من ناحية، والخليقة الجديدة من ناحية أخرى. لهذا يعلمنا الكتاب المقدس مرارًا وتكرارًا "إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله ... المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح. لا تتعجب أني قلت لك: ينبغي أن تولدوا من فوق" (يو ٣ : ٧). يوضح يوحنا أن الولادة من الله لازمة للإنتصار على الشر الموجود في داخلنا: "نعلم أن كل من ولد من الله لا يخطيء، بل المولود من الله يحفظ نفسه، والشرير لا يمسه" (١ يو ٥ : ١٨). والولادة الجديدة لازمة أيضًا للإنتصار على الشر الموجود خارجنا: "كل من ولد من الله يغلب العالم" (١ يو ٥ : ٤).

إن سقوط الإنسان تسبب في تشوه خلقته الكاملة التي خلقه الله عليها. هذا السقوط هو بمثابة إفساد للخلق de-creation (كما سنرى بشيء من التفصيل في النقطة الخاصة بـ دراما التاريخ الفدائي). إذًا ليس من الغريب أن يحدثنا الكتاب المقدس عن عمل الله باعتباره ولادة جديدة، وخلق جديد، وإنسان جديد، إلخ. مما يعني أن الأصل القديم فاسد ولا ينفع معه الإصلاح.

الخطية الأصلية حقيقة وإلا لا معنى للميلاد العذراوي للمسيح

الإرتباط بين حقيقتي الخطية الأصلية للبشر والميلاد العذراوي للمسيح وثيق للغاية. فلأن الإنسان وارث للفساد وهو بعد في الرحم، ومن ثم عاجز عن تخليص نفسه، اتخذ المسيح طبيعة بشرية (بلا خطية) وهو بعد في الرحم، لكي يكون مشابهًا لإخوته في كل شيء. لكون الإنسان فاسد بالحق وهو في بطن أمه بعد، جاء الرب يسوع المسيح إنسانًا خاليًا من الخطية (وإلهًا حق أيضًا) منذ أن كان في رحم العذراء، لكي يُخَلِّصُ الإنسان الوارث للفساد. بكلمات أخرى، لكي يخلصنا من الخطية الأصلية، التي نرثها ونحن بعد في الأرحام، اتخذ الابن الأزلي، طبيعة بشرية غير ملوثة، واتَّحَدَ بها، وهو بعد في الرحم. لقد جاء الرب يسوع المسيح من عذراء لم يعرفها رجل ليوقف انتقال الفساد الموروث من خلال التناسل الطبيعي للأبوين. إن هذا يعني أن النفس البشرية لا تُخلق مباشرة بواسطة الله في كل مرة يتكون بها جنين Creationism . وإلا سنصبح أمام معضلة كيف يصبح الحمل العذراوي حينها ضرورة؟ لهذا أنا أرى أنه لا مفر من الاعتقاد بأن الإنسان يرث كل من جسده ونفسه من الأبوين من خلال التناسل الطبيعي Traducianism وليس الخلق المباشر لله.

لهذا يربط لوقا بين الميلاد العذراوي وبين قداسة المسيح في بشارة جبرائيل للعذراء: "الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو ١ : ٣٥).

صحيح أن الميلاد العذراوي ضروري لأمور أخرى هامة، مثل ألوهية المسيح. أي أن الميلاد العذراوي دليل على ألوهيته. إلا أن هذا لا ينفي مركزية الحبل بيسوع المسيح من عذراء، بدون تناسل طبيعي، وبعمل الروح القدس، لكي يتم إيقاف انتقال فساد آدم إليه. إن الرب يسوع المسيح أخذ طبيعته الأدبية من أمه العذراء مريم، لكنها كانت طبيعة معصومة بفعل التدخل المعجزي للروح القدس. احذف الخطية الأصلية من المشهد، سيصير السؤال المنطقي حينها، لماذا كان من الضروري إذًا أن يأتي المسيح من عذراء بدون تناسل طبيعي؟

الخطية الأصلية حقيقة وإلا لا مكان لنيابية المسيح للخليقة الجديدة

إن منكري الخطية الأصلية من المسيحيين يريدون نيابية المسيح دون نيابية آدم. يرون أنفسهم متحدون بالمسيح، دون أن يقروا بأنهم كانوا قبلاً متحدون بآدم. لكن على أية أساس منطقي يريدون أن يكون المسيح رأسًا عهديًا لهم، بينما يتنصلون من كون آدم رئسًا عهديًا للخليقة الساقطة؟ في الحقيقة إننا نتمتع بكون المسيح رأسًا عهديًا للخليقة الجديدة لأننا خرجنا من تحت نيابية آدم كرأس عهدي. أن تنكر تأثير آدم عليك في الفساد الموروث، هو أن تنكر تأثير المسيح عليك في البركات الموروثة منه. إن عمل المسيح بأكمله يصبح بلا معنى أو ضرورة إن لم تكن هناك خطية أصلية، وبالتلي إن لم يكن آدم رأسًا عهديًا للخليقة الساقطة.

لهذا يقول بولس: "فإذ الموت بإنسان، بإنسان أيضًا قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سَيُحْيَا الجميع" (١ كو ١٥ : ٢١ – ٢٢). يؤكد أيضًا بولس أن نيابية آدم تقابلها نيابية المسيح في المقطع الشهير في رومية "ولكن ليس كالخطية هكذا أيضًا الهبة. لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون، فبالأولى كثيرًا نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين. وليس كما بواحد قد أخطأ هكذا العطية. لأن الحكم من واحد للدينونة وأما الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير. لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح. فإنه كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة. لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعِلَ الكثيرون خطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد [إطاعة يسوع للناموس] سَيُجْعَل الكثيرون أبرارًا" (رو ٥ : ١٥ – ١٩).

لا يمكن لأي قراءة متسقة للنصوص السابقة أن تنكر الإرتباط الخطير بين نيابية آدم للخليقة الساقطة، ونيابية المسيح للخليقة الجديدة.

الخطية الأصلية حقيقة لعلاقتها بالكفارة العقابية

تأسيسًا على النقطة السابقة، أي نيابية كل من آدم والمسيح، فإن علاقتنا بكل من عصيان آدم وطاعة المسيح، هي علاقة احتساب. أن تنكر احتساب ذنب آدم عليك، هو أن تنكر إمكانية احتساب بر المسيح إليك. فضلاً عن ذلك، إن عدم وراثة الفساد من آدم يعني أن الطبيعة البشرية غير ملوثة بالخطية وبالتالي فهي تريد الصلاح وقادرة على فعله. مما يعني أن الإنسان قادر على تبرير نفسه من خلال الأعمال الصالحة. بكلمات أخرى، إن وراثتنا لفساد آدم يعني أننا غير قادرون على فعل الصلاح الذي نتبرر به أمام الله. ومن ثم نصبح في حاجة ماسة إلى بر بديل لكوننا غير قادرون على تبرير أنفسنا. والمسيح هو ذلك البر البديل.

وعليه، لا يمكنك أن تنكر الخطية الأصلية دون أن تنكر معها البدلية العقابية وأن المسيح تحمل عنا دينونة خطايانا. يصبح صليب المسيح مجرد مثال للتضحية أو للتعاطف معنا أو لدعمنا أو لإظهار بشاعة الشر وليس لأننا خطاة فجار وهو كان بديلاً عنا في تحمل عقاب خطايانا. مما ينحدر بنا في النهاية إلى عالمية الخلاص طالما أن الإنسان قادر على تبرير نفسه.

الخطية الأصلية حقيقة لأنها عقدة أو حبكة دراما الخلق والسقوط والفداء

إن الكتاب المقدس، لا يقدم لنا التعاليم في صورة أطروحات فقط، كما نقرأ مثلاً في رسالة رومية. بل يقدمها لنا ‏أيضًا عبر ستة وستون سفرًا ‏في قالب من دراما الخلق والسقوط والفداء. إن عدم وجود خطية أصلية هو بمثابة غياب للعقدة أو ‏الحبكة ‏plot‏ من الدراما. تصبح دراما بلا عقدة. أحداث غير مترابطة. ‏إن عقيدة الخطية الأصلية منسوجة معًا في أحداث التاريخ ‏الفدائي. وعليه، أن تقول أن تنكر الخطية الأصلية لأن المصطلح لم يرد في الكتاب المقدس ‏هو أن تغفل عقدة أو حبكة دراما التاريخ الفدائي. ‏

الخلق والسقوط والفداء والدينونة موضوعات متميزة لكنها متضافرة في عمل الله عبر التاريخ الفدائي بطريقة يصعب فصلها عن بعضها. فالله صنع خليقة كاملة واصفًا إياها بأنها حسنة جدًا creation . ولكن تلك الخليقة الأصلية الكاملة اعتراها فسادًا جذريًا بمجرد سقوط الإنسان de-creation ، لكون الإنسان رأسًا عهديًا للخليقة بأكملها. فجاء عمل المسيح الكفاري ليكون أساس الخليقة الجديدة new creation . في حين سيكون نصيب غير المخلصين هو الهلاك الأبدي un-creation . لهذا نرى أسفار الأنبياء تتكلم عن دينونة الله باعتبارها عكس لعملية الخلق (إر ٤ : ٢٣). هذا ليس معناه الفناء أو التلاشي، لكن دينونة الله ستكون رهيبة وكأنها (من منظور ما حقًا) عكس أو إنقلاب لعملية الخلق. تطبيقًا لهذا الترابط بين تلك التعاليم، لو قلت مثلاً أن المرض والموت وكل من الشر الأدبي والكارثي أشياء لصيقة بالخليقة، وليست دخيلة عليها بسبب السقوط، فإن هذه المنظومة التعليمية تختل. لأنه حينها لن يكون هناك فساد، إذ يصبح شيئًا لصيقًا بالخليقة، ولن تحتاج إلى فداء أو خليقة جديدة لأنه ببساطة ليس هناك مشكلة، ومن ثم لن يكون هناك دينونة لأن الشر جزء من النظام الأصلي.

إذًأ، ‏ما حاجتنا إلى مخلص طالما أن فساد آدم لم ينتقل إلى نسله وأن كل إنسان يولد بريء؟ ولماذا سيكون هناك دينونة طالما أن الإنسان غير وارث للفساد ومن ثم قادر قادر على ارضاء ناموس الله؟ وكيف يخلق الله خليقة غير صالحة بما أن الموت والألم والشر لصيق بها من البداية؟ بدون السقوط، وانتقال فساد آدم إلينا، واحتساب ذنبه علينا، تصبح أحداث التاريخ الفدائي قصة مفككة: خليقة لم تفسد، وفداء لا حاجة له، بدون دينونة.

الخطية الأصلية حقيقة لأن الإنسان يرفض الله في إعلانيه العام والخاص

يعلّم بولس في رومية ١ أن الأشرار يتعنتون رفض الله رغم وضوح إعلانه عن نفسه في الطبيعة (١ : ١٨ – ٣٢). فهم يحجزون (يقمعون) الحق بالإثم، واستبدلوا حق الله بالكذب، واتقوا واعبدوا المخلوق دون الخالق. بل وأكثر من ذلك يُسَرُّون بمن يفعل الشر مثلهم. ليس هذا فحسب، بل عندما تجسد الله نفسه، كلي الصلاح والمحبة، لم يحتمله الإنسان، فصلبه. إن كان الإنسان بار أو محايد أدبيًا، لكنا نراه مثلاً ينتهز فرصة مجيء شخص بار مثل يسوع لكي يتعلم منه ويقتدي بمثاله أو أن يحبه أو يبادله الصلاح بصلاح. إلا أن الصورة قاتمة جدًا. فالإنسان لم يستطع أن يحتمل وجود الله معه على الأرض. ولم يحتمل أن يرى سلوكه البار. فأسلمه حسدًا.

الخطية الأصلية حقيقة لأنها مطابقة للواقع وأفضل ما تفسره

كما ذكرت سابقًا، فإن الفسلفات العلمانية حاولت إعادة تعريف الشر وتفسير وجوده، على أنه يأتينا من الخارج، وليس من الداخل، ومن ثم الإطاحة بعقيدة الخطية الأصلية. إلا أن الخطية الأصلية هي أفضل ما يفسر الواقع. وكما قال حقًا كل من راينهولد نيبور وتشسترتون، أن الخطية الأصلية هي التعليم الوحيد الذي يمكن التحقق منه تجريبيًا. أي أنها العقيدة الوحيدة التي نستطيع أن نرصدها من حولنا.

إنها تفسر لماذا يوجد الموت، ولماذا هو مؤلم ومخيف. وتفسر لماذا نرصد الطمع والكذب والعناد والعنف لدى الأطفال. كما أنها تفسر أيضًا لماذا لم نجد إنسان استطاع أن يحيا حياة كاملة بلا خطية (سوى المسيح). والخطية الأصلية لا تفسر فقط مدى انتشار الشر بل أيضًا عمقه وفداحته. مثلاً، بدلاً من أن نرى إنسانًا متطورًا، لدينا تاريخ بشري حديث ملطخ بحربان عالميتان (لا علاقة لهما بالدين). اغتصاب أطفال ونساء. قتل أقارب وأحباء. خيانات زوجية. شذوذ جنسي. سرقة بغرض المتعة.

فضلاً عن ذلك، فإن منكري الخطية الأصلية ليسوا فقط غير قادرين على تفسير لماذا لم نجد ولا واحد بار إلى الآن، بل وغير قادرون أيضًا على تفسير أين هم الذين أفسدوا البشرية بإدخال الشر إليها. يتسائل اللاهوتي مايكل ماكلايموند: "إن كان البشر قد بدأوا صالحين في الأصل، فإن ثمة تضمين يوجد لذلك بالضرورة، أن هناك بحث عن المجرم. كيف حدث الفساد؟". أين إذًا من تسببوا بدخول الخطية إلى العالم لكي يتم عزلهم حتى تعود البشرية إلى حالة البراءة من جديد؟ أليس هذا أمرًا هامًا وخطيرًا أن يتم التعرف عليهم وتطهير البشرية منهم لأن ذلك سيؤدي إلى العودة للبراءة الأصلية؟

تعليقات

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  3. الردود
    1. هل عندك سؤال محدد أخي كيرلس؟

      حذف
    2. لا. بالعكس. أنا عندي إجابة للألغاز المُحيّرة دي، وحضرتك تفضّلت وحذفته.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس