الإيمان ولزوم المعرفة عن المسيح لدى كالفن


يوجد تعاليم غير كتابية مطروحة على الساحة تتعلق بتعليم الخلاص الجوهري، كالشمولية والعالمية. ومفاد هذان التعلميان هو أن المسيح سَيُخَلِّص غير المسيحيين، على الرغم من أنهم لم يسمعوا عنه. بل وهناك من يقول أن هناك من يؤمنون بالمسيح دون أن يعوا أنهم مؤمنون به.

مما لا شك فيه أن الإدعاء بإمكانية وجود إيمان حقيقي بالله بمعزل عن معرفة المسيح وإنجيله يفصل بين الإيمان والمعرفة. لكن هذا خطأ لاهوتي فادح يؤدى إلى هرطقات مثل الشمولية والعالمية. إن هرطقة مماثلة كانت موجودة أيام كالفن أيضًا تفصل بين الإيمان والمعرفة. وقد سماها مخترعوها بـ "الإيمان الضمني". أي أن الشخص يستطيع أن يكون له إيمان خفي، أو ضمني، بالمسيح، دون أن يكون له معرفة به، عن طريق تصديق وطاعة الكنيسة التي تعرف كل شيء عن المسيح. لكن كالفن قام بتفنيد هذا التعليم غير القويم في كتابه "أسس الدين المسيحي".

إن تأكيد كالفن على أن الإيمان تلازمه المعرفة عن المسيح وإنجيله يمكن أن يكون مفيد لنا في الجدل الحالي المتعلق بالشمولية والعالمية. لهذا رأيت أن أقدم بعض ما قاله كالفن عن ذلك مع بعض التعليقات من طرفي لتوضيح وتحليل ما يقوله كالفن.

أول ما يستهل به كالفن حديثه عن العلاقة بين الإيمان والمعرفة الواعية هو أن الإيمان الحقيقي بالله لا يمكن أن يكون بمعزل عن المسيح لأنه المعلن لله، وبدون المسيح يبقى الله محتجب. أي إن كنت تدعي أن لك معرفة بالله بدون المسيح، فالله لم يُعْلَن لك بعد:

"حقًا أن الإيمان ينظر إلى إله واحد. ولكن إلى ذلك، يجب أيضًا أن يُضاف: أن يعرفوا ... "يسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17 : 3). وإلا بقي الله نائيًا ومحتجبًا لو لم يكن بهاء المسيح قد سطع علينا. من أجل ذلك جمع الآب في إبنه الوحيد كل ما كان له لكي يعلن ذاته في المسيح، حتى يظهر المسيح صورة مجد الله الحقيقية إذ يجزل صنائع نعمة أبيه".

يعلّم كالفن بأن معرفة الآب من خلال إعلان المسيح لا يمكن أن تتم بدون دور الروح القدس. والروح القدس لا يمكن أن يشير إلى شخص آخر سوى المسيح. وبهذا فإن الإيمان الحقيقي بالله هو عمل متمركز حول الثالوث. إيمان بالآب من خلال إعلان المسيح بواسطة عمل الروح القدس. إذًا حيث لا يوجد الإله المثلث الأقانيم لا توجد معرفة حقيقية به:

"ذكرنا أنه ينبغي أن ننقاد من الروح فيستحثنا على طلب المسيح، ومن ثم يلزمنا أن نعي أن طلب الآب غير المنظور لا يحدث إلا من خلال تلك الصورة وحدها".

الإيمان الحقيقي بالله، لدى كالفن، لا يمكن أن يكون إلا من خلال معرفة المسيح. ذلك لأن المسيح هو الله. وبهذا فإن المسيح هو الغاية والسبيل. المسيح هو الغاية لأنه الله، وهو السبيل إلى ذلك لأنه وحده الذي يستطيع أن يعلن الله لكونه الوحيد الذي يجتمع فيه الناسوت واللاهوت. إذًا، لا يوجد إيمان حقيقي بالله حيث لا يوجد الله نفسه متجسدًا:

"لقد عبر أوغسطينوس عن هذا الفكر بوضوح وسلاسة في نقاشه حول هدف الإيمان، إذ علّم أننا يجب أن نعرف غايتنا وسُبُل الوصول إليها. وتوًا يُسْتَدَلّ أن الطريق الأكثر أمانًا من كل خطأ إلى تلك المعرفة، هو ذاك الذي كان الله والإنسان في آن: فإذ هو الله المقصد الذي نسعى نحوه، وإذ هو الإنسان، فهو السبيل الذي نذهب عبره. وكلاهم – أي الغاية والطريق – حالان في المسيح من دون غيره. وبينما يجاهر بولس بالإيمان بالله، لا يتنازل عما يؤكده مرارًا بخصوص الإيمان، وهو أن ركيزة استقراره أجمع هي في المسيح. هنا برع بطرس في ربط كليهما معًا عندما قال "أنتم الذي به تؤمنون بالله" (1 بط 1 : 21).

كما أشرنا في مستهل المقال أعلاه، فقد علّم فلاسفة ولاهوتيو القرون الوسطى بما يسمى بـ "الإيمان الضمني". أي أن تؤمن، دون معرفة واضحة عن المسيح وعمله. والسبيل إلى ذلك هو أن تؤمن على أساس الكنيسة التي تعرف وتفهم كل شيء. بكلمات أخرى، أن تضع ثقتك في الكنيسة التي بدورها تعرف عن المسيح. لكن كالفن يعاود التأكيد على أن الإيمان لا يرتكز على الجهالة، بل على معرفة المسيح:

"لابد من أن يُعزى هذا الضلال المبين – كغيره من العديد من الشرور – إلى فلاسفة ومعلمي اللاهوت المدرسيين الذين أسدلوا ستارًا حجبوا به المسيح. فإننا إن لم ننظر نحوه مباشرة نضل في تيه سحيق. فإلى جانب تفريغ الإيمان من قوته إلى درجة إبادته بتعريفاتهم الغامضة، ابتدعو خرافة "الإيمان الضمني" ... هل هذا حقًا ما يعنيه الإيمان – ألا تفهم شيئًا، ما دمت اكتفيت بإذعان مشاعرك لطاعة الكنيسة؟ إن الإيمان لا يتركز على الجهالة بل على المعرفة. وهذه المعرفة ليست في نهاية الأمر معرفة الله فحسب، بل هي أيضًا إدراك إرادته الإلهية. وإننا لا نحصل على الخلاص: باستعدادنا أن نقبل كل ما تأمر به الكنيسة كما لو كان الحق بعينه، أو بالتفويض إليها القيام بمهمة الاستقصاء والعلم بالشيء، ولكننا نخلص عندما ندرك أن الله هو أبونا الأرحم، بعمل المصالحة التي تمت بواسطة المسيح (2 كو 5 : 18 – 19)، وأن المسيح وُهِبَ لنا برًا وتقديسًا وحياة. إننا بواسطة هذه المعرفة – وأقول ليس بإخضاع مشاعرنا – نحصل على الدخول في ملكوت السموات. لأنه عندما يقول الرسول: "لأن القلب يُؤْمَنُ به للبر، والفم يُعْتَرَفُ به للخلاص" (رو 10 : 10) فهو يوضح أنه لا يكفي الإنسان أن يؤمن ضمنًا بما يدركه ولا يفحصه، بل إنه مطالب بأن يقر علانية بالنعمة الإلهية التي يرتكز علهيا برنا".

يقر كالفن أن "الإيمان الضمني" صحيح من منظور ما، لأننا محاطون بالجهل ولا ندرك إدراك كامل. كما أنه يحسن بنا أن نتمسك بوحدتنا مع الكنيسة ونؤجل الحكم. إلا أنه هذا ليس مدعاة للإيمان الجاهل الذي لا يعرف المسيح. شتان الفرق بين الجهالة وبين عدم الإحاطة بكل ما يعلمه الإيمان المسيحي:

"الحقيقة أنني لست أنكر – هكذا هي حال الجهل التي تحيط بنا – عدم اكتمال إدراكنا لمعظم الأمور التي تَتخفى عن فهمنا، وسوف نظل كذلك حتى نقترب أكثر إلى محضر الله عندما نطرح عنا جانبًا ثقل هذا الجسد. ولا يسعنا في هذه الأمور إلا أن نؤجل الحكم، وأن نتشدد في الاستمساك بوحدتنا مع الكنيسة. على أنها قمة السخافة أن نستند إلى هذا المنطق، بحيث ندعو الجهالة المكسوة بالتواضع "إيمانًا"! لأن الإيمان يتوقف على معرفة الله والمسيح (يو 17 : 3)، وليس على توقير الكنيسة".

يضيف كالفن أيضًا أنه ليس فقط أننا، ما دمنا في هذا الجسد، لا نصل إلى الإدراك الكامل للحق المسيحي، ومن هذا المنظور يكون الإيمان الضمني صحيح. بل إن الإيمان الضمني يكون صحيح من منظور آخر إذا كان ما نقصده من ذلك هو أن بذرة الإيمان تبدأ محاطة بالجهل إلى أن تمنو شيئًا فشيئًا. وبهذا فإن الإيمان الضمني يكون مرحلة تمهيدية للإيمان. لكن لا يمكن لحياة شخص مسيحي أن تكون بأكلمها عبارة عن هذه المرحلة التمهيدية بدون معرفة متنامية عن المسيح:

"نستطيع أيضًا أن ندعو ذلك النوع من الإيمان إيمانًا ضمنيًا، إذا كان لا يعدو قطعًا مرحلة تمهيدية للإيمان. يشير البشيرون إلى الكثيرين ممن آمنوا، إلى الذين في دهشتهم من مجرد المعجزات لم يتجاوزا الاعتقاد بأن المسيح هو المسيا الموعود به، على الرغم من أنهم لم تمسهم ولو غبرة من تعليم الإنجيل. ومثل هذا الاهتمام التوقيري الذي أمالهم إلى أن يسلموا ذواتهم طواعية للمسيح، يجوز له أن يزينه لقب "الإيمان"، ولكنه لم يكن إلا بداية الإيمان. هكذا كانت الحال مع خادم البلاط الملكي الذي صدق المسيح بشفاء ابنه (يو 4 : 50) إذ عندما عاد إلى منزله، كما يشهد كاتب الإنجيل، آمن مجددًا (يو 4 : 53) لأنه كان أولاً قد قَبِلَ ما سمع من فم المسيح باعتباره استجابة إلهية لطلبته، ثم خضع لسلطة المسيح حتى يستقبل تعليمه. فلا بد أن ندرك أنه كان هكذا قابلاً للتعلَم ومستعدًا للاستيعاب، حتى إن قبوله بالكلمة التي قالها له يسوع تعني نوعًا معينًا من الإيمان، كما يذكر النص الأول (عدد 50)، بينما يفيد النص التالي (عدد 53) أنه عُدَّ بين التلاميد الذين تبعوا المسيح. يقدم يوحنا مثلاً شبيهًا لذلك في إشارته إلى السامريين، الذين هكذا صدقوا كلمة المرأة فأسرعوا إلى المسيح بلهفٍ، ولكنهم قالوا لها بعد أن سمعوه: "إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن، لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" (يو 4 : 42). من هذه الامثلة يتبين أنه حتى أولئك الذين لم يتشربوا بعد بأولى عناصر الإدراك، مع ذلك أمالوا آذانهم، يُدْعَوْنَ "مؤمنين"، ليس بالضرورة بالمعنى الدقيق بل في الواقع إلى الحد الذي يتنازل فيه الله في رحمته وعطفه، ليزين ذلك الميل الوجداني بإجلالٍ هذا قدره. على أن تلك القابلية للتعلم، مفعمة بالرغبة في الإدراك، تختلف كل الإختلاف عن الجهل المحض الذي يرتكن إليه البلداء القانعون بعقيدة "الإيمان الضمني"، التي اخترعها البابويون. فإن كان بوليس يدين بشدة الذين يتعلمون في كل حين ولا يستطيعون أن يُقبلوا إلى معرفة الحق أبدًا (2 تي 3 : 7)، فكم يكون عَظَمُ قدر الخزي الذي يستحقه أولئك الذين يروجون أقصى حدود الضلال".

وإن كان الإيمان لدى كالفن لابد أن يكون مقترنًا بالمعرفة ومؤسسًا عليها، إذًا، فلا يمكن أن يكون هناك انفصال بين الإيمان والكلمة. إذ أن المعرفة تأتي من الكلمة. إن العلاقة بين الكلمة والإيمان لا تنفصل بقدر عدم قابلية إنفصال الأشعة عن الشمس:

"أولا يلزمنا أن نتذكر أن هناك علاقة دائمة بين الإيمان والكلمة. فلم يكن ممكنًا أن يُفصل أحدهما عن الآخر، مثلما لا يمكن أن تفصل الأشعة عن الشمس التي تنبثق منها. لهذا يتكلم في سفر إشعياء بقوة قائلاً: "اسمعوا لي فتحيا أنفسكم (55 : 3)، وكذا يكشف يوحنا عن ينبوع الإيمان هذا بهذه الكلمات: "وأما هذه فقد كُتِبَت لتؤمنوا" (يو 20 : 31). وهكذا أيضًا يريد النبي أن يحث الشعب على الإيمان بالقول: "اليوم إن سمعتم صوته" (مز 95 : 7). و"أن تسمع" عمومًا تعني "أن تؤمن".

يعلّم كالفن بأن الكلمة ليست فقط ضرورية لوجود الإيمان، بل إنها لازمة لإستمراريته. وهذا شيء طبيعي ومتوقع أن الإيمان يظل يتغذى على نفس ذلك المصدر الذي أمده بالحياة، أي كلمة الله:

"لذا إذا انحرف الإيمان ولو أقل درجة عن هدفه الذي يرمي إليه، فإنه يفقد طبيعته بل يسمى نوعًا من سرعة التصديق ممتزجًا بالشك، وشيئًا من ضلال الفكر. إن الكلمة ذاتها هي الأساس الذي يرتكز عليه الإيمان ويتعزز به، فإذا تحول عن الكلمة يتداعى وينهار، ومن ثم إذا أقصيت الكلمة لا يبقى إيمان".

بناء على كل ما علّم به كالفن أعلاه، يتضح أن الإيمان لا يمكن أن يبدأ أو يستمر دون أن يكون مقترنًا بالمعرفة عن المسيح. فالمعرفة عن المسيح هي أساس الإيمان، وهي الغذاء اللازم لاستمراريته. ومن ثم فإنه خطأ جوهري أن تقول أنه يوجد إيمان حقيقي بالله حيث لا توجد معرفة عن المسيح. الفرق الوحيد بين الإيمان الضمني، كما علّم به لاهوتيو القرون الوسطى، وبين الشمولية والعالمية حاليًا، هو أن الإنسان مدعو أن يضع ثقته في الكنيسة في الحالة الأولى، وأن يضع ثقته في الإعلان العام أو أي دين يؤمن به في الحالة الثانية. لكن في كلا الحالتين، الإدعاء واحد، وجود إيمان حقيقي بالله بدون معرفة واعية عن شخص المسيح.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس