عقيدة التبرير لدى الأب متى المسكين



الكثيرون من البروتستاننت، وعلى رأسهم القس سامح موريس، متيمون بالأب متى المسكين. مع كامل الإحترام لهم وله طبعًا، إلا أنه لا يمكن تكون إنجيلي متسق مع منهجك البروتستانتي وفي نفس الوقت لا ترى مشكلة، أو بالحري مشاكل، في فكر الأب متى المسكين. لكن يكفي أن تقرأ هذا الكتيب الصغير له بعنوان "التبرير بين الماضي والحاضر وبين الإيمان والعمل" لكي تتيقن أن تعاليم الأب متى بعيدة كل البعد عن العقيدة الإنجيلية المُصلحة. بل إن ما يعلم به الأب متى، كما سيأتي الذكر، هو ذات كاثوليكية القرون الوسطى التي عارضها المصلحون.

وفي عجالة، فإن ما يقوله الأب متى المسكين في كتابه "التبرير بين الماضي والحاضر وبين الإيمان والعمل" هو ضد العقيدة الإنجيلية، لأنه يخلط بين التبرير والتقديس. ويضيف إلى الإيمان الأعمال الصالحة كضرورة للتبرير. ويخلط بين متضادين: الناموس والنعمة. ويعلّم باحتساب الأمانة الجزئية برًا. ويخلط بين السوتيريولوجي (عقيدة الخلاص) والإكليزيولوجي (عقيدة الكنيسة). ويرى التبرير على أنه عمل مستمر وغير منتهي. وأن التبرير لديه يمكن أن يُفقد أو يتوقف مفعوله. وأن المتبرر يعيش متوترًا بين نقيضين: يعيش على رجاء الحياة الأبدية وفي نفس الوقت خوفًا من دينونة الله بما أن التبرير يمكن أن يُفقد. أي أنه يحاول أن يعيش في توازن مستمر بين الثقة والخوف.

عقيدة التبرير بالإيمان وحده (سولا فيديه) هي قدس أقداس البروتستانتية المصلحة. فهي تسمى بـ "المبدأ الجوهري" لحركة الإصلاح. إن أردت أن تعرف مدى إتساق أو إلتزام شخص بالعقيدة الإنجيلية اقرأ له ما علّمه عن التبرير بالإيمان وحده. وقبل أن نتعرض لتعليم الأب متى المسكين عن التبرير، من المفيد أن نعرض باختصار لما هو التبرير في العقيدة الإنجيلية لكي نستطيع أن نقيم إلى أي مدى تعليم الأب متى عن التبرير بروتستانتيًا.

نبذة عن التبرير طبقًا للتعليم المصلح

علّمت كاثوليكية القرون الوسطى، ولم تزل، بأن التبرير شىء يُغرس في الإنسان infused ، وليس مركزًا يناله أمام الله بواسطة إعلان قضائي. الله لا يستطيع أن يدعو الخاطىء بارًا على خلاف حقيقته، أي لا يمكن أن يحتسبه بارًا على عكس واقعه كخاطىء. بل يمنحه البر كحالة داخلية مغروسة فيه لكي تصل به في النهاية، مع الإجتهاد وتقديم الكفارات وممارسة الأسرار، إلى التبرير النهائي. يعطي الله الإنسان نعمته في المعمودية، لكي تمكنه هذه النعمة من الجهاد والعمل الصالح وممارسة باقي الأسرار الكنيسة للحصول على مزيد من النعمة، الأمور التي إن مارسها تبرره في النهاية. وبما أن التبرير شىء يُغرس في الإنسان ليمكنه من حياة البر، فإن التبرير النهائي يكون بالإيمان والأعمال معًا. وفي هذا خلطًا من الكنيسة الكاثوليكية للتقديس مع التبرير. ومزجًا للناموس بالنعمة. فظهر المصلحون ليضعوا الأمور في نصابها الصحيح.

عَلَّم رجال الإصلاح البروتستانتي بأن التبرير مختلف عن التقديس، وإن كان أحدهما لا يمكن أن يوجد بمعزل عن الآخر. فبينما يكون التبرير إعلان قضائي موضوعي يصدر مرة واحدة من الله بإعلان الفاجر بارًا، أي برًا محتسبًا imputed غير أصيل فينا. إلا أن التقديس عمل داخلي مستمر فيمن تم تبريره قضائيًا بتغييره شيئًا فشيئًا لكي تتطابق حالته الحاضرة مع مركزه القضائي أمام الله. وحلّ أو فك الاشتباك بين التبرير والتقديس أمر خطير وضروري لضمان أن التبرير غير مرهون بالأعمال أو الاستحقاقات البشرية، بل هو هبة الله المجانية بصورة مطلقة. ومن ثم فأي خلط بين الإثنين هو نفي لعقيدة النعمة وحدها.

وعلى عكس ما علمت به الكنيسة الكاثوليكية أيضًا بأن الله لا يمكن أن يعلن الفاجر بارًا في لحظة إيمانه على خلاف واقع فجوره، نادى لوثر بأن المسيحي هو "خاطىء ومبرر في نفس الوقت". وإن كانت الكنيسة الكاثوليكية اعتقدت بأن الإنسان يتبرر بكل من الإيمان والأعمال معًا، علّم المصلحون بأننا نخلص بالنعمة وحدها، بدون أعمال، ومن خلال الإيمان وحده. إلا أن الإيمان الذي يُبررنا لا يمكن أن يبقى وحده، بل يثمر بأعمال البر. هذه الأعمال الصالحة ليست أساسًا للتبرير، بل هي امتنان لما نحن عليه في المسيح. هي ثمار لعمل الإيمان فينا. الأعمال ليست مسبب للتبرير. ولكن أثرًا له. والتبرير ليس نتيجة أو أثرًا لأعمال البر بل مسببًا لها.

وقبل أن أستعرض ما علّم به الأب متى المسكين حول التبرير طبقًا لما جاء في كتابه "التبرير بين الماضي والحاضر والإيمان والعمل" (٢٠١١ دير أنبا مقار)، والذي به الكثير من العبارات الغامضة والمتناقضة، أود ملاحظة أني لم أتناول كل الأفكار الواردة في هذا الكتيب. كما أني رأيت من الأفضل عرضها في صورة نظامية وليس وفقًا للترتيب الذي وردت به في كتاب الأب متى حتى يسهل تكوين صورة نظامية متكاملة لما يُعلّم به. وليس غرضي هنا هو تقديم رد أو دفاع عن عقيدة التبرير بالإيمان وحده وفقًا للتعليم الإنجيلي (سولا فيديه)، بقدر ما هو عرض أو تحليل لما يعلم به الأب عن ذلك التعليم. كما أني حافظت على لقبه "الأب متى المسكين" احترامًا لمشاعر محبيه رغم أني لا أؤمن بالكهنوت الطقسي.

الأب متى المسكين يخلط بين التبرير والتقديس

يرى الأب متى المسكين التبرير كـ "تقديس إيجابي"، أو عمل ديناميكي وليس عملاً ستاتيكيًا متجمدًا. وهو ليس قرارًا قضائيًا يصدر من الله مرة واحدة (أو على الأٌقل ليس ذلك فقط)، بل عمل داخلي مستمر في المؤمن. وهذا عكس ما تعلم به العقيدة الإنجيلية المصلحة بأن التبرير، وإن كان لا يحدث بمعزل عن التقديس، إلا أنه متميز عنه. أو كما قال لوثر بأننا نتبرر بالإيمان وحده، إلا أن الإيمان الذي يبرر لا يبقى وحده. وكما قال كالفن أننا لا نأخذ فقط بر المسيح، بل قداسته أيضًا. أي أن التبرير مختلف عن التقديس وإن كان الأول لا يمكن أن يوجد وحده. فعمل الله متكامل، يبررنا ويقدسنا. لكن يظل التبرير مختلف عن التقديس.

يستعرض الأب متى في مستهل كتابه بعض ما قاله آباء الكنيسة. وبعد أن يقتبس ما جاء في رسالة الراعي هرماس (ص ٥) يعلق الأب متى على ذلك قائلاً "ومن هذا يتبين لي أن التبرير عند آباء الكنيسة الأوائل يعني التقديس الإيجابي، أي يؤهل لحياة القداسة، وأن المعمودية واسطته الأولى والعظمى والتوبة واسطته الثانية الدائمة". ولعلك تظن أن الأب متى يعرض فقط لإيمان الراعي هرماس، إلا أنه يخلص إلى نتيجته الشخصية (والتي ستتأكد لنا لاحقًا) من هذا الكلام بقوله "وهذا يعني أن الإيمان بالمسيح هو الذي فيه نتبرر، وبعمل التوبة المستمر نتشبث بالبر الموهوب لنا به ليصير التبرير حياة مقدسة دائمة في المسيح". إن عبارات مثل "بعمل التوبة المستمر نتشبث بالبر الموهوب لنا"، و"ليصير التبرير حياة مقدسة" تدل على خلط شديد بين كل من التقديس والتبرير. بجعل التبرير لا قرارًا أو إعلانًا قضائيًا يصدره الله، بل عملية تغيير مستمرة.

وكون التبرير لدى الأب متى هو تقديس إيجابي مستمر يتأكد من قوله لاحقًا في الكتاب بأن "(التبرير) ليس عملاً متجمدًا أو فعلاً ينتهي عند هذا الحد. فالتبرير بدم المسيح يشمل بعد الصفح تكليفًا بالدخول في خدمة البر ... لأن التبرير بعد سفك دم المسيح أصبح فعلاً لا يتوقف أبدًا فينا وبنا" (ص ٢٨). أي أن التبرير لدى الأب متى تقديس إيجابي، وعمل ديناميكي، وفعل مستمر، لأنه يعني أننا ندخل إلى خدمة البر.

وتحت عنوان "التبرير يعبر بنا من الماضي إلى المستقبل عبر حاضر مملوء نعمة" (ص ٣١) يخلط الأب متى من جديد بين التبرير والتقديس. إذ يرى أنه رغم أن "التبرير بدم المسيح كثيرًا ما يُرى على أنه غفران ومصالحة وحسب"، إلا أن "واقع التبرير فيه قوة ونعمة تتجاوز الماضي بكل أثقاله وتمتد بنا لحاضر بلا لوم نعيشه في المسيح ... وهنا يوضح لنا بولس الرسول أن هبة التبرير، وهي منحدرة لنا من الله رأسًا عبر المسيح ودم المسيح، تجعلنا نعيش أبرارًا في المسيح". الأب متى لا يعترض بالضرورة على كون التبرير غفران ومصالحة، إلا أنه دمجه لمفاهيم أخرى مع التبرير شوهه. فأصبح أكثر من مجرد غفران ومصالحة، "قوة ونعمة ... لحاضر بلا لوم نعيشه في المسيح".

على عكس التعليم المصلح بأن بركات المؤمن، من تجديد وتبرير وتقديس، ناتجة عن اتحاده بالمسيح، يرى الأب متى أن التبرير يؤدي إلى الإتحاد بالمسيح. أن تقول أن التبرير يؤدي أو يؤهل للإتحاد المتواصل بالمسيح هو أن تخلط بين التبرير والتقديس. يقول الأب متى "لأن تبرير المسيح لنا هو الذي يؤهل اتحادنا به" (ص ٣٢). وهو بذلك يرى التبرير كفعل للإتحاد المتواصل بالمسيح، وليس إعلان قضائي موضوعي يحدث مرة واحدة يخص مركز المؤمن. وليس فقط أن التبرير يؤدي إلى الإتحاد المتواصل بالمسيح لدى الأب متى، بل إن البر يؤدي أيضًا إلى إيمان مستمر أو طبقًا لتعبيره هو فإن "البر ... يولد إيمانًا بصفة مستمرة". طبعًا هو يستعمل مصطلحي "البر" و"التبرير" كمترادفان. وهذا يزيد الأمور تشويشًا وخلطًا. لأننا في التعليم المصلح نقول التبرير هو البر مُحتسبًا. والتقديس هو البر مغروسًا. ولكن هذا لا يشكل أية مشكلة للأب متى لأنه لا فرق لديه بين التبرير والتقديس، ومن ثم يتساوى لديه البر والتبرير.

الأب متى المسكين يمزج بين الإيمان والأعمال ويعلّم بالتبرير بناء على الأمانة الجزئية

شىء طبيعي أن يكون التبرير بالإيمان والأعمال معًا (وليس بالإيمان وحده) إن كان التبرير عمل داخلي متواصل، فضلاً عن كونه شىء يحدث في المعمودية. ومن المتوقع أن يقدر الله الأمانة الجزئية ليحتسبها أمانة كلية طالما أن التبرير يكون بالإيمان والأعمال معًا.

يناقش الأب متى المسكين بوضوح تعليم بولس بأن الناموس أظهر ضعف ومذنوبية الإنسان الذي لم يستطع أن يحيا كما يتطلب الناموس (البر في العهد الجديد ص ٢٠). لدرجة أنك تتوقع أن الأب متى على وشك بأن ينتقل بك إلى النتيجة المنطقية الوحيدة وهي أن الحل، إذًا، هو هبة بر الله المجانية بالإيمان وحده بيسوع. إلا أن الأب متى يتناقض مع ما قاله عن عدم فعالية الناموس بنسبة فعالية جزئية للبر الذاتي أو طاعة الناموس، وذلك من خلال احتساب الله للأمانة الجزئية كأمانة كاملة أو كبرًا كاملاً.

وطبقًا لكلمات الأب متى فإن "هذا الكشف – عند بولس الرسول – لم يَنْفِ اعتقاده في أهمية الناموس والعمل بالناموس والتدقيق في الناموس قديمًا، باعتبار أن ذلك كان شهادةً وبرهانًا من واقع السلوك على أمانة الإنسان، ولو جزئيًا، تجاه بر الله حيث مسرة الله لم تُستعلن قط إلا في الإنسان المطيع والخاضع لوصاياه. إذن فالعمل بالناموس عند بولس لم يكن في نظره قادرًا أن يبرر بل كان شهادة على بر الله ومسرته في الإنسان" (ص ٩). يبدو أن ما يقصده الأب متى هنا هو أنه بالرغم من أن العمل بالناموس لا يبرر في حد ذاته إلا أنه يكشف عن مسرة الله بالإنسان الذي يعمل البر ولو بصورة جزئية. وكأن معايير التبرير لدى الله حدث لها إرخاء أو تنازل من طلب الطاعة الكاملة ليحتسب الطاعة الجزئية كطاعة كاملة. ويبدو أن دور الإيمان هنا تكميلي لسد الفجوة وتكميل ما نقص من الأعمال. وهذا ما يبدو لاحقًا (ص ٣٤) أن الأب متى يُلمح إليه باقتباسه لقول يعقوب "وبالأعمال أُكْمِلَ الإيمان" (يع ٢ : ٢٢). وبالمناسبة فإن يعقوب لا يقول هنا أن التبرير أُكْمِلَ بالأعمال، بل الإيمان. كما أن "أُكمِلَ" لا تعني أن الإيمان كان نقاصًا واحتاج التكميل، بل كان موجودًا وفي قيد النضوج والإثمار.

بالاتساق مع التبرير بالإيمان والأعمال معًا، وباحتساب الأمانة الجزئية كأمانة كلية، يستخدم الأب متى إبراهيم وأيوب وداود كأمثلة لمن تبرروا بأمانتهم. ولكننا سنركز هنا فقط على إبراهيم كنموذج قدمه الأب متى لمن اجتاز الإمتحان بنجاح فَمُنِحَ التبرير على أساس هذا النجاح (ص ١٢). يقول: "وهكذا نجد بمنتهى الوضوح أن إيمان إبراهيم كان يقوم أيضًا وبالدرجة الأولى على أساس بر الله المعلن بالإلهام لإبراهيم!! ومن شهادة إبراهيم هذه ندرك مقدار الثقة التي كانت عند إبراهيم أنه مستحيل على الله أن يجري قضاء مهما كان إلا والعدل والبر منطقه!! هذه الثقة الأكيدة ببر الله وعدله هي التي أنشأت في إبراهيم إيمانًا لا يتزعزع بأن أحكام الله بارة وقضاءه عادل جدًا وأوامره صادقة كل الصدق لا تحتمل إلا الخضوع الكامل الذي لا يشوبه شك. وهذا بعينه هو الذي جعله لا يتوانى عن تقديم ابنه ذبيحة حسب طلب الله دون أن يشك لحظة".

يخلص الأب متى من ذلك إلى نتيجة هي أن إيمان إبراهيم بالإضافة إلى أعماله، أو بالحري إيمانه المدعم بأعماله (وهذه عبارة مفضلة لدى الأب متى)، حُسِبَ له برًا: "وهكذا انطلق الإيمان الراسخ ببر الله عند إبراهيم إلى عمل شجاع في طاعة مذعنة لأمر الله. وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة مملوءة عجبًا فقد حسب الله إيمان إبراهيم المدعم بالطاعة والعمل إلى بر شخصي له ‘حُسِبَ إيمانه برًا’ (تك ١٥ : ٦، غل ٣ : ٦)! أي لما وثق في بر الله تبرر".

المغالطة من طرف الأب متى هنا هو أن الكتاب المقدس قال أن إبراهيم تبرر بالإيمان قبل أن يقدم اسحاق ذبيحة. ما بين تكوين ١٥ حين حسب الله لإبراهيم إيمانه برًا وبين تكوين ٢٢ حين قدم إسحق ابنه ذبيحة تقريبًا ٢٥ سنة فرقًا. أما عن قول يعقوب بأن إبراهيم تبرر بالإيمان إذ قدم إسحق ذبيحة فهو يقصد أن إيمان إبراهيم تبرهن بالأعمال. إذ أن الإيمان الحي يعبر عن نفسه بالثمار مثلما حدث مع إبراهيم. والإيمان الذي لا يتبرهن بالثمار هو إيمان ميت "إيمان بدون أعمال ميت". ما يقصده يعقوب هو أن التقديس (الظاهر في أعمال إبراهيم) هو برهان على حدوث التبرير (المتعلق بمركزه أمام الله).

يؤكد الأب متى لاحقًا (ص ١٤) اعتقاده بأن إبراهيم تبرر، لا بناء على عهد الله معه بالنعمة في تكوين ٢٢ كما يعلمنا سفر التكوين نفسه (أو على الأقل ليس فقط بعهد النعمة)، وكما يعلمنا بولس في رومية ٤ : ١٠، بل بناء على تقديمه لإسحق: "فالإنسان البار في العهد القديم ... هو الإنسان الذي يكون الله قد أجرى معه فحصًا وقضاءً وحكمًا وأصدر في النهاية قرارًا بتبريره أو براءته من اللوم، كإبراهيم الذي حُسِبَ له إيمانه برًا بعد الإمتحان القاسي جدًا الذي عبره بنجاح مذهل".

يتابع الأب متى قائلاً بأن إبراهيم نال برًا من الله بطاعته: "ولكن إبراهيم لم يقف عند حدود الإيمان ببر الله، بل تعدى ذلك إلى عمل نال عليه برًا من الله أو بر الله. وهكذا سلَّم إبراهيم للبشرية سر الإنتقال من الإيمان ببر الله إلى الدخول في بر الله بالعمل والطاعة" (ص ١٣). وكأنها سلسلة من التبرير، البر المبدئي المعلن لإبرايهم والذي بالإيمان به يقوده إلى أعمال طاعة تُحسب له بدورها برًا، وهكذا.

إلا أن اعتقاد الأب متى المسكين بأن الإنسان يتبرر بناء على اجتيازه للإمتحان يتضح أنه أمر لا لبس فيه لديه من قوله "وهكذا نجد أن البار (الصديق) في العهد القديم هو في الواقع إنسان برَّأه الله بعد أن اختبره فوجده حسب قلبه أو ناموسه" (ص ١٥). وكما نتوقع، فإن عكس هذا الإنسان الصديق الذي يعلن الله براءته بناءً على اجتيازه التجربة بنجاح، يوجد الإنسان الشرير الذي يدان بناء على إخفاقه في اجتياز التجربة "أما عكس البار فهو الشرير ... وهو الإنسان الذي يدينه الله بسبب سقوطه في الإمتحان" (ص ١٥). إن هذا أبعد ما يكون عن التعليم المصلح بأن الله يبرر الفاجر على خلاف واقعه الملىء بالإخفاق والفجور، أو كما قال لوثر أننا "خطاة مبررون".

البار لدى الأب متى، إذًا، ليس هو الذي أخفق في طاعة الناموس بصورة كاملة فوجد الحل في هبة البر المجانية، بل هو الأمين الذي يحيا الوصايا بأمانة: "وكلمة ‘بار’ في العهد القديم لها مرادف مساوٍ لها تمامًا بالعبرية ‘أميناه’ وهي قريبة من نطقها ومعناها من كلمة أمين بالعربية ... وينصب معناها على الأمانة في تنفيذ وصايا الله مهما اكتنفها من تعب وشكوك وعثرات وظلمة وتهديد ‘والبار (أميناه) بإيمانه يحيا’ (حب ٢ : ٤). بمعنى أن الإنسان بسبب أمانته في الله وفي تتميم وصاياه ينجو حتمًا من كل الفخاخ التي تُنصب حوله". (ص ١٦)

يخلط الأب متى أيضًا بين الأعمال الصالحة التي يُزعم أنها تبرر وبين الأعمال الصالحة كثمار للتبرير. والفرق بين الإثنين كالفرق بين السماء والجحيم. أن تجعل أعمالك أساس تبريرك هو عكس أن تجعل تبريرك أساسًا لأعمالك. التبرير يحدث أولاً ثم يثمر فينا بأعمال البر. تحت عنوان "لكي نلتحم في بر الله، يلزمنا خضوع كلي لله وإنسجام في العمل بوصاياه" (ص ٣٤)، يقول الأب متى "ولكن من أخطرالأمور أن يظن البعض أن الإيمان المطلوب للتبرير هو مجرد ثقة شخصية في الله تعتمد على القوة النفسانية أو القدرة العقلية، أو مجرد تعهدات نقولها في الصلاة ونحن منفعلون، يستحيل أن تكون المواهب السمائية رهن قدرات نفسانية". وإن لم يكن الإيمان ثقة (كما قال كاتب العبرانيين وكما عرّفه رجال الإصلاح) فماذا يكون إذن؟ يجيب الأب متى بأن "الإيمان المطلوب للتبرير يلزم أن يكون على مستوى العمل الروحي، أي على مستوى الخضوع والتسليم لله بالمشيئة والفكر وبالعمل معًا، أي يلزم أن تشهد أعمالنا لإيماننا كما شدد على ذلك يعقوب الرسول". وهنا، فضلاً عن حديثه عن التبرير بأنه اجتهاد شخصي "نلتحم في بر الله"، وبالإضافة إلى قوله أن الثقة وحدها لا تبررنا، يمزج الأب متى بين الإيمان والأعمال في لزوم التبرير في قوله "يلزمنا الخضوع ... والعمل".

يتابع الأب متى مزجه للإيمان والأعمال كضرورة اقترانهما معًا للتبرير: "الإيمان الذي يبرر هو إيمان صابر محتملٌ صافحٌ مذعنٌ، إيمان باذل بالفرح، عامل بالمحبة، متألم بالشكر، إيمان ناطق بفضل الله ورحمته في الضيق والحزن حتى ومن أتون التجربة".

وقد تظن أن الآب متى عندما يقول أن "عمل الناموس لا يبرر" (ص ٣٥) هو أنه يقصد العقيدة الإنجيلية بأن "التبرير بالإيمان وحده". إلا أنه يرى فرقًا بين عمل الناموس وعمل الإيمان. فالأول لا إيمان له، بينما الثاني يمزج الإيمان بالأعمال. يقول الأب متى: "لذلك يلزم أن ننتبه دائمًا إلى كل الآيات التي وردت في رسائل بولس الرسول والتي ينص فيها على أن الإيمان هو المدخل الوحيد لبر الله". إلى هنا يبدو الكلام معقولاً. لكن لاحظ العبارة التالية التي تظهر مزج الإيمان بالأعمال والذي هو ليس سوى خلطًا للناموس بالنعمة: "إذ أنه فيها جميعًا، وهو لا يلغي (أي بولس) العمل الروحي أو السلوك بالتقوى الملازم للإيمان، وإنما يريد فقط كما سبق وقلنا أن يلغي الناموس والعمل بالناموس كأساس للتبرير، ليضع مكانها الإيمان بالمسيح الذي لا يمكن بلوغه إلا بالخضوع العملي والسلوك المشهود له لكل وصاياه". كيف يكون الإيمان عاملاً بالمحبة وفي نفس الوقت لا يمكن بلوغه إلا بالخضوع العملي؟ وكيف يكون الإيمان شىء مطلوب للتبرير وفي نفس الوقت يكون الإيمان في حد ذاته غاية نتوقعها؟ إن الأب متى المسكين لم يجعل فقط التبرير، كما سيأتي الذكر، شيئًا معلقًا إلى يوم الدينونة، بل الإيمان أيضًا بالنسبة له شىء يسعى إلى بلوغه.

الأب متى المسكين يخلط بين عقيدتيّ الخلاص (السوتيريولوجي) والكنيسة (الإكليزيولوجي)

رأينا كيف قال الأب متى سابقًا أن المعمودية واسطة للتبرير. بالاتساق مع هذا ينسب الأب متى التبرير إلى كل من المعمودية، والإفخارستيا (مائدة الرب)، والإتحاد بالكنيسة. وفي هذا خلط للسوتيريولوجي بالإكليزيولوجي: "لذلك فهو وإن كان في البداية تبريرًا فرديًا لكل واحد بمفرده لخبرة شخصية خاصة كما يحدث في المعمودية، إلا أنه في النهاية يجعلنا متحدين معًا لنصير أعضاء لجسد واحد كما نحسه في الإفخارستيا. لأنه يستحيل أن يصير الإنسان بارًا خارج جسد المسيح أو خارج الجماعة المتحدة بروح المسيح. فالتبرير يخلص الفرد ليصنع الكنيسة، يعمد ليقدم إلى الإفخارستيا" (ص ٣٣).

وثمة ملاحتظتان هامتان على الفقرة السابقة. الأولى هي أن متى المسكين يرى أن التبرير سرائري. بمعنى أنه يحدث من خلال ممارسة الفرائض، أو الأسرار الكنيسة كما يدعوها هو، المعمودية والإفخارستيا. ولأنه لا يمكن للتبرير أن يحدث بدون المعمودية والإفخارستيا اللتان تخدمنا بهما الكنيسة، فمن المستحيل أن يتبرر المسيحي خارج الكنيسة. لاحظ أنه لا يقول أن الإنسان لا يمكن أن يتبرر بدون كرازة الكنيسة بالإنجيل، بل بدون أسرار الكنيسة. لكن التبرير لديه يبدأ فرديًا في المعمودية، ليوحد الفرد مع الكنيسة من خلال الإفخارستيا. هو تبرير فردي يصير جماعي من خلال ممارسة سرا المعمودية والإفخارستيا. الملاحظة الثانية هنا هو أن متى المسكين يبدو وكأنه اقترب من المنظور المحدث لبولس والذي يعلم بأن التبرير يخص الإكليزيولوجي وليس السوتيريولوجي. التبرير ليس إعلانًا قضائيًا بواسطة الله (أو على الأقل ليس كذلك فحسب)، بل يخص مَنْ ينتمي إلى الكنيسة "التبرير .. يصنع الكنيسة". أضعف الإيمان، فإن الأب متى يشترك مع المنظور المحدث في خلط عقيدة الخلاص بعقيدة الكنيسة.

الأب متى المسكين يقاوم العقيدة البروتستانتية صراحة ويعلّم بأن التبرير شىء يُمكن أن يُفقد

مرة أخرى أيضًا، يمزج الأب متى بين التبرير والتقديس، وبين الإيمان والأعمال، في عبارة صريحة ينتقد فيها العقيدة البروتستانتية التي تعلّم بأن التبرير إعلان قضائي يصدره الله في لحظة واحدة ولا يُمْكِن أن يُفقد. يقول الأب متى "وهذا مما جعل كثيرين من البروتستانت يعتقدون أنه بمجرد أن يحس الإنسان بالخلاص يظن أنه قد خلص نهائيًا بفعل ميكانيكي، حيث لا يكون رجوع في ذلك قط" (ص ٣٦). في العبارة التالية لذلك يقدم الأب متى التبرير على أنه رد فعل مستمر من طرفنا على فعل المسيح على الصليب، وأنه مَتَىَ توقف رد فعلنا فإن التبرير شىء يمكن أن يُفقد "ولكن الحقيقة أن هذا الشعور أو هذه العقيدة فوق مستوى الواقع الإيماني، لأن التبرير فعل يعتمد على رد فعل، فالفعل قد كمل حقًا بسفك دم المسيح ولا رجعة فيه. ولكن رد الفعل الذي هو مدى استجابتنا وخضوعنا وتكريمنا بسفك دم المسيح الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالعمل بوصية المسيح، هذا لا نستطيع أن نقول إنه لا رجعة فيه بل كثيرون رجعوا في استجابتهم حتى إلى حد الإنحدار والتجديف. إذن، فإمكانية توقف عمل تبرير الله لنا تتهددنا إذا نكثنا العهد، أو إذا تمسكنا ببر أنفسنا، وعاندنا الروح، حيث نفقد بر الله وينحسر عنا فعل دم المسيح" (ص ٣٧).

إن كان التبرير فعل مستمر من طرفنا، أو بالحري رد فعل على فعل المسيح، إذًا فمن المنطقي أن التبرير يُفقد إن توقفت ردود أفعالنا. إن هذا يثير في الحال سؤالاً حول ما إذًا كانت عطايا الله بلا ندامة. وما إذا كان الله كقاضٍ يبرر الفاجر يمكن أن يعود ويسحب قضاءه. إن الأب متى يجعل فعالية تبرير المسيح متوقفة على الأمانة الفردية. وهو بهذا يجعل إمكانية التبرير ضربًا من المستحيل. تحت رحمة أمانة الإنسان وليس هبة النعمة في إعلان الفاجر مبررًا.

وفي عبارة خطيرة أخرى تُفْصِحُ عن عقيدة الأب متى، والتي هي أبعد ما تكون عن الإيمان الإنجيلي، والتي أيضًا لا تختلف عن هجوم البابا شنوده على الخلاص في لحظة، يقول الأب متى "وهنا يلمع أمامنا جانب من جوانب السرية لتبرير الله لنا بواسطة صليب المسيح، وهو أن التبرير الذي أكمله لنا المسيح على الصليب لا يؤول إلينا بالإيمان بطريقة آلية كأن نصبح في لحظة إذا ونحن مخلصون!!" (ص ٤٢). ثم يتلي الأب متى ذلك بعبارة تدل على خلط التبرير بالتقديس ومزج الإيمان بالأعمال: "تبرير المسيح لنا قوة فعالة في إنساننا الجديد نعبر بها من قضاء الله إلى عفوه، من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح، من ظلمة إلى نور، من دينونة إلى بر، وذلك خطوة خطوة مع المسيح ‘بإيمان لإيمان’ .. ومن ‘رجاء لرجاء’ فصليب المسيح لا ينهي على خضوعنا لقضاء الله وتأديبه بل يهيئنا له بمؤازرة ونعمة".

تحت عنوان آخر به خلط بين التبرير والتقديس "الخطيئة تعطل عمل التبرير" (ص ٢٩)، يقول الأب متى أن التبرير يمكن أن يفقد مفعوله "أية مهادنة مع الخطيئة بصورة مستمرة سيكون معناها توقف في مفعول التبرير المجاني، ورجعة إلى الدخول في قضاء الله! ومن هو كفؤ لهذا؟" فضلاً عن الخلط بين التبرير والتقديس فإن الأب متى يرى أن التبرير شىء يمكن أن يُفقد. ويمكن أن يتوقف مفعوله. ويمكن أن يكون فيه رجعة. مرة أخرى، كيف يمكن أن يُفقد التبرير بينما علّم بولس مرارًا أنه هبة الله (رو ٥ : ١٥ - ١٨، ٦ : ٢٣)؟

الأب متى المسكين يرى أن المسيحي ينبغي أن يعيش بين حالة من الثقة في العفو والخوف من الدينونة

إن كان التبرير يمكن أن يُفقد في حالة المهادنة مع الخطية، يصير من المنطقي إذًا أن يعيش المسيحي في حالة من الخوف من الدينونة. تحت عنوان "التبرير يتثبت أو يتزعزع بالسلوك" يقول الأب متى ما مفاده أن التبرير فعل مستمر ومتنامي لكون الدينونة تتطلب المزيد من التبرير "ومهما كان شعورنا بتبرير الله لنا، فلا ينبغي أن ننسى أننا قادمون جميعًا على دينونة تتطلب مزيدًا من التبرير!!" (ص ٣٧).

تحدث الأب متى أيضًا عن التبرير "كحالة نتوقعها" ينبغي أن نعيش في ضوءها. وأن المسيحي الذي يتوقع التبرير برجاء بالعفو في المستقبل، يحيا الآن في ظل الخوف من الدينونة القادمة كمحفز لله للعيش في جهاد وسهر روحي وضد الطمأنينة الكاذبة والرجاء الكاذب. حتى أنه يرى أن المسيحي يعيش في حالة من التوتر بين نقيضين: "ثقتنا بالعفو والغفران بالدم"، والتي يجب أن تكون متوازنة ومتعادلة مع "خوفنا من قضاء الله والدينونة المزمعة أن تكون بحسب الأعمال" (ص ٣٩).

يختم الأب متى كتابه بهذه العبارة التي يخلط فيها بين التبرير والتقديس كنتيجة لكون الإنسان يعيش متوترًا بين ضدين: "لأن التبرير معناه أن نحيا بالروح في المسيح مصلوبين معه للعالم والجسد والخطيئة". ويخلط أيضًا بين الإيمان وأعمال البر التي تأتي كثمار له: "فالتبرير قوة الحياة الجديدة في المسيح يسوع، وهو النور الذي على هداه نلتمس الطريق إلى الحياة الأبدية، لأننا في تبرير المسيح لنا نأخذ منه شركة في قوة موت لشركة في قوة قيامة على مدى الطريق كله ... بل هو (التبرير) لهب ذو وقود إلهي يدخلنا في حركة ونمو وتغيير لا يهدأ، يحده من اليمين سيف نار قضاء الله المتقلب (الخوف من الدينونة)، ومن اليسار نور الحياة الأبدية (رجاء الحياة) الذي يقودنا إلى الخلود ويحجز عنا طغيان الظلمة الخارجية على مدى الطريق" (ص ٤٤).

خاتمة 

فضلاً عن كل ما سبق، لم يقل الأب متى شىء عن الطاعة التسليمية والطاعة الإيجابية للمسيح، واللتان هما في صميم التبرير بالإيمان وحده. كما أن عبارة "التبرير بالإيمان وحده" لم تأتي مطلقًا في كتابه. ولم يذكر شىء عن كون الإيمان مجرد واسطة للتبرير وليس عملاً في حد ذاته نستحق بناء عليه عطية الله. لهذا، فأنا أتعجب كل التعجب من إنبهار عدد ليس بقليل من البروتستانت بكتابات الأب متى المسكين. ورغم أن لهم مطلق الحرية في ذلك، إلا أن هذا لا يعني أنهم متسقون مع عقيدتهم الإنجيلية المصلحة. بل ولا يعني سوى شيئًا واحدًا، أنهم لا يعلمون العقيدة المصلحة كما ينبغي. وإلا لما كان هذا موقفهم مما كتبه الأب متى. كما أني أتعجب كل العجب من اعتقاد الكثيرين من الأقباط الأرثوذكس بأن الأب متى يعلّم تعاليمًا بروتستانتية. وهذا أيضًا بدوره يدل على أن الأقباط الأرثوذكس سمعوا أقاويل مشوهة عن التبرير طبقًا للتعليم المصلح وأنه ليس لديهم مفهومًا صحيحًا عنه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس