إشارات غضب الله وعدله في الصليب

الطبيعة القضائية لموت المسيح


أكثر عقيدة إنجيلية تتعرض للهجوم، من داخل وخارج الحركة الإنجيلية، هي البدلية العقابية والمفاهيم المرتبطة بها مثل غضب الله وعدله. وإحدى الحيل المستخدمة لذلك هي إعتراف البعض بوحي الأناجيل وإنكار رسائل بولس وكأن بولس يقدم تأويلاً لا تقدمه الأناجيل لنفسها. ظنًا منهم أنه لا يوجد بالأناجيل أية إشارات إلى غضب الله أو عدله في كفارة المسيح. لكن الأناجل بها الكثير من النصوص والحقائق التي تشير إلى الطبيعة العقابية لموت الرب يسوع المسيح. مثل النصوص التي تتحدث عن الخطية الأصلية الأمر الذي يفترض منطقيًا الإحتساب القضائي (مت ١٥ : ١٩). وتعليم المسيح بأن الخطية دين (واغفر لنا ديوننا كما يقول الأصل اليوناني، مت ٦ : ١٢). وأنه جاء فدية عن كثيرين (مت ٢٠ : ٢٨). وكونه حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يو ١ : ٢٩). ومن لا يؤمن به يمكث عليه غضب الله (يو ٣ : ٣٦).

إلا أن الأناجيل تفرد مساحة كبيرة منها إلى موت المسيح، مما يدل على مركزية هذا الحدث في الرواية الإنجيلية. يقول الدكتور مارتن لويد جونز: "كل واحد من الأناجيل هو كتاب قصير نسبيًا، ومع ذلك فإن الشيء المذهل هو أنه في كل منها يُخَصَّصُ ثلث المساحة تقريبًا لموت ربنا. إنه بالضبط ثلث متى. ما يقرب من ربع لوقا. وفي حالة مرقس ويوحنا يزيد العدد عن الثلث". لكن فضلاً عن المساحة الكبيرة التي تخصصها الأناجيل لحدث الصليب، الأمر الذي يدعونا لأن نقضي وقتًا كافيًا في التأمل والدراسة لهذا الحدث المركزي والرهيب، فإن الإشارات إلى غضب الله وعدله فقط في الصليب عديدة وشديدة الثراء اللاهوتي.

إن الكثير من الإشارات التي سنتناولها عن غضب الله في الصليب تفترض العلاقة العهدية مع الله. العلاقة العهدية بين الله والإنسان تعني أن هناك جانب قضائي جوهري في تلك العلاقة. العهد يعني إلتزامات من الطرفين، الرب والإنسان. الرب، في تنازله ونعمته، وعد الإنسان الشركة والبركة في حالة الطاعة، وفي عدله أنذره بالإنفصال عنه واللعنة في حالة العصيان. لهذا يغضب الرب على الإنسان وخطيته بسبب خرقه لتلك العلاقة العهدية. والسطور التالية تتناول النصوص والإشارات التي تتكلم عن غضب الله وعدله في الصليب مع الأخذ في الإعتبار العلاقة العهدية كخلفية لها. مما يعني أنه يبنغي تفسير أحداث موت المسيح في ضوء خلفية العهد القديم.

ثمة ملاحظة أخيرة قبل أن نتناول إشارات غضب الله وعدله الواردة بمشهد الصليب. نحن لا نحاول إبراز جانب الغضب والعدل والقضاء على حساب محبة الله ونعمته ورحمته، وكأن هذا هو كل ما يوجد في الصليب. أو كأننا نجد لذة مازوخية في الحديث عن لعنة الله وغضبه دون محبته. على العكس من ذلك، إذ أنه بالحديث عن غضب الله وعدله في الصليب تبرز محبة الله بصورة تلقائية. لأن من تحمّل هذا الغضب والعدل عنا هو البديل، الأمر الذي يجعل محبة الله لنا تضيء كالشمس في مشهد الصليب.

أو طبقًا لكلمات مكارثر:

"يجب علينا الحفاظ على منظور متوازن بعناية، ونحن نتابع دراستنا لمحبة الله. لا يمكن فصل محبة الله عن غضبه، والعكس صحيح. كما أن محبته وغضبه لا يعارضان بعضهما البعض كالأبيض والأسود. كلا الصفتان ثابتتين، كاملتين، دون مد أو جزر. غضبه يتعايش مع محبته. لذلك، لا يتناقض الاثنان أبدًا ... وفوق كل شئ، يجب ألا نضعهم في مواجهة بعضهما البعض، كما لو كان هناك تباين ما في الله". كما أن الناموس يظهر فشلنا وعجزنا فيأخذنا إلى نعمة الإنجيل، وكما أننا لا نستطيع أن نتمتع بنعمة الإنجيل إن لم نقر بحكم الناموس فينا، هكذا أيضًا كل من عدل الله ومحبته. إن عدل الله يشير إلى محبته، ومحبته تفترض عدله. بهذا التحفظ أتركك مع أولى ملامح غضب الله وعدله في الصليب في رحلة نبدأها بصلاة جسثيماني "أجز عني هذه الكأس" ونختمها بصيحة الإنتصار "قد أكمل".

أجز عني هذه الكأس

الكأس في الكتاب المقدس تشير إلى غضب الله. فنقرأ عن كأس غضب الله للشرير "لأن في يد الرب كأسًا وخمرها مختمرة. ملانة شرابًا ممزوجًا. وهو يسكب منها. لكن عكرها يمصه، يشربه كل أشرار الأرض" (مز ٧٥ : ٧ – ٨، مز ١١ : ٦ – ٧). ويخبرنا الأنبياء عن كأس غضب الرب على شعبه أورشليم "قومي يا أروشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه، تفل كأس الترنح شربت. مصصت" إلا أن الرب يقرر العفو عن أورشليم "هكذا قال سيدك الرب، وإلهك الذي يحاكم لشعبه: هأنذا قد أخذت من يدك كأس الترنح، تفل كأس غضبي. لا تعودين تشربينها في ما بعد" (إش ٥١ : ١٧ - ٢٢). بل إن الأمم بدورهم أيضًا سيرتشفون ثمالة كأس غضب الرب أيضًا "لأنه هكذا قال لي الرب إله إسرائيل: خذ كأس خمر هذا السخط من يدي، واسق جميع الشعوب الذين أرسلك أنا إليهم إياها" (إر ٢٥ : ١٥ - ١٦). إن كأس الغضب في أسفار الأنبياء هو أن يحصد إسرائيل كل اللعنات الواردة في تثنية ٢٨ كعقاب لهم على خرقهم للعلاقة العهدية مع يهوه. وسيعطى كأس غضب الله أيضًا في أحداث النهاية للأشرار (رؤ ١٤ : ١٠، ١٦ : ٩).

لقد أخذ الرب يسوع المسيح مكان الأشرار وإسرائيل والأمم عندما تجرع كأس غضب الله حتى الثمالة بدلاً منهم. وهذه أولى ملامح غضب الله والدنيونة في مشهد الصليب. ففي صلاة الرب يسوع في جسثيماني نقرأ: "يا أبا الآب كل شىء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس" (مر ١٤ : ١٦)، وفي قوله لبطرس أيضًا إشارة سابقة إلى هذه الكأس: "الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها" (يو ١٨ : ١١). إنها كأس الألم، والموت، واللعنة، والإنفصال عن الله والناس والخليقة بأكملها. إنها كأس غضب الله. كأس الترنح والسخط التي كان من المفترض أن يشربها كل مؤمن، شربها الرب يسوع المسيح حتى آخر قطرة فيها. كانت كأسًا مرعبة حتى أنه أرادها أن تعبر عنه إن أمكن. لكن أخذها هو بنفسه من يد الغضب الإلهي. ليعطينا بدلاً منها كأس الخلاص "كأس الخلاص أتناول، وباسم الرب أدعو" (مز ١١٦ : ١٣).

تقول الرسالة إلى ديوجنيتوس:

"أَعْطَى ابنه فدية عَنَّا، القدوس من أجل العصاة، الذي بلا لوم من أجل الأشرار، البار من أجل الأثمة، غير القابل للفساد من أجل الفاسدين، السرمدي من أجل المائتين. فأي شيء آخر كان قادرًا على تغطية خطايانا سوى بره؟ بواسطة مَنْ آخر سوى ابن الله كان ممكنًا لنا نحن الأشرار الآثمين أن نتبرر؟ يا لها من مبادلة حلوة! يا له من عمل لا يُسْبَر غوره! يا له من خير يفوق التوقعات! حتى أن شر الكثيرين طُمِرَ في شخص بار واحد، وأن بر شخص واحد يبرر عصاة كثيرون".

أه أيتها المبادلة الحلوة، أخذ كأسي، كأس الغضب، ليعطني كأسه، كأس الخلاص! البر والرحمة تلاثما! العدل والمحبة تعانقا!

ويُسَلِّمُونَهُ إلى الأمم

عندما دخل الرب في علاقة عهدية مع إسرائل حذرهم، طبقًا للشروط الجزائية في ذلك العهد، أن تمردهم عليه سيؤدي إلى أن تسليمهم للأمم في السبي. يقول الرب لشعبه في الأصحاح العهدي الشهير من سفر التثنية "بنين وبنات تلد فلا يكونون لك، لأنهم إلى السبي يذهبون" (تث ٢٨ : ٤١). والعكس صحيح، إن رجعوا عن طرقهم وتابوا إلى الرب وهم مسبيون يرد الرب سبيهم ويرحمهم فيعود ويجمعهم من جميع الشعوب التي بددهم إليها (تث ٣٠ : ١ - ٣).

والسبب في ارتباط السبي بغضب الله هو أن أرض إسرائيل كانت بمثابة الجنة الجديدة التي يسكن فيها الله مع شعبه الذي أنقذه من بين الأمم وقدسهم كخاصته. لكنهم لم يحفظوا تلك العلاقة مع الرب فَطُرِدُوا هم أيضًا خارج جنتهم إلى حيث يوجد الأمم الذين لا يرضى عنهم الرب. إن في سبي اليهود ووجودهم بين الأمم علامة أن الرب غير راضٍ عنهم، وغاضب عليهم، وكأنهم لا يختلفون في نظره عن الأشرار الوثنيون (إش ٣٤ : ٢). كان الخروج من مصر هو الخلاص، والسبي بالإرسال إلى الأمم الوثنية مرة أخرى، والذي هو عكس للخروج، هو الدينونة. لهذا، بعد أن يسرد آساف كيف خلّص الرب إسرائيل من بين الأمم، من أرض مصر، وأسكنهم في أرض تفيض لبنًا وعسلاً، عادوا وعبدوا آلهة الأمم التي دانها الرب، وعصوا عليه، وفعلوا نفس الفجور الذي كان يفعله الأمم، فأتت عليهم دينونة الرب في السبي كالنتيجة الحتمية لذلك: "وسَلَّمَ للسبي عِزَّهُ وجلاله ليد العدو. ودفع إلى السيف شعبه، وغضب على ميراثه" (مز ٧٨ : ٦١ - ٦٢).

يقول البشير مرقس أنه بعد إلقاء القبض على الرب يسوع المسيح أوثقوه وأسلموه إلى بيلاطس الأممي: "فأوثقوا يسوع، ومضوا به، وأسلموه إلى بيلاطس" (مر ١٥ : ١). حُوكِمَ الرب يسوع المسيح وقُضِيَ بصلبه بواسطة الأمم. ليس ذلك فقط، بل صُلِبَ منفيًا خارج أروشليم، خارج المحلة، وبعيدًا عن محضر الرب "لأن المكان الذي صُلِبَ فيه يسوع كان قريبًا من المدينة" (يو ١٩ : ٢٠). ويقول كاتب العبرانيين أنه "تألم خارج الباب. فلنخرج إذًا إليه خارج المحلة حاملين عاره" (عب ١٣ : ١٢ - ١٣). صُلِبَ يسوع على أيدي الأمم بعيدًا عن هيكل الرب وخارج المحلة.

وقد تنبأ الرب يسوع المسيح نفسه، أثناء صعوده إلى أورشليم، أنه سَيُسَلَّمُ إلى أيدي الأمم ليصلب "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم، فيهزأون به ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم" (مر ١٠ : ٣٢ - ٣٤). يقول الراحل سبرول أنه فضلاً عن كون صلب المسيح كان في حد ذاته صدمة للتلاميذ، فإن تسليمه لأيدي الأمم صدمة أخرى لا تقل عنها لما تحمله من معنى لدى يهود القرن الأول. وطبقًا لكلمات سبرول:

"كانت فكرة المسيح المتألم غريبة بما يكفي للتلاميذ، لكن فكرة أن هذا الألم سيحدث على أيدي الأمم كان تصديقها أصعب. ومع ذلك، هذا ما تنبأ به ربنا في قوله إنه سَيُسَلَّمُ 'إلى الأمم'. كان التسليم إلى الوثنيين أسوأ مصير يمكن أن يتخيله يهودي القرن الأول. تم تسليم اليهود إلى الوثنيين في السبي، والذي كان أسوأ جميع لعنات العهد لأنه كان يعني أن يكونوا خارج أرض البركة (تث ٣٢ : ٦٤ – ٦٨). فالتسليم إلى السلطات الأممية، إذً، يعني أن يكونوا تحت دينونة الله. يكتب سبرول في تعليقه على قول مرقس: أن يوضع يسوع في أيدي الأمميين هو أن يُرسل خارج جماعة العهد، خارج المحلة، خارج المكان الذي كان حضور الله فيه مرتكزًا ومركّزًا".

كان تسليم الرب يسوع المسيح إلى الأمم، ومن ثم الموت، بمثابة السبي، والنفي، عن محضر الله. وقيامته ودخوله إلى الأقداس هي العودة إلى محضر الله. دخل المسيح إلى الأقداس السماوية كسابق لأجلنا. إلى الجنة الحقيقية. حيث يوجد هو هناك الآن ونوجد نحن فيه في محصر الله والشركة الأبدية معه.

ثم خرجوا به ليصلبوه

نصل هنا إلى لحظة الصلب ذاتها (مر ١٥ : ٢٠)، إذ يُسَمَّرُ الرب يسوع المسيح من كلتا يديه ورجليه على صليب اللعنة، أو بالحري على الخشبة كما يسميها بطرس. في (١ بط ٢ : ٢٤) يقول الأصل اليوناني أن يسوع حَمَلَ خطايانا في جسده على "الشجرة" (إكسولون). وقد تُرْجِمَت في الكثير جدًا من ‏الترجمات الإنجليزية المحافظة، ما بين القديم منها والحديث، إلى "شجرة". يستعمل بولس نفس الكلمة (إكسولون) في ربط صريح بين الشجرة واللعنة: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل من علق على خشبة" (غلاطية ٣ : ١٣). يتصور اللاهوتي الكبير دان والاس بطريقة كتابية بارعة كيف وصل بولس إلى هذا المعنى بعد مقابلته مع الرب يسوع في الطريق إلى دمشق:

"كان بولس فريسي ابن فريسي، وقبل أن يقابل الرب في الطريق إلى دمشق، كان شديد الغضب تجاه المسيحيين، الذين ادعوا بجرأة أن الله بارك يسوع الناصري بإقامته من بين الأموات. لقد فهم بولس دلالات ذلك إن كان هذا صحيحًا: إن كان يسوع قد قام من بين الأموات، فإن العهد القديم – وهو الكتاب المقدس الوحيد الموجود آنذاك – لم يعد معصومًا من الخطأ. وهذا ما لم يستطع بولس تحمله".

ولكن لماذا شكلت قيامة المسيح معضلة بالنسبة لبولس؟ يجيب والاس عن هذا السؤال:

"النص الرئيسي الذي كان بمثابة المحرك خلف فكره اللاهوتي هو تثنية ‏٢١ : ٢٣: ‘أي شخص مُعلق على شجرة يكون تحت لعنة الله’ (ترجمة NIV). بالنسبة لبولس، كان من المستحيل أن يبارك الله يسوع بإقامته من بين الأموات، لأنه قد لعنه بتعليقه على شجرة. وعندما بدأ الرسل يعلنون أن الله قد أقام يسوع من بين الأموات، كان على بولس أن يتصرف. ولكن عندما إلتقى بالرب المقام من الموت على ذلك الطريق الترابي، كان يواجه الآن حقيقتين لا يمكن التوفيق بينهما على ما يبدو: الكتاب المقدس معصوم من الخطأ، ومع ذلك فقد أقام الله يسوع من بين الأموات". بما أن الكتاب المقدس المعصوم قال أنه ملعون كل من عُلِّقَ على خشبه، وبما أن يسوع قام من الأموات، إذا اللعنة التي تحملها يسوع لم تكن بسبب شيء فعله يسوع، بل كان يسوع بديلاً عن الخطاة في احتماله لتلك الدينونة.

ولا يمكن أن نفهم ما أنجزه آدم الأخير عندما عُلِّقَ على شجرة اللعنة إلا عندما ندرك أن هناك شجرة أخرى في الخلفية. إنها شجرة معرفة الخير والشر التي تسبب الأكل منها بواسطة آدم الأول إنزال اللعنة بالجنس البشري. الكلمة اليونانية المترجمة "شجرة" (إكسولون) في قولي بولس وبطرس السابق الإشارة إليهما هي ذاتها التي استخدمت في السبعينية في ‏تعبير "شجرة [إكسولون] معرفة الخير والشر" (تك ٢ : ١٧). ‏نحن هنا إذًا، أمام شجرتان وآدمان.

الشجرة الأولى هي شجرة معرفة الخير والشر، والثانية هي الشجرة التي عُلِّقَ عليها يسوع. والرجلان هما آدم الأول، وآدم الأخير. الرجل الأول أراد ارضاء لذته وزوجته، فأكل منها رغم كونها مُحَرَّمة، متمردًا على وصية الله ومشيئته. والرجل الثاني أراد ارضاء عدل الله وإتمام مشيئته، مع أنه لم يكن مضطرًا أن يُصلب، إذ كان بريئًا، بل بارًا، فَعُلِّق عليها. الأول حول الجنة إلى جحيم. والثاني حمل عقاب الجحيم محولاً إياه إلى فردوس. الإنسان الأول خُلِقَ تحت الوصية، فتمرد عليها. والإنسان الثاني، مولودًا تحت الناموس، خضع للوصية، مع كونه مصدر الناموس. الشجرة الأولى كانت لإمتحان الإنسان الأول، فسقط سقوطًا مدويًا. والشجرة الثانية أيضًا كانت لإمتحان الإنسان الثاني، فاحتمله بصبر، ولأن مسرة الرب بيده "تنجح"، رفعه الله وأعطاه اسمًا فوق كل إسم. صار الأول "عارفًا" للخير والشر بأكله من الشجرة المحرمة. أما الثاني فصار لنا "حكمة" من الله وبرًا وقداسة وفداء. بفعلة الأول دخل الموت وحلت اللعنة وصار الألم. بعمل الثاني صار لنا أعظم مما فقدناه بسبب الأول، فقد وُهِبَت لنا الحياة الأبدية، وبوركنا بكل بركة، وأُعْتِقْنَا من عبودية الفساد، وفي انتظار العتق النهائي من سكنى الخطية والألم. طوبى لمن نائبه الرجل الثاني، ويأكل من الثمار الحلوة للشجرة الثانية. ويا لتعاسة من نائبه الرجل الأول، ولا يزال يأكل من علقم الشجرة الأولى.

أحصي مع أثمة

ليس فقط أن الرب يسوع صُلب منفيًا خارج المحلة، وليس فقط عومل كمجرم "كأنه على لص خرجتم" عندما قُبض عليه، بل أُحصي أو حُسِبَ مع أثمة. يقول البشير لوقا تعليقًا على صلب الرب يسوع المسيح بين لصين واحد عن يمينه وآخر عن يساره أنه "أُحْصِيَ مع أثمةٍ" (لو ٢٢ : ٣٧). و"أحصي مع أثمة" لا تعبر فقط عن ظروف صلبه بين لصين، ولكن عن احتسابه مع البشر الآثمين واعتباره واحد منهم. الفعل اليوناني المترجم "أحصي" هو (logizomai) ويعني "يحتسب" و"يعتبر". وهذا النص اقتباس مباشر من (إش ٥٣ : ١٢). كما أن الكلمة اليونانية "لوجيزوماي" وردت أيضًا في الترجمة السبعينية كترجمة لكلمة "أحصي" في (إش ٥٣ : ١٢).

هذا المصطلح المحاسبي أو القضائي نجده أيضًا بكثرة في كتابات بولس مثل "فآمن إبراهيم بالله فحسب (لوجيزوماي) له برًا" ‏(رو ٤ : ٣)، أيضًا: "لأن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب (لوجيزوماي) لهم خطاياهم" (٢ كو ٥ : ١٩). إن هذا المصطلح المحاسبي القضائي يستحضر إلى الذهن غضب الله وعدله والدينونة التي تحملها الرب يسوع المسيح كمن "حُسِبَ" آثمًا.

يعلق كوستنبيرجر على المعنى الكتابي والإستخدام الرابيني لهذه الكلمة (لوجيزوماي) المترجمة "أُحْصِيَ":

"الفعل المستخدم لوصف هذا التقييم المُنْعِم الجديد للمؤمن هو logizomai ، وهو مصطلح حسابي ومحاسبي يشير عمومًا إلى احتساب قيمة لصالح شخص (عند استخدامه بشكل إيجابي) crediting أو استدانته charging (عند استخدامه بشكل سلبي). تُظهر اقتباسات بولس من تكوين ١٥ : ٦ ومزمور ٣٢ : ٢ أنه استعار هذا المصطلح من العهد القديم. علاوة على ذلك، ربما كان التعبير مناسبًا بشكل خاص في سياق بولس بسبب وجهة النظر الرابينية الشهيرة للدينونة الإلهية التي صورت الله كمحاسب كلي العلم حَافَظَ على سجل محاسبي ضخم سجل فيه بعناية خطايا الشخص على الجانب المدين من دفتر الحسابات وأعماله الجيدة على جانب الائتمان. في الدينونة، يقوم المحاسب الكبير بتدقيق حساب كل شخص، وتحديد درجة الائتمان النهائية للشخص، وإما أن يحكم على الخاطئ بالعقاب أو مكافأة بره".

ثم يطبق كوستنبيرجر هذه الخلفية الرابينية على فهم المعنى الذي يقصده بولس من الاحتساب القانوني أو القضائي:

"في التبرير، يرفض الله تحميل (المعنى السلبي لـ لوجيزوماي) الخطية إلى الجانب المدين من دفتر حسابات المؤمن (رو ٤ : ٨). ويحسب (المعنى الإيجابي لـ لوجيزوماي) الإيمان كبرّ في جانب الائتمان (رو ٤ : ٦). وهكذا، بناء على هذا القياس المحاسبي، يُحسب المؤمن بارًا تمامًا على أساس موت المسيح كذبيحة. وهكذا، يحسب الله إيمان الخاطئ إلى حسابه باعتباره البر".

لقد حَسب اليهود أن يسوع عوقب على خطاياه هو "ونحن حسبناه (لوجيزوماي) مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً" (إش ٥٣ : ٤). إلا أن يسوع لم يفعل خطية ولكنه حُسِبَ خاطئًا وآثمًا كالبديل عنا. لهذا يتداركون خطأهم في العدد التالي فيقولون "وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لآجل آثامانا. تأديب سلامنا عليه. وبحبره شفينا ... والرب وضع عليه إثم جميعنا ... ضُرِبَ من أجل ذنب شعبي"، فلم يُصْلَبُ فقط بين المجرمين، كواحد منهم، بل دُفِنَ بينهم أيضًا "وجُعِلَ مع الأشرار قبره".

إن ما قاله المسيح للذين جاءوا للقبض عليه كمجرم "فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون" (يو ٨ : ١٨) يعكس أيضًا ما حدث في الأجواء الروحية. حُسب يسوع، على عكس ما يستحق، بين الأثمة والمجرمين، عند صلبه ودفنه، بواسطة العدالة السماوية، لكي نُحسب نحن المجرمين، على خلاف ما نستحق، بين الأبرار والقديسين.

إلهي إلهي لماذا تركتني؟

كان حضور الرب في وسط شعبه امتيازًا في صميم علاقته العهدية بإسرائيل. اختارهم ليكونوا له شعبًا وليسكن في وسطهم إلى الأبد. كانت ذروة البركة أن يرفع الرب وجهه عليهم "يباركك الرب ويحرسك. يضىء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" (عد ٦ : ٢٤ - ٢٦). إلا أن التمرد المستمر على الرب كان يؤدي إلى أن يحجب وجهه عنهم ويتركهم بل ويرفضهم رفضًا. إن سكنى الرب وسط شعبه، والتمتع بنور وجهه، هو علامة على رضاه عنهم. كما أن حجب وجهه عنهم، وتركه لهم، إشارة إلى غضبه عليهم.

لقد عرف الرب منذ بداية علاقته بهم أن هذا سيحدث "وقال الرب لموسى: ها أنت ترقد مع آبائك، فيقوم هذا الشعب ويفجر وراء آلهة الأجنبيين في الأرض التي هو داخل إليها في ما بينهم، ويتركني وينكث عهدي الذي قطعته معه. فيشتغل غضبي عليه في ذلك اليوم، وأتركه وأحجب وجهي عنه، فيكون مأكلة، وتصيبه شرور كثيرة وشدائد حتي يقول في ذلك اليوم: أما لأن إلهي ليس في وسطي أصابتني هذه الشرير" (تث ٣١ : ١٦ – ١٧، أنظر أيضًا عد ٣٢ : ١٥، ٢ أخ ١٥ : ٢). إن أسفار الأنبياء مليئة بمفهوم ترك الرب لشعبه ورفضه إياهم بسبب خطيتهم. ليس مطلقًا طبعًا، لأن الرب سيسترد شعبه إسرائيل ويخلصهم. هذه اللغة العهدية، تشير إلى أن الترك هو الشرط الجزائي لتلك العلاقة، أو العقاب الذي على الإنسان أن يتحمله في حالة فجوره وراء آلهة آخرى.

في تلك اللحظة التي حجب فيها الله وجهه عن يسوع المسيح صرخ تلك الصرخة المرة "إلهي إلهي لماذا تركتني" (مت ٢٧ : ٤٦ ، مر ١٥ : ٣٤). تُرِكَ كمذنب، ورُفِضَ كعاصٍ. لم يعرف خطية لكنه عومل وكأنه هو نفسه الخطية "جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا" (٢ كو ١٥ : ٢١). كيف تنظرا عينا الله القدوستين إليه وقد وُضعت على رأسه كل خطايا مؤمنيه؟ كيف يرفع يهوه وجهه ويضىء على الذي كان بديلاً ونائبًا لكل الذين تركوا الرب ونكثوا عهده وعبدوا آلهة أجنبية وارتكبوا كل النجاسات التي ارتكبها الأمم؟ لقد احتمل المسيح على الصليب كل رفض وترك كان على الإنسان المتمرد على الله أن يتحمله بسبب كسره للعهد مع الرب.

يقول لوثر:‏

"وإذ رآنا أبانا الرحيم مقهورين ومسحوقين تحت لعنة الناموس، ... أرسل ابنه الوحيد إلى العالم ووضع عليه جميع خطايا الناس، قائلًا: ‏‎‘‎كن بطرس ذلك المنكر، كُنْ بولس المُضْطَهِد، المُجَدِّف والمقاوم الشرس، كُنْ داود الزاني، كُنْ ذلك الخاطئ الذي أكل التفاحة في ‏الجنة، كُنْ ذلك اللص الذي عُلِّقَ على الصليب، وباختصار، كُنْ أنت الشخص الذي ارتكب خطايا جميع البشر. فأنظر لذلك، ادفع ‏‏[الثمن] وقم بالإسترضاء من أجلهم‏‎’ ". ‏

لكن ذلك الذي تُرِكَ من الله، وحُجِبَ ضياء الوجه الأزلي عنه، وانقطعت الشركة بينه وبين الله، لم يُتْرَك أخيرًا في الهاوية، ولم يرفض إلى الأبد، لأنه استوفى كل مطالب العدل والغضب الإلهيين "لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فسادًا" (أع ٢ : ٢٧، ٣١).

ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة

للظلمة تاريخ مع الكون والبشر. وهي موضوع يمتد بطول تعاملات الله عبر التاريخ الفدائي. أول ذكر للظلمة في الكتاب المقدس كان في أحداث الخلق "وكانت الأض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه" (تك ١ : ٢). ثم نقرأ عن عمل الرب مع الظلمة في العدد التالي "وقال الله: ليكن نور، فكان نور". فضلاً عن إرتباط تبديد الظلمة بالخلق، ففي ثاني أهم ذكر للظلمة في الكتاب المقدس ألا وهو حادثة الخروج عندما ضرب الرب مصر بدينونة الظلام، نجد الظلمة مرتبطة بالدينونة: "ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء ليكون ظلام على أرض مصر، حتى يُلمس الظلام" (خر ١٠ : ٢١ – ٢٩).

الظلمة كانت أيضًا عقابًا أو شرطًا من الشروط الجزائية للعلاقة العهدية التي دخل فيها إسرائيل مع الرب في حالة عصيانهم عليه "فتتلمس في الظهر كما يتلمس الأعمى في الظلام" (تث ٢٨ : ٢٩). وإن كانت الظلمة المقصودة هنا غير مادية، كما أعتقد، فهي تذكرنا بذلك البرقع الموضوع على قلوبهم والذي يبطل في المسيح (٢ كو ٣ : ١٤ - ١٦). الظلمة أيضًا هي تلك الدينونة القادمة في السبي على المملكة الشمالية (إش ٨ : ٢٢)، وستكون دينونة الأنبياء الكذبة (إر ٢٣ : ١٢). والعهد الجديد يخبرنا أن الظلمة ستكون من نصيب الأشرار "فيطرحون إلى الظلمة الخارجية" (مت ٨ : ١٢)، جنبًا إلى جنب مع الملائكة المطروحين في سلاسل الظلام (٢ بط ٢ : ٤). الكتاب المقدس إذًأ، يستخدم الظلمة المادية للإشارة إلى الظلمة الروحية.

عندما خلق الرب الأرض كان على وجه الغمر ظلمة. فبدد الرب هذه الظلمة بخلقه للنور. الخراب الذي حل على الأرض بسبب السقوط، هو نوع من العكس أو الإنقلاب للخلق de-creation ، أي تدمير للخلق وإفساده. لهذا، فإن الظلمة الروحية والأبدية هما عكس ما قصده الله للخليقة منذ البداية. والفساد الروحي الذي ينتهي بالإنسان إلى الدينونة الأبدية، أو جهنم التي توصف بالظلمة الخارجية، هو عكس أو إنقلاب للخلق.

لهذا جاء الرب يسوع المسيح كالنور. لكن كان عليه أن يحتمل الظلمة المرتبطة بالدينونة والموت، كبديل عنا، لكي ينير لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل (٢ تي ١ : ١٠). كانت الظلمة التي حدثت عند صلبه إشارة إلى ظلمة الدينونة التي تحملها الرب يسوع المسيح كالبديل عن الخطاة "ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة" (مت ٢٧ : ٤٥). لقد احتمل الرب يسوع المسيح عقوبة ظلمتنا الروحية والأبدية التي نتجت عن رفضنا وتمردنا على الله الذي هو النور.

إن كانت الدينونة هي عكس (أو إنقلاب) للخلق الذي فيه بدد الرب الظلمة، فإن الخلاص يتضافر مع الخلق، أو بالحري تجديد الخلق، مرة أخرى، في عمل الرب يسوع المسيح الخلاصي. لهذا يوصف خلاص المسيح بأنه خلقًا جديدًا. ويتحدث عنه بولس كأنه إشراق "لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا، لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (٢ كو ٤ : ٦).

يصنع اللاهوتي ليجون دنكين هذه المقابلة بين الظلمة التي حلت على أرض مصر وبين الظلمة التي حدثت أثناء صلب الرب يسوع المسيح:

"لأنه في سحب بركة الله، وفي علامة الظلمة والدينونة هذه ضد مصر، لدينا نذير بتلك الظلمة، تلك الدينونة، ذلك الترك، ذلك الهجر الذي تحمله ربنا ومخلصنا يسوع المسيح نيابة عنا. لذلك، يرتبط الظلام تحديدًا بالترك في الكتاب المقدس. إنه تحذير رهيب يتم إعطاؤه هنا. قيل لمصر أن جميع أنواع الأحكام الإلهية العامة التي صنعها الله على وشك أن تُسحب ودينونته على وشك أن تكون ضدها تمامًا".

أنا عطشان

العطش هو إحدى اللعنات أو أحد الشروط الجزائية التي نصت عليها التوارة كالوثيقة التي تحكم العلاقة العهدية بين يهوه وإسرائيل. نقرأ "تُستعبد لأعدائك الذين يرسلهم الرب عليك في جوع وعطش وعري وعوز كل شيء" (تث ٢٨ : ٤٨). إن هذا الشرط الجزائي العهدي يشكل خلفية تحذير الأنبياء، بإعبتاراهم المُدَّعُون القانونيون ضد الشعب الذين يحاكمونهم طبقًا للوثيقة العهدية (التورة)، بأن دينونة العطش والجفاف ستأتي عليهم بسبب خرقهم للعلاقة العهدية مع الرب: "لئلا أجردها عريانة وأوقفها كيوم ولادتها، وأجعلها كقفر، وأصيرها كأرض يابسة، وأميتها بالعطش" (هو ٢ : ٣، مراثي ٤ : ٤). في العهد الجديد أيضًا يعلّمنا الرب يسوع المسيح أن الغني وهو يتعذب في الجحيم رفع عينيه طالبًا من إبراهيم أن يرسل "لعازر ليبلل طرف إصبعه بماء ليبرد لساني لأني معذب في هذا اللعيب" (لو ١٦ : ٢٤).

إن العطش الذي احتمله الرب يسوع المسيح على الصليب، فضلاً عن كونه عذابًا جسديًا، يخبرنا عن عطش آخر أعمق، على المستوى الروحي، كابده الرب يسوع المسيح كالبديل عنا نحن الخطاة. يقول يوحنا "بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فلكي يتم الكتاب قال: أنا عطشان" (يو ١٩ : ٢٨). احتمل الرب يسوع المسيح جدوبة الدينونة وعطش اللهيب نيابة عن الخطاة الفجار لكي يحول يبوسة اللعنة إلى إرتواء "وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا رروحيًا، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" (١ كو ١٠ : ٤).

كما أنه من منظور ما تجرع المسيح كأس الغضب، ومن منظور آخر احتمل يبوسة الدينونة. لهذا يُصَؤَّرُ الخلاص في الكتاب المقدس على أنه إرتواء وفيض (يو ٧ : ٣٧).

لكن، ماذا كان رد فعل صالبيه عندما قال الرب يسوع أنه عطشان؟ يجيبنا يوحنا "وكان إناء موضوع مملوًا خلاً، فملأوا إسفنجة من الخل، ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه. فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل. ونكس رأسه وأسلم الروح" (يو ١٩ : ٢٨ - ٣٠). في مرارة الخل أيضًا صورة أخرى لمرارة اللعنة التي احتملها الرب يسوع المسيح نيابة عن الخطاة الفجار. إن الخطية والخطاة يشار إليهم في الكتاب المقدس بالمرارة (تث ٢٩ : ١٨، عب ١٢ : ١٥). كما أن المرارة تشير إلى الدينونة ولعنة الناموس على الخاطيء (عد ٥ : ٢٤). إن مرارة الخل التي تجرعها الرب يسوع "فلما أخذ يسوع الخل قال قد أكمل" (يو ١٩ : ٣٠) هي إشارة للمرارة الروحية في كونه "صار لعنة" (غل ٣ : ١٣) و"جُعِلَ خطية" لكي "نصير نحن بر الله فيه" (٢ كو ٥ : ٢١). وكما حولت الشجرة (إكسولون) التي ألقيت في مارة مرارة مياهها إلي عذوبة (خر ١٥ : ٢٢ - ٢٥)، هكذا حولت الشجرة (إكسولون) التي صلب الرب يسوع المسيح عليها، مرارة الدينونة إلى عذوبة التبرير والمصالحة مع الله.

قد أكمل

بعدما خلق الرب آدم في الجنة صرح له بأن يأكل من جميع شجر الجنة فيما عدا شجرة معرفة الخير والشر. وحذره الرب من الخطورة البالغة للتعدي على هذه الوصية بقوله "وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر، فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت" (تك ٢ : ١٧). لكن حدثت الكارثة الكونية بتعدي آدم وامرأته على وصية الرب الصريحة بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ودخل الموت الذي حذر منه الرب إلى الخليقة. الموت الجسدي، والموت الروحي بالإنفصال روحيًا عن الله، وأخيرًا الموت الأبدي أي بالإنفصال أبديًا عن الله في الجحيم. هذا هو ثمن التعدي على وصية الرب. أو كما يقول بولس "أجرة الخطية هي موت". لكن نشكر الله لأن بولس لا ينهي عبارته بهذا بل يكمل "أما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رو ٦ : ٢٣).

آخر كلمة نطقها الرب يسوع المسيح كانت "قد أكمل" (يو ١٩ : ٣٠). وإلي جانب ما تعنيه هذه الكلمة بأنها إكمال لنبوات العهد القديم، وإكمال لمخطط الخلاص، وتتميم لتصريحات الرب الشخصية عن آلامه وموته، فهي تفيد أيضًا إكتمال دفع الثمن. تعبير "قد أكمل" في الأصل اليوناني هو "تيتلستاي"، وكان هذا التعبير بالذات يستعمله التجار في القرن الأول للتوثيق بأن الشئ قد دُفع ثمنه بالكامل. يقول قاموس مولتون وميليجان أنه كان يتصدر إيصال الإستلام عبارة "تيتلستاي" والتي كانت عادة ما تُكتب بصورة مختصرة. ويؤكد أيضا ذلك جون ماكارثر في شرحه لإنجيل يوحنا أن تلك الكلمة اليونانية المفردة "تيتلستاي" وُجدت علي برديات قديمة كإيصالات سداد للضرائب لتعني "مدفوع بالكامل". إن هذه اللغة القضائية، مرة أخرى، تدل على أن الرب يسوع المسيح تحمل غضب الله، ودينونته، ولعنة الناموس، وعقوبة الموت الأبدي، نيابة عن الخطاة الفجار.

يقول يعقوب "لأن من حفظ كل الناموس، وإنما عثر في واحدة، فقد صار مجرمًا في الكل" (يع ٢ : ١٠)، وبولس أيضًا يؤكد ضرورة حفظ الناموس بأكمله في قوله "ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" (غل ٣ : ١٠). لهذا يشير بولس في أكثر من مرة إلى إكمال الناموس (رو ٢ : ٢٧، ١٣ : ٨، ١٠، غل ٥ : ١٤). إن طاعتنا للناموس لا يمكن أن تحسب طاعة إن لم تكن طاعة كاملة وخالية من الشوائب من حيث الفكر والقول والدوافع والعمل، ودون أي خرق أو تقصير في أصغر الوصايا. لكن مَنْ منا استطاع أن يحفظ الناموس كاملاً؟ "الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (رو ٣ : ١٢).

إن الكلمة الإنتصارية للرب يسوع "قد أكمل" تستحضر إلى الذهن هذه اللغة القضائية. فقد أكمل الرب يسوع المسيح وصايا الناموس نيابة عنا "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سَيُجْعَلُ الكثيرون أبرارًا" (رو ٥ : ١٩). وهذا ما يُسمى في اللاهوت المصلح بالطاعة الإيجابية للرب يسوع active obedience ، أي البر الذي كان علينا فعله ولكننا لم نفعله. الرب يسوع المسيح أكمل أيضًا حكم الناموس فينا فاحتمل عنا الموت الذي نستحقه بسبب تعدينا على وصاياه "لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رو ٦ : ٢٣). وهذا ما يُسمى في اللاهوت المصلح بالطاعة السلبية passive obedience ، أي طاعة الخضوع للموت، ذلك الموت الذي كان علينا أن نحتمله. وهكذا أكمل الرب يسوع المسيح في حياته أعمال الناموس وحكمه فينا على الصليب.

إن الثمن الذي ابتدأ الرب بدفعه منذ مولده في العالم، بطاعته الإيجابية طيلة حياته، وأكمل سداده بموته على الصليب، يأتي في تمام الإتساق مع تعليمه بأن الخطية دين: "واغفر لنا ذنوبنا" (مت ٦ : ١٢) أي "ديوننا" طبقًا للأصل اليوناني. وقد جاءت بهذا المعنى (ديوننا) our debts في الكثير من الترجمات الإنجليزية الحديثة.

فكرة الثمن المدفوع نجدها أيضًا في تشبيه المسيح لملكوت السموات بتاجر يطلب لآليء حسنة فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما له واشتراها؟ وتعليقًا على هذا المثل يقول وليم ماكدونالد " ففي الجلجثة باع يسوع كل ما كان عنده ليشتري هذه اللؤلؤة. وكما أنّ اللؤلؤة تتكوّن داخل محارة بسبب الآلام الناتجة عن الإثارة (نتيجة دخول جسم غريب)، كذلك تكوَّنت الكنيسة من الطعنة التي طُعن بها جنب المخلّص، ومن الجروح التي جُرِح بها جسمه".

إن كل الإشارات السابقة، الكأس، التسليم للأمم، التعليق على خشبة اللعنة، الإحتساب مع الأثمة، الترك من الآب، الظلمة، العطش، وصيحة الإنتصار الأخيرة (قد أكمل)، ترسم لنا صورة أكيدة بالطبيعة العقابية البدلية لموت الرب يسوع المسيح.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس