كيف تقرأ سفر أعمال الرسل


سفر أعمال الرسل هو قصة نشأة الكنيسة وخروجها خارج حدود إسرائيل ثم توسعها إلى العالم. وهو بماثبة الجسر بين الأناجيل والرسائل. فالأناجيل تؤرخ لنا حياة المسيح وتعاليمه وموته وقيامته وصعوده. والرسائل هي التعاليم والوصايا الموجهة لأتباع المسيح. سفر أعمال الرسل يملأ الفجوة بين الإثنين. إذ كيف خرج الإنجيل خارج اليهودية والسامرة إلى أقصى الأرض. وكيف تأسست الكنائس الأولى في آسيا الصغرى وحوض البحر المتوسط.

وأعمال الرسل هو الجزء الثاني، إن شئنا التعبير، لإنجيل لوقا. ففي إنجيل لوقا (الجزء الأول) نقرأ عن حياة الرب يسوع المسيح وعمله "ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلِّم به" (١ : ١). وفي سفر الأعمال (الجزء الثاني) نقرأ عن العمل المستمر للمسيح من خلال تلاميذه بقوة روحه القدوس. فالروح القدس هو "روح يسوع" كما نجد لوقا يخبرنا في السفر (١٦ : ٧) "فلما أتوا إلى مِيسيَّا حاولوا أن يذهبوا إلى بثينية، فلم يدعهم روح يسوع" (طبقًا لأوثق المخطوطات وليس فقط "الروح" كما يوردها فانديك).

في أعمال الرسل نرى تحقق البركة العالمية الموعودة في العهد القديم لإبراهيم بدخول الأمم الإيمان. إذ تبدأ هذه البركة في أورشليم (١ – ٧)، ثم تتوسع إلى السامرة (٨ – ١١)، إلى أن تمتد أكثر حتى تصل إلى روما (١٢ – ٢٨) طبقًا لوصية السيد وخطته "وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلى أقصى الأرض" (أع ١ : ٨). السفر إذًا يشهد عن أمانة الله لوعده تجاه إبراهيم. فعلى الرغم أن إسرائيل رفض المسيح، إلا أن هناك بقية تقية قبلته. هذه البقية، ممثلة في الرسل، أخذت الإنجيل إلى أقصى الأرض.

في الأناجيل تسير الأحداث صوب أورشليم، بينما في أعمال الرسل تنطلق من هناك. وفي الأناجيل، ولا سيما إنجيل لوقا، وفي سفر الأعمال يوجد تناظر بين أعمال المسيح وأعمال الرسل. مثل حلول الروح القدس على كليهما، ومعجزات كليهما، وهجوم القادة الدينيين عليهما، ورفضهما والقبض عليهما بواسطة قادة اليهود، وأمور أخرى كثيرة. وإرسالية الرسل في سفر الأعمال بواسطة الرب يسوع المسيح، تعكس إرسالية الآب للابن في الأناجيل. الأناجيل هي جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلّم به إلى اليوم الذي ارتفع فيه. وأعمال الرسل هو استمرارية يسوع في التعليم والعمل من خلال رسله الإثني عشر الذين منحهم سلطانًا رسوليًا خاصًا بقوة الروح القدس.

بالإضافة إلى هذا التوسع الجغرافي والروحي للكنيسة في السفر، إذ تبدأ في أورشليم ثم تتسع إلى السامرة حتى تصل إلى أقصى الأرض (روما)، فإن هناك أيضًا نمطًا دوريًا فيه. أي أن السفر أيضًا يسير بصورة دائرية كما يرى رايكن. وطبقًا لكلمات رايكن:

"ينظم السفر نمطًا دوريًا: (١) ظهور القادة المسيحيون وكرازتهم بالإنجيل (٢) دخول جمهور المستمعين إلى الإيمان وضمهم للكنيسة (٣) اضطهاد الخصوم (الذين غالبًا ما يكونون من اليهود ولكن أحيانًا من الأمم) للقادة المسيحيين (٤) تدخل الله لإنقاذ القادة أو لحماية الكنيسة. في حين أن هذا النمط هو الأكثر وضوحًا في النصف الأول من السفر، إلا أنه يمتد في شكل معدل إلى الرحلات التبشيرية لبولس، حيث أن النمط العام كالآتي: كرازة بولس وتأسيسه لكنيسة محلية، مقاومة بولس واضطهاده، انتقال بولس إلى مكان آخر، تأسيس المؤمنين الباقين في ذلك المكان كنيسة، ثم توسع الحركة المسيحية نتيجة لذلك".

وفيما يخص الأسلوب الأدبي لسفر أعمال الرسل، فبينما تتنوع الأساليب الأدبية (الفرعية) الموجودة فيه، مثل التاريخ الكنسي، السيرة الذاتية، عظات، رحلات، تحطم سفينة في عرض البحر، معجزات، حديث وداع. إلا أن الأسلوب العام للسفر هو الرواية التاريخية. أو بصورة أدق هو التأريخ اللاهوتي. فسفر أعمال الرسل هو تأريخ لنشأة الكنيسة المسيحية وخروجها خارج أسوار أورشليم وتوسعها إلى أقصى الأرض. وفي هذا نجد اللاهوت منسوجًا معًا في التاريخ بحيث يستحيل فصلهما عن بعضهما. على أن هذا يثير سؤالاً حول إمكانية تطبيق السفر على الكنيسة اليوم. فما مدى إلزامية ما جاء في سفر أعمال الرسل للكنيسة اليوم؟

بكلمات أخرى، هل السفر تأريخي وصفي descriptive ، أم إلزامي prescriptive ؟ أي هل يسرد لنا لوقا مجرد تأريخ ليس له أهمية تطبيقية بالنسبة لنا، أم أنه وصايا إلزامية مباشرة مثله في ذلك مثل الرسائل؟ وماذا عن الطبيعة الانتقالية للسفر؟ أي هل أعمال الرسل ليس إلزاميًا لأنه سفر انتقالي يؤرخ للانتقال من تدبير الناموس إلى تدبير النعمة، ومن الانتقال من إسرائيل إلى الكنيسة، ومن أورشليم إلى السامرة ثم روما؟

إن كان أعمال الرسل مجرد وصفًا أو تأريخًا لما حدث للكنيسة الأولى، فقراءته إذًا لا تفرق شيئًا عن قراءة الجريدة اليومية. ويصبح أعمال الرسل بذلك بدون أية قيمة عملية للكنيسة المعاصرة. وإن كان سفر الأعمال سفرًا انتقاليًا محضًا لأنه يخص هذه الفترة الحرجة من التاريخ الفدائي، ففي نهاية المطاف كل الأسفار المقدسة تخص فترات معينة بصورة أو بأخرى ومن ثم غير قابلة للتطبيق (طبقًا لهذا المنطق). وإن كان أعمال الرسل سفرًا إلزاميًا بأكمله، فهل ينبغي أن يوجد بيننا رسلاً اليوم؟ وهل نقوم بإلقاء القرعة لمعرفة مشيئة الله (١ : ٢٦)؟ وهل ينبغي أن نبيع ممتلكاتنا ونعطيها للكنيسة (٤ : ٣٢ – ٣٧)؟ هل هناك اختبارين للمؤمن؛ الإيمان ثم معمودية الروح القدس (٨ : ١٤ – ١٧ ، ١٩ : ١ – ٦)؟

والإجابة هي جميع ما سبق. فهو سفر تأريخي، وانتقالي، وإلزامي، في نفس الوقت. في الحقيقة إن كل هذه التصنيفات السابقة لا تنفي كونه إلزاميًا. فهو انتقالي وفي نفس الوقت ذو قيمة عملية وتطبيقية باقية. وهو ليس فقط تأريخ، بل تأريخ لاهوتي. إن كونه سفرًا انتقاليًا وتأريخيًا لا ينفي القيمة التطبيقية الباقية للسفر، بل هو أمرًا يدعونا للحذر عند تطبيقه.

ولكن ما هو المفتاح الذي يجعلنا نميز بين ما هو تأريخي وبين ما هو إلزامي؟ الإجابة تكمن في النص ذاته. سواء في السياق المباشر للنص. أو في السياق العام للسفر. أو في نسيج السرد التأريخي ذاته من خلال رؤية العواقب والنتائج التي آلت إليها الأحداث. أو أخيرًا، في السياق الكتابي العام.

ولو طبقنا هذا المبدأ على القضايا السابقة لكانت الإجابة على تلك الأسئلة بـ لا ونعم في نفس الوقت.

فلا يوجد بيننا رسلاً اليوم لأن الرسول، طبقًا لسفر الأعمال، هو أحد الذين اختارهم الرب يسوع ليكونوا شهود عيان على حياته وموته وقيامته (١ : ٢١ – ٢٢). وبينما لا يوجد رُسُل بيننا اليوم، إلا أننا نحتاج أن نتمثل بتقواهم ومحبتهم وأمانتهم التي أظهروها في سفر الأعمال. ونحتاج أن نخضع لتعاليمهم المدونة في هذا السفر أيضًا بل وباقي أسفار العهد الجديد.

والسياق النصي المباشر لحادثة إلقاء الرسل القرعة لاختيار بديلاً ليهوذا لا يصادق أو يدين هذا الأمر. إلا أن السياق العام للسفر قد يخبرنا بشئ عنه. فإلقاء القرعة حدث قبل حلول الروح القدس الذي نقرأ عنه فيما أنه كان يرشد الكنيسة في كرازتها "قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" (١٣ : ٢). كما أننا لا نرى إلقاء القرعة نمطًا في أعمال الرسل بصفة خاصة أو العهد الجديد بصفة عامة (كما يعلّم كل من هايز ودوفال). إلا أن الحادثة تعلمنا أن الله لم يزل يرشد كنيسته من خلال الروح القدس والمكتوب.

وفيما يخص قول السفر أن المسيحيون الأوائل كانوا يبيعون ممتلكاتهم ويضعون أثمانها عند أرجل الرسل، وأن كل شئ كان بينهم مشتركًا، فإن السياق المباشر لا يقدم أي إلزام تجاه الكنيسة المعاصرة للرسل أو أية كنيسة في أي عصر أو مكان. على العكس من ذلك فهو ينفي هذا الإلزام بقول بطرس لحنانيا أنه لم يكن مضطرًا لبيع أملاكه، وبعد أن باعها لم يكن مضطرًا لإعطاء ثمنها للرسل (٥ : ٤). ومع هذا، تظل هذه القصة ملزمة لنا من منظور ما، طبقًا لـ هايز ودوفال، في كونها نموذجًا للكرم والمسؤولية اللذان ينبغي أن نتحلى بهما تجاه الكنيسة والقديسين.

أخيرًا، وليس آخرًا، لا يوجد اختبارين للمؤمن؛ اختبار للإيمان، يتبعه اختبار آخر لمعمودية الروح القدس. فكما قلنا أن السفر هو سفرًا انتقاليًا يؤرخ لنشأة الكنيسة المسيحية في أورشليم ثم إنطلاقها خارج تلك الحدود إلى السامرة ثم أقصى الأرض. ولم يكن أمرًا من السهل قبوله أن ينضم أنصاف اليهود (السامريون)، والأمم، إلى الكنيسة التي كانت خلفيتها يهودية في ذلك الوقت. إن انضمام السامريون والأمم للكنيسة شكل صدمة للمسيحيين من خلفية يهودية. لهذا نقرأ عن وضع الرسل أيديهم على شعب السامرة ليقبلوا الروح القدس كدليل على أنه لم يعد فرق الآن بين اليهود والسامريون (٨ : ١٤ – ١٧). أما عن التلاميذ الذين كانوا في أفسس، فلم يكن لديهم الإيمان الصحيح بالمسيح بل اعتمدوا بمعمودية يوحنا للتوبة، وليس على إسم الرب يسوع. وحلول الروح القدس عليهم، من خلال وضع يديّ بولس، هو بمثابة المصادقة السماوية لقبول أولئك الأمم في الكنيسة (١٩ : ١ – ٦). وفي نهاية المطاف، سواء في حالة السامريون، أو التلاميذ الذين في أفسس، فإن الروح القدس أُعْطِيَ بواسطة وضع أيدي الرسل. ولا يوجد بيننا رسلاً اليوم. مما يعني أن هذا كان أمرًا خاصًا بإرسالية الرسل وبتلك الفترة الانتقالية.

أما معمودية الروح القدس، كما يعلمنا بولس في موضع آخر، فهي لكل المؤمنين، وتحدث عند الإيمان "لأننا جميعنا بروح واحد أيضًا اعتمدنا إلى جسدٍ واحد" (١ كو ١٢ : ١٣). والقيمة التطبيقية لذلك، هي أنه ليس هناك مؤمنون درجة ثانية لم يحصلوا على الروح القدس. فهو يحلّ فينا جميعًا عند الإيمان. وأننا علينا أن نسعى، لا إلى معمودية الروح القدس التي تحدث مرة واحدة عند الإيمان، بل إلى الملء المتكرر بالروح. وأن الكنيسة عليها أن تنسب كرامة متساوية لجميع أعضائها بما أن جميعهم معتمدين بالروح القدس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس