هل كان الخلاص في العهد القديم بالأعمال كما يدعي القس سامح موريس؟


حاول القس سامح موريس في عظته بتاريخ ٢٦ نوفمبر توضيح ما قصده من قوله إله العهد القديم رب الجنود وإله العهد الجديد رئيس السلام. وذلك بالادعاء أنه تمت إساءة فهمه، وأنه فقط أراد الإشارة إلى وجود اختلاف بين العهدين وليس أنهما إلهين مختلفين أو متضادين. والسبب الأول الذي قدمه القس سامح موريس، لتبرير وجود فرق بين العهدين، ومن ثم تبرير مقولته إله العهد القديم رب الجنود وإله العهد القديم رئيس السلام، هو أن إعلان العهد الجديد أكثر وضوحًا وكمالاً من العهد القديم. السبب الثاني الذي أورده هو أن الخلاص في العهد القديم كان بالأعمال وليس بالنعمة من خلال الإيمان كما نجده في العهد الجديد. غرضي من هذا المقال فقط هو الرد على الادعاء الاخير بأن الخلاص في العهد القديم كان بالأعمال وليس بالنعمة كما نجد في العهد الجديد.

إن هذا الادعاء من طرف القس سامح ينم سوء فهم جوهري لطبيعة العلاقة بين العهدين. فالخلاص ليس بأعمال الناموس في العهد القديم، وبالنعمة في العهد الجديد. بل في كلا العهدين، القديم والجديد، هو بالنعمة من خلال الإيمان. ولدينا على ذلك بعض الأدلة والملاحظات:

أولاً لأن الفداء سَبَقَ إعطاء الناموس

ترتيب أحداث التاريخ الفدائي حاسم في هذا الموضوع. فالرب لم يعطي الناموس لشعبه طالبًا منهم طاعته أولاً وبناء على أدائهم سيخرجهم من مصر أم لا. بل فداهم أولاً مُخْرِجًا إياهم من العبودية المادية والروحية. ثم أعطى لهم ناموسه. النعمة إذًا تسبق الناموس. وعمل الله في العهد القديم يسبق عمل الإنسان وغير مشروط به أو متوقف عليه. وهذا ليس معناه أن الرب اتخذ المبادرة وهم عليهم الباقي. مرة أخرى، لقد جاءهم الناموس بعد أن حررهم الرب كلية بنعمته. ولهذا فطاعتهم للناموس تأتي كرد فعل على فداء الرب لهم (كما سنوضح أكثر لاحقًا).

ثانيًا، أُعْطِيَ الناموس لإسرائيل في سياق اتمام الوعد لإبراهيم

إن كان وعد الله مع إبراهيم ونسله بالنعمة، إذًا فالعهد الموسوي أيضًا عهد نعمة. لأن فداء إسرائيل من مصر هو إتمام للعهد الإبراهيمي "فقال لأبرام: اعلم يقينًا أن نسلك سيكون غريبًا في أرض ليست لهم، ويُستعبدون لهم. فيذلونهم أربع مئة سنة. ثم الأمة التي يُستعبدون لها أنا أدينها. وبعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة .. وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملاً .. في ذلك اليوم قطع الرب ميثاقًا مع أبرام قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات" (تك ١٥ : ١٣ – ١٨). فداء بني إسرائيل من مصر هنا هو إتمام للعهد الإبراهيمي. والعهد الموسوي هو امتداد وتكميل وتأكيد للعهد الإبراهيمي (وإن كان هناك لاإستمرارية من منظور ما كما سنرى). وبما أن هذا هو السياق الذي أُعْطِيَ فيه الناموس بعد الخروج من مصر، فالخلاص إذًا لم يكن بأعمال الناموس بل بالنعمة.

ثالثًا، ثلاثة أسباب لإعطاء الناموس

إن كان الخلاص في العهد الموسوي بالنعمة وليس بالأعمال، فما معنى إعطاء الناموس إذًا؟ الناموس أعطي لا كويسلة للخلاص، ‏ولكن على الأقل للثلاثة أسباب الآتية. أولاً لكي يكون تعبير عن الامتنان لعمل الفداء. فالناموس أعطي بعد شراء (فداء) الرب لشعبه. ‏ومن ثم فهم خاصته ويطالبهم بطاعة الناموس ليس كمقابل ولكن كوضع طبيعي جديد لمن صاروا له وهو يسكن بينهم. إن طاعة ‏إسرائيل للناموس كانت بمثابة رد فعل أو امتنان لعمل الفداء. وثانيًا، لفصل شعب الرب عن الأمم. وكما كان الغرض من قوانين الطهارة ‏الطقسية المتعلقة بالأطعمة الطاهرة والأطعمة النجسة هو فصل شعب الرب عن الأمم عبدة الأوثان ومرتكبي الشرور (راجع مقال ‏كيف تقرأ سفر اللاوييين)، فإننا نستطيع القول أن أحد أغراض إعطاء الوصايا الأدبية للناموس هو أيضًا فصل بني إسرائيل عن الأمم. ‏أي أنه نوع من التقديس لهم. وثالثًا فإن الناموس قد أعطي لتعزيز مفهوم النعمة الموجود بالفعل في العهد الموسوي. أي أن الناموس هنا ‏يعمل كمرآة ليري الإنسان عجزه الروحي ومن ثم يُقتاد إلى النعمة. وبلغة العهد الجديد فإن الناموس كان مؤدبنا إلى المسيح (غل ٣ : ‏‏٢٤)‏‎.‎

رابعًا يوجد بين العهدين الجديد والقديم إستمرارية ولاإستمرارية

نحن لا نقول أن العهدين القديم والجديد متطابقان. ولكن يوجد بينهما إستمرارية ولاإستمرارية. من حيث الإستمرارية فالخلاص فيهما بالنعمة من خلال الإيمان. من حيث اللاإستمرارية، فإن اعطاء الناموس لإبراز العجز البشري جعل العهد الموسوي عهد مؤقت من هذا المنظور أي إلى أن يأتي العهد الجديد. لم يكن هناك أية مشكلة في الناموس في حد ذاته. بل الوصية صالحة وعادلة كما يقول بولس. ولكن المشكلة تكمن في الضعف البشري الذي أبرزه الناموس. هذا العجز البشري هو السبب في الطبيعة المؤقتة للناموس الموسوي (اللإستمرارية). ومع هذا يظل هناك إستمرارية جوهرية بين العهدين تكمن في أن الخلاص في كليهما بالنعمة. وجود الناموس في العهد الموسوي لا يغير من كون الخلاص بالنعمة. ولكن كما سبق وأشرنا يعززه.

خامسًا، تفنيد بولس للناموسية في رسالة غلاطية كان للرد على سوء تفسير للخلاص روجه المتهودون

إن كان الخلاص في ظل العهد الموسوي بالنعمة كما نؤكد هنا، فما معنى كلام بولس السلبي عن الناموس في رسالة غلاطية؟ هذا سوء فهم جوهري متعلق بطبيعة العلاقة بين العهدين. لم يقل بولس لهم أن العهد القديم يعلِّم بالخلاص بالأعمال. بل كان يعالج سوء فهمهم للعهد القديم. والدليل كما سنرى في النقطة القادمة أن بولس يستخدم أمثلة من العهد القديم للتأكيد على مبدأ النعمة (بالإضافة إلى ترتيب أحداث الفداء كما رأينا في النقطة الأولى). وكما كان يصحح الرب يسوع المسيح، في عظته على الجبل، التفسيرات الخاطئة للعهد القديم. كان بولس في غلاطية يصحح أيضًا الفهم الخاطئ للعهد القديم لدى أهل تلك الكنائس وبالتحديد فيما يتعلق بقضية الخلاص.

سادسًا، تَبَرَّرَ داود بالنعمة بالإيمان وهو بعد في ظل العهد الموسوي

يستخدم بولس في رسالة رومية مثالين من العهد القديم ليؤكد على مفهوم النعمة في العهد الموسوي؛ إبراهيم وداود (رو ٤). كلاهما تبررا بالإيمان وليس بالأعمال. وداود كمثال هنا يعزز المبدأ أكثر بما أنه كان يحيا في ظل العهد الموسوي "كما يقول داود أيضًا في تطويب الإنسان الذي يحسب الله له برًا بدون أعمال: طوبى للذين غفرت آثمهم وسترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية (رو ٤ : ٦ – ٨ أنظر أيضًا غلاطية ٣). سحابة الشهود في عبرانين ١١ خير دليل على مبدأ الإيمان أيضًا. وإن لم يخلص رجال العهد القديم بالنعمة، فلم يخلص منهم أحد إطلاقًا. لأن كلا العهدين يؤكدان أنه لم يوجد إنسان واحد استطاع أن يفي جميع مطالب الناموس.

أهمية ما سبق تكمن في الحفاظ على اتساق طبيعة الله المخلصة. إنه نفس الإله المنعم المخلص في كلا التدبيرين. وتكمن أيضًا في الحفاظ على اتساق الكتاب المقدس بعهديه وإن وجدت لاإستمرارية بين العهدين. الكتاب المقدس يعلم بكلا عهديه طريق الخلاص بالنعمة. إنها نفس رسالة الإنجيل. من جاءوا قبله تطلعوا إليه كوعد، ومن جاءوا بعده نظروا خلفهم للوعد المتحقق. ليس ذلك فقط، بل هام أيضًا للحفاظ على الوحدة العهدية لأحداث التاريخ الفدائي. إن كانت كل من العهود النوحي والإبراهيمي والداودي كلها عهودًا للنعمة، والعهد الموسوي فقط هو الذي يشذ عنها لكونه ناموسي، فقد مزقنا وحدة أحداث التاريخ الفدائي. إنه عهد واحد للنعمة ولكن في تدابير مختلفة.

وَلأَجْلِ أَنَّهُ أَحَبَّ آبَاءَكَ وَاخْتَارَ نَسْلَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، أَخْرَجَكَ بِحَضْرَتِهِ بِقُوَّتِهِ الْعَظِيمَةِ مِنْ مِصْرَ، لِكَيْ يَطْرُدَ مِنْ أَمَامِكَ شُعُوبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، وَيَأْتِيَ بِكَ وَيُعْطِيَكَ أَرْضَهُمْ نَصِيبًا كَمَا فِي هذَا الْيَوْمِ. (التثنية ٤: ٣٧، ٣٨)

لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، ٧ لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. (التثنية ٧: ٦، ٧)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس