مغالطات أوسم وصفي حول المقارنة بين الإعلان العام والإعلان الخاص


يقول نص كلام أوسم وصفي في منشور له على السوشيال ميديا:

"تَكَلَّم اللاهوتيون كثيراً عَمّا يُسمى الإعلانُ الخاصّ أي إعلانُ اللِه في الكتاب المقدس لشعب ما في حقبة تاريخية ما، و الإعلان العام الذي هو إعلانُ اللهِ عن نفسه لكل البشر في كل العصور من خلال الخليقة التي نكتشفها بالعٍلم والمنطق، والضمير الذي به نستلهم قوانين الله الأخلاقية العامة مهما كانت الأديان والموروثات. يكتُب، ’بونافنتورا‘(Bonaventure) اللاهوتي الكاثوليكي الذي عاشَ في القرن الثالث عشر عن الخليقة أنها كتابٌ يُمكننا من خلاله أن نحصُل على معلوماتٍ عن الخالق، وهي الكتاب الأول قبل أن يكون هُناك أيُّ كتابٍ مكتوب. إنه الكتاب الذي يقول عنه الرسول بولس أنه موجودٌ ’مُنذُ خلقِ العالم‘ (رومية 1: 20). أمّا الكتاب المكتوب، فهو مكتوبٌ في زمنٍ مُحدَّد من التاريخ، وفي ثقافة (ثقافات) مُحَدَّدة لها رؤيتها الخاصّة للعالم. ولكون هذا الكتاب ’موحى به من الله‘ وصالح لكل جيل، لذلكَ فإنَّهُ عَلى كُلِّ جيلٍ من الأجيال إذاً أن يكتشفَ الرسالَةَ الروحية لكَلِمةِ الله التي في الكتاب المقدس، ويقوم بإخراجها، بقدر ما يستطيع، من’’الأغلفة‘‘ الثقافية والحضارية للعَصر الذي كُتِبت فيه. لذلكَ فإن كل جيلٍ تالٍ للجيل الذي كُتبت في عصرِهِ الكتاباتُ المقدسة عليه أن يقوم بفَضِّ غلافٍ أو أكثَرَ من هَذِهِ الأغلفة بمساعَدَة ما سَمَح الله أن تَكتَشِفهُ عقول البشر من حقائقَ في ذَلكَ العَصر، من خلالِ الإعلان العام الذي نَستَقبِلهُ باستخدامِ العلومِ المُختلفة سَواءُ الطَبيعيّة أو الإنسانِية. وهكذا يتفاعل الإعلانان معًا لكي يكشفا المزيد عن الله و مشيئئه من نحونا نحنُ البشر".


يرتكب أوسم وصفي هنا أكثر من مغالطة. الأولى هي أسبقية الإعلان العام على الخاص. الثانية هي أن خصوصية الإعلان الخاص تعني محدوديته. والثالثة هي أن الكتاب يحتاج إلى فض الأغلفة الثقافية من حوله.

بالنسبة للأولى:

الأسبقية الفعلية هي لكلمة الله المنطوقة التي بها خُلق العالم "قال الله ليكن ... فكان". الكلمة التي خلقت العالم هي التي تفسره. من هذا المنظور، فالإعلان الخاص أسبق من العام. كما أن الأسبقية لا تعني بالضرورة المعيارية. فهل مثلا الخليقة تفسر الإعلان الخاص في التجسد بما أن الخلق أسبق من التجسد (طبعًا مع التأكيد على أن أقنوم الابن أزلي)؟

من منظور آخر أيضًا، فإن آدم في الجنة كان عنده إعلان خاص، والذي هو الوصية بعدم الأكل من الثمرة المحرمة. وإعلان عام في قلبه والمتمثل في الضمير. الإثنين وجدوا إذًا منذ تأسيس العالم.

فيما يتعلق بالثانية:

فإن عمومية الإعلان العام لا تعني بالضرورة المعيارية ومن ثم الأفضلية. العمومية تعنى عمومية الموضوع وعمومية الجمهور. والإعلان الخاص لا يعني محدودية الإعلان، بل يعني أنه أكثر تحديدًا وتفصيلاً بالمقارنة بالعام. ولهذا فتفاصيل الإعلان الخاص هي التي تفسر الإعلان العام. فكما قال كالفن فإن الوحي هو العدسات التصحيحية التي ينظر منها المسيحي إلى الإعلان العام.

ومن حيث الجمهور، فقد كُتب الإعلان الخاص للعالم بأكمله وإن كان قد خُدم للعالم بواسطة إسرائيل. تماماً، مثلما إختار الله إسرائيل لتكون بركة للعالم. كما أن الإعلان الكتابي الخاص تقريباً لا يوجد بقعة لم يصلها اليوم ولا سيما من خلال الهواتف الذكية. بالمثل، هل يصح القول أن إعلان التجسد أقل فعالية أو محدود لكونه جاء إلى إسرائيل في زمن محدد وفي إطار ثقافة معينة؟

ثم أن الإعلان العام قابل للإختلاف في تفسيره طبقًا للثقافة. فالأساطير القديمة رأت الكون ثمرة الصراعات الدموية والتوالد بين الآلهة. والثقافات الأسيوية المعاصرة تفسر السببية (الكارما) على أن هناك قوى خفية تجازي الإنسان على دوافعه وأفعاله. وأشباه العلوم الداروينية في الغرب الآن تفسر الكون على أنه جاء بالصدفة المحضة من العدم. طبعًا أوسم وصفي يرى أن هذا علم، لكن التطور أيديولوجية علمانية مضادة للحق الكتابي.

وأخيرًا الثالثة:

فكرة الأغلفة الثقافية التي ينبغي نزعها من حول الكتاب كنزع القشرة من حول النواة هي فكرة ليبرالية بحتة ترجع إلى ألبريخت ريتشل. الكتاب المقدس بالنسبة لليبراليين به نواة من الحق تخص كل زمان ومكان ولكن هذه مدفونة أسفل طبقات من القشور والأغلفة الثقافية والزمنية. لهذا علينا أن نقوم بتقشير الطبقات الثقافية من فوق تلك النواة.

لكن في الحقيقة، وكما يقول د. ريتشارد برات:

"بدلاً من التعامل مع أجزاء من الكتاب المقدس على أنها إما مرتبطة بثقافة قديمة فقط أو إما أنها قابلة للتطبيق، سنرى أن كل جزء من الكتاب المقدس ثقافي وفي نفس الوقت قابل للتطبيق. يعكس الكتاب المقدس بأكمله السياق الثقافي القديم، ولكن لا تزال كلمة الله تُطبَّق بطريقة أو بأخرى على الجميع، بغض النظر عن هويتنا أو أين أو متى نعيش".

فضلاً عن ذلك، مشكلة هيرمانوطيقية (تفسيرية) جوهرية فيما ادعاه أوسم وصفي، ألا وهي إخضاع تفسير الكتاب المقدس للمُكْشَفَات العلمية. ولكن يثور سؤال هنا، ما هو الذي يمكن أن نعتبره مُكشفات علمية؟ هل يَعْتَبِر نظريات الانفجار الكبير والتطور والفرويدية (نسبة إلى فرويد) مُكْشَفَات علمية؟ إن هناك الكثير من العلماء من يعتبر تلك النظريات أشباه علوم لا ترقى حتى لمستوى العلوم التأريخية. وما هي السُّلْطَة التي تحدد ما هو علمي وما هو غير علمي؟ وما الذي يضمن لك نزاهة تلك السُّلْطَة؟

نَادَىَ المصلحون بمبدأ "سولا سكريبتورا" أي أن الكتب المقدسة وحدها المعصومة وصاحبة السلطان في تقرير العقيدة. وعلّموا أيضًا بـ "توتا سكريبتورا"، أي أن الكتب المقدسة كلها موحى بها ومعصومة ولا يوجد بها أجزاء صحيحة مثل العقيدة، أو أخرى خاطئة مثل ما يتعلق بالحقائق التاريخية والطبيعية، بل كله معصومًا عصمة لفظية. الكتاب المقدس إذًا يفسر نفسه بنفسه.

ولكن، إن كان الكتاب المقدس ينبغي أن يُفَسِّرُ نفسه، فكيف ينبغي أن يكون موقفنا الهيرمانوطيقي (التفسيري) من العلم فيما يتعلق بالحق الكتابي؟ الموقف المسيحي السليم من العلم ينبغي أن يكون الانتفاع به وليس الخضوع له. وهنا نريد أن نوضح الفرق بين الدور المَاجِيسْتِيرِى للعلم كقاض للحُكْم على الكتاب المقدس Magisterial use of science وبين دوره الخَدَمِي كوسيلة للانتفاع به Ministerial use of science . وحول الفرق بين هذين الدورين أو الاستخدامين للعلم، يقول عالم الفيزياء الفضائية والباحث اللاهوتي د. جاسون لايل: "عندما يستطيع العلم توضيح أجزاء من الكتاب المقدس، حينئذ ينبغي استخدامه بحذر، وهذا يُسَمَّىَ بالدور الخَدَمِي للعلم. إلا أنه لا ينبغي أن يوضع العلم أبدا على قدم المساواة أو فوق الكتب المقدسة، أي أن العلم لا ينبغي أن يُسْتَخْدَم بطريقة مَاجِيسْتِيرِيَّة".






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس