التبرير القضائي لدى المصلحون البروتستانت طبقًا للمؤرخ الكنسي المعاصر ناثان بوسنيتز


في معرض إثباته لوجود تعليم التبرير القضائي بالإيمان وحده على مر التاريخ الكنسي، يقدم المؤرخ المسيحي المعاصر ناثان بوسنيتز خمسة أسباب يوضح فيها كيف وصل المصلحون إلى النتيجة بأن التبرير هو إعلان قضائي احتسابي imputed righteousness وليس تغيير تدريجي أو برّ يُغرس في الخاطىء infused righteousness كما ادعت كاثوليكية القرون الوسطى (ولا تزال). وعلى الرغم أن بوسنيتز يسعى لإثبات أن هذا المفهوم لم يستحدثه المصلحون كما تم اتهامهم، فهو يهتم إلى جوار ذلك بإبراز الأساسات الكتابية له. في كلا العهدين، القديم والجديد. السطور الآتية هي تلخيص حاولت أن يكون غير مخلّ لطرح بوسنيتز.

ثمة ملاحظة أخرى وهي أن هذه الأسباب الكتابية التي يسردها بوسنيتز في تأريخه، فضلاً عن كونها حجة ضد السوتيريولوجي الكاثوليكي، يمكن أيضًا أن نطبقها على الجدل المتعلق بالمنظور المحدث لبولس وإنكاره للتبرير القضائي. ويمكن أيضًا أن تكون حاسمة فيما يتعلق بتركيز اللاهوت الشرقي على الثيوسيس لإستثناء أو استبعاد البدلية العقابية من الصورة.

السبب الأول الذي يطرحه علينا بوسنيتز، فيما يتعلق برؤية المصلحون للتبرير على أنه إعلان قضائي يُحْتَسَبُ بناء عليه الفاجر بارًا، هو أن المصلحون تطلعوا "إلى العهد القديم، مؤكدين على أن كتبة العهد الجديد قد أسسوا فهمهم للتبرير على ما قد أُعْلِنَ سابقًا في العهد القديم". أي أن المصلحون حذوا حذو الرسل في تأسيس مفهوم التبرير القضائي على نصوص العهد القديم. يضيف بوسنيتز أن الأصل العبري لكلمة "بر" دَعَمَ الفهم القضائي للتبرير لدى المصلحين، إذ أنهم "لاحظوا الطبيعة القضائية للغة التبرير في العهد القديم، حيث تشير صِيَغ كلمة صدق sadaq (بمعنى ‘أن تكون عادلاً’ أو ‘بارًا’)، إلى إعلان (الخاطىء) بارًا".

يقدم بوسنيتز من كتابات المصلحين بعض الأمثلة التي تؤيد ذلك. فمثلاً، طبقًا لميلانكثون (تلميذ لوثر): "وفقًا للاستخدام العبري للمصطلح في العهد القديم، فإن التبرير هو أن تُعْلِنُ أو تَحْتَسِبُ (شخص) بار". يطرح بوسنيتز مثال آخر على ذلك، وهو هنا ليس أقل من كالفن نفسه: "تستمد كلمة 'يُبرر' معناها من الاستخدام القضائي لها في العهد القديم". بالإضافة إلى هذين المثالين، المصلح مارتن كيمنتس بدوره استخدم "نفس الحجة من خلال الإستعانة بالترجمة السبعينية – الترجمة اليونانية القديمة للعهد القديم العبري – ناظرًا بالتحديد إلى الحالات التي استخدم فيها المترجمون الكلمة اليونانية dikaioō (‘يبرر’) لترجمة الكلمة العبرية sadaq بالنسبة للتبرير القضائي (في نصوص مثل تك ٤٤ : ١٦، تث ٢٥ : ١، ٢ صم ١٥ : ٤، ١ مل ٨ : ٣٢، أي ١٣ : ١٨، ٢٧ : ٥، ٣٢ : ٢، ٤٠ : ٨، مز ٥١ : ٤، أم ١٧ : ١٥، إش ٥ : ٢٣، ٤٣ : ٩، ٢٦)".

يتابع بوسنيتز قائلا أن كيمنتس "استشهد بأمثلة من أعمال الرسل ١٣: ٣٨ - ٣٩، ١١ : ١٥، رومية ٣ : ٢٤، ٤، ٥ : ١٠ - ١١، ١٩، غلاطية ٢ : ١٦، وأفسس ٢ : ٥ لإثبات أن كتبة العهد الجديد فهموا تمامًا – وحافظوا – على الصفة القضائية للمصطلحات العبرية". ثم يختم بوسنيتز هذه النقطة بالقول أن المصلحون رأوا أن استخدام الرسل للفعل "يبرر" في العهد الجديد أظهر فهمهم للمفهوم الموازي له في العهد القديم.

السبب الثاني الذي جعل المصلحون يفهمون التبرير قضائيًا، طبقًا لبوسنيتز، هو أنهم دافعوا "عن فهم قضائي للتبرير من خلال ملاحظة أماكن في العهد الجديد حيث يُقابل فيها التبرير بشكل مباشر مع الدينونة. في رومية ٨ : ٣٣ – ٣٤، على سبيل المثال، يسأل بولس سؤالاً بلاغياً: ‘من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟’ ".

يتابع بوسنيتز هذه النقطة بقوله أن كالفن يستخدم "في مبادئه هذا التضاد البولسي ليحاجج بأن التبرير قضائي، بما أن الرسول يضع التبرئة في تضاد مع الإدانة".لوثر بدوره أيضًا يبرز هذا التضاد في تعليقه على رومية ٥ : ١٧: "كما تُعرف خطيئة الواحد [آدم] من خلال إدانتنا دون أي خطيئة فعلية من جانبنا، فإن نعمة الآخر تُعرف من خلال هذا، حتى أن بره [المسيح]" يُمنح لنا دون استحقاقننا".

ثالثًا، ينتقل بنا بوسنيتز في سرده للمبادىء الكتابية التي أسس عليها المصلحون فكرهم عن التبرير القضائي إلى السبب الثالث ألا وهو استعمال مصطلح تبرير عن الله نفسه. أو طبقًا لكلماته: "أيد المصلحون فهمهم بأن ‘التبرير’ يعني ‘إعلان (الشخص) بارًا’ وليس ‘بجعله بارًا’ (داخليًا) بالإشارة إلى مواضع في الكتاب المقدس يُقال فيها إن الله مُبرر. من الواضح أن الله لا يمكن أن ‘يُجْعَلُ بارًا’ لأنه بالفعل كامل أدبيًا. ولكن يمكن أن ‘يُعلن بارًا’ من قبل أولئك الذين يعترفون به ويمدحونه على قداسته المطلقة".

وكمثالان كتابيان على هذه النقطة، ففي تيموثاوس الأولى ٣ : ١٦، يستعمل بولس لغة التبرير على الرب يسوع: ‘عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفِعَ في المجد". ثم يعلق بوسنيتز على ذلك كيف أن كالفن فهم هذه النقطة على "أن يسوع قد أُظْهِرَ أو أُعْلِنَ أنه بار، ولم يُجْعَلُ بارًا". المثال الآخر، وبالإتساق مع ذلك، هو لوقا ٧ : ٢٩ حيث نقرأ: "وجميع الشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا’. يشير كالفن إلى أن العشارون لم يجعلوا الله بارًا، بل أعلنوا بره".

السبب الرابع للفهم القضائي للتبرير لدى المصلحون، بحسب ما ذكره بوسنيتز، هو أن بولس سَيُعْلَنُ بارًا بواسطة الرب نفسه: "وأما أنا فأقل شىء عندي أن يُحكم فيّ منكم، أو من يوم بشر. بل لست أحكم في نفسي أيضًا. فإني لست أشعر بشىء في ذاتي. لكني لست بذلك مبررًا. ولكن الذي يحكم فيّ هو الرب" (١ كو ٤ : ٣ – ٤). يقول بوسنيتز: "يمكن لبولس أن يعلن نفسه بارًأ، بل ويسعى إلى أن تُبَرِّرُه محكمة بشرية، لكن إعلان البر الوحيد الذي يهم حقًا هو ما يأتي من الله نيابة عن الخطاة. إن كون بولس 'سَيُخْتَبَر' من قبل القاضي الإلهي، و'يُبَرَّرُ' بواسطته، فإن هذا يشير إلى فهمه للتبرير بمصطلحات قضائية".

خامسًا وأخيرًا يختم بوسنيتز بقوله: "اعتقد المصلحون أن تعاليم بولس بأكملها في رسالة رومية تتطلب فهمًا قضائيًا للتبرير. كما توضح رسالة رومية، فإن اليهود والأمم على حد سواء مدانون أمام ناموس الله الذي معياره الكمال. إذا كان للخطاة أن يتجنبوا العقوبة التي يستحقونها بحق، فعليهم طلب العفو. وهذا يفترض فهمًا قضائيًا للتبرير بحيث تُغفر فيه الخطايا ويُبْرَئُ المذنب بواسطة القاضي الإلهي. (وهنا) تعتمد حجة بولس على حقيقة أن التبرير يُمنح بالإيمان بدون أعمال".

خلاصة ما سبق، فإن إتفاق الرسل مع كتبة العهد القديم في المعنى القضائي لمصطلح "بر"، ووضع الدينونة في مقابلة أو تضاد مع التبرير، واستعمال كلمة "يتبرر" عن الله نفسه، فضلاً عن إستخدام بولس هذا المصطلح عن تبريره أمام المحكمة الإلهية، وأخيرًا السياق العام لرسالة رومية والذي يؤكد الفهم القضائي لكلمة تبرير، هي حجج دامغة من قبل المصلحين على أنه لا يمكن إلا وأن يكون التبرير قضائيًا في الكتاب المقدس.

تأسيسًا على ذلك، فإن التبرير ليس تغيير تدريجي يحدثه الله فينا من الداخل كما تعلّم الكاثوليكية، وليس أمرًا علاقاتيًا يخص إنتماء المسيحي إلى جماعة العهد كما يدعي المنظور المحدث لبولس، وليس هامشيًا هكذا أو مستبعد من الصورة كما يحاول أن يفعل اللاهوت الشرقي، بل إن التبرير تعليم جوهري في الكتاب المقدس بإعلان الخاطىء بارًا بواسطة الديان الإلهي بمجرد أن يؤمن. بحيث أن الله يكون بارًا في حكمه عندما يبرر من هو من الإيمان بيسوع (رو ٣ : ٢٦).


Busenitz, Nathan. 2017. Long before Luther : Tracing the Heart of the Gospel from Christ to the Reformation. Chicago: Moody Publishers.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس