تفضيل الله للعبادة الجماعية العامة على العبادة الفردية الخاصة




ملخص عظة اللاهوتي البيوريتاني ديفيد كلاركسون (١٦٢٢ - ١٦٨٦ م.)

مقدمة المترجم

ليس الغرض من هذا الكلام هو الإقلال من شأن العبادة الفردية الخاصة، أو أننا علينا إهمالها لصالح العبادة العامة. لكن الغرض هو لفت النظر إلى شىء مُهْمَل بالفعل له هذه الفائدة العظيمة: العبادة الجماعية العامة. وليس هدف كلاركسون من هذه الكلمات هو إثناءنا عن العبادة الفردية الخاصة، بل إننا ينبغي أن نفعل هذه (العبادة العامة) ولا نترك تلك (العبادة الخاصة). وحتى لو لم يقنعنا الشرح الوارد هنا بأفضلية العبادة العامة على العبادة الخاصة، يظل أمرًا هامًا أن نتعلم عن أهميتها لنواجه به التطرف المتمثل في إهمال العبادة الجماعية واحتقارها واستبدالها بكنائس البيوت والمجموعات الصغيرة والتركيز على العلاقة الفردية بالله. بهذه الملاحظة الهامة أتركك مع كلمات كلاركسون نفسها بعد أن قمت بترجمتها عن الإنجليزية ثم تلخيصها.

الرَّبُّ أَحَبَّ أَبْوَابَ صِهْيَوْنَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَسَاكِنِ يَعْقُوبَ. (مز ٨٧ : ٢)

"أحب الرب جميع مساكن يعقوب التي كان يُعْبَدُ فيها سرًا. وأما أبواب صهيون (الهيكل) فقد أَحَبَّهَا أكثر من جميع مساكن يعقوب لأنه هناك كان يُعبد علانية ... إن كان الأمر هكذا بالنسبة للرب (فكم وكم) ينبغي أن يكون أيضًا لشعبه".

ليس المقصود هنا هو وجود قدسية خاصة للعبادة في مكان بعينه، إطلاقًا. فلا توجد أية قدسية للمكان في العهد الجديد. الوعد صريح "حيثما اجتمع إثنان أوثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم". وليس المقصود هو التقليل من شأن العبادة الفردية الخاصة. لكن فقط لفت النظر إلى قول الرب بأنه يحب العبادة الجماعية أكثر من العبادة الفردية. إنه يحب الإثنان، ولكن الأولى أكثر.

العبادة تكون عامة عندما تُرفع الصلوات والتسبيحات، وتُقرأ الكلمة وتُفَسَّرُ، وتُخدم فريضتا عشاء الرب والمعمودية. بالنسبة للعدد فهو لا يهم طالما أنه ليس فقط واحد أو إثنان، وطالما أنها ليست عبادة عائلية فقط. ولابد أن يكون هناك خادم مُكرس بواسطة الرب والجماعة هو الذي يقوم بخدمة الفريضان.

١ – الرب يكون ممجدًا بالعبادة العامة أكثر من العبادة الخاصة. وهذا أمر بديهي أن يكون المجد المنسوب إلى شخص، والذي هو في هذه الحالة الرب، أكثر لو كان عامًا وعلنيًا مما لو كان سريًا. إن الله يكون ممجدًا بواسطتنا عندما نعترف بأنه مجيد، وهو يكون الأكثر مجدًا عندما يكون هذا الاعتراف الأكثر علانية. أي أن مجد الله يكون معلنًا أكثر بواسطة الجماعة، مما لو كان بواسطة فردًا واحدًا. لهذا يستدعي داود كل الأرض لتسبح الرب "رنمي للرب يا كل الأرض ... حدثوا بين الأمم بمجده" (مز ٩٦ : ١ - ٣). ويكون الرب ممجدًا أكثر عندما تمجده كل الجماعة في هيكله "وفي هيكله الكل قائل: مجدٌ" (مز ٢٩ : ٩). والمسيح يكون ممجدًا أكثر عندما "متى جاء ليتمجد في قديسيه ويُتَعَجَّبُ منه في جميع المؤمنين" (٢ تس ١ : ١٠).

٢ – حضور الرب في العبادة العامة يكون أكثر منه في العبادة الخاصة. إنه حاضر مع شعبه في ممارستهم للعبادة العامة بطريقة خاصة: بشكل أكثر فاعلية وديمومة وحميمية (خر ٢٠ : ٢٤). المسيح قال أنه يكون حاضرًا "في وسط جماعته" كدليل على حميمية هذا الحضور (مت ١٨ : ٢٠، رؤ ١ : ١٨). يوجد الرب أكثر في الأماكن التي يتفاعل فيها أكثر، وهو تعهد ليكون أكثر تفعالاً حيث يتواجد الكثير من شعبه. يتعامل الرب مع كل قديس بعينه، ولكن عندما يتم ضم كل هؤلاء القديسين في العبادة العامة، تكون جميع التفعلات متحدة معًا. إن نبع حضور الله في العبادة الخاصة لكل قديس على حدة يصب في النهر العظيم لحضور الله مع الجماعة، وكأن حضوره فرديًا مع القديسين هي تلك الروافد التي تتجمع معًا في نهر العبادة الجماعية.

٣ – يتجلى الله بوضوح في العبادة العامة أكثر من العبادة الخاصة. على سبيل المثال، في سفر الرؤيا، يظهر المسيح "في وسط الكنائس". لقد دُعي يهوذا وادي الرؤية لأن هناك يظهر الرب في العبادة العامة. كما أن داود الذي اختبر حضور الرب كثيرًا بمفرده تاق للعبادة الجماعية لأن هناك يتجلى الله أكثر (مز ٢٧ : ٤). والطريقة التي يُصور بها المسيح في رؤيا ١ "وسط الكنائس" تبين لنا مدى تجليه في الجماعة:

متسربلاً بثوب إلى الرجلين (المسيح كرئيس الكهنة).
متمنطقًا عند ثدييه بمنطقة من ذهب (المسيح منتصرًا من أجل شعبه).
رأسه وشعره كالصوف الأبيض (إشارة إلى أزلية المسيح).
عيناه كلهيب ناره (كالعالم بكل شىء).
رجلاه شبه النحاس النقي (قوته الشديدة التي سيسحق بها أعداءه).
صوته كصوت مياهٍ كثيرة (قوة صوته في الجماعة).
معه في يده اليمنى سبعة كواكب (عنايته وسلطانه).
وسيفٍ ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه (فعالية كلمته).
وجهه كالشمس التي تضىء في قوتها (وجه المسيح المجيد معلنًا).

بهذا المجد والوضوح والجمال يُستعلن المسيح أمام كنائسه، وفي وسط شعبه.

٤ – هناك فائدة روحية أكثر في استخدام العبادة العامة. مهما كانت المنفعة الروحية التي يمكن العثور عليها في واجبات العبادة الخاصة، يمكن توقع ذلك وأكثر منه بكثير من العبادة العامة عند استخدامها بشكل صحيح. إذ يوجد حياة ونمو قوة ونور وتعزية أكثر مع الكنيسة. عندما تسأل العروس (الكنيسة) العريس (المسيح) أين تجد الغذاء والراحة يوجهها المسيح إلى العبادة العامة عند مساكن الرعاة (نش ١ : ٧ – ٨). كما أن بولس يعلّم بأن نضوج وبناء وتكميل القديسين يكون من خلال المواهب التي منحها الرب للكنيسة (أف ٤ : ١١ - ١٥). والمرنم في سفر المزامير أيضًا كانت له المعونة الخاصة التي يحصل عليها بصورة فردية، لكن لم يكن هناك تجربة قادرة على الإستمرار معه بمجرد أن يدخل إلى المقادس، أي الهيكل، حيث العبادة الجماعية (مز ٧٣ : ١٧).

٥ – العبادة العامة تكون أكثر بناءً من العبادة الخاصة. في العبادة الفردية أنت تأتي بما ينفعك، لكن في العبادة العامة فإنك تنفع نفسك والآخرين. إن المنفعة تكون في أعظم حالاتها عندما تنسكب على الآخرين. لهذا يحث المسيحي، في العبادة العامة، الآخرين كنموذج لهم (مز ٣٤ : ٣، ٩٦ : ٧ – ٨، زك ٨ : ٢٠ - ٢١). إن قطعة الفحم المشتعلة إن أخذتها ووضعتها جانبًا بمفردها ستنطفىء. ولكن بينما كانت إلى جوار باقي القطع، كانت القطع تمد بعضها بعضًا بالحرارة. وعليه، فالبرودة والفتور سيكونان من نصيب من ينفصل عن العبادة الجماعية.

٦ – العبادة العامة أفضل من العبادة الخاصة كضمان ضد الإرتراد. من يفتقر إلى العبادة العامة أو يرفضها، مهما كانت وسائل العبادة الخاصة التي يتمتع بها، يتعرض لخطر الإرتداد. رغم أن داود لم يكن محرومًا من أية ممارسة عبادة فردية، إلا أنه رأى نفسه في خطر عظيم بينما كان في المنفى لكونه محرومًا من العبادة الجماعية (١ صم ٢٦ : ١٩). كان طرد داود من نصيب الرب، بالنسبة له، بمثابة القول له اذهب أُعبد آلهة غريبة. إن الأمان الوحيد ضد إرتداد داود كان هو العبادة الجماعية. أليس رفض العبادة العامة، إذًا، هو الخطوة الكبرى للارتدادات المريعة بيننا؟ من الذي يسقط من حق الإنجيل وقداسته في الآراء والممارسات الفاسقة ولم يسقط أولاً عن العبادة العامة؟ من الذي قد انكسرت به سفينة الإيمان والضمير الصالح في هذه الأوقات، ولم يكن قد ألقى أولاً بعبادة الله العلنية في البحر؟ يجب أن تعلمنا القضية المحزنة المتمثلة في التخلي عن الاجتماعات العامة (التي تتجلى في ارتداد الكثيرون من المعترفين) هذه الحقيقة: أن العبادة العامة هي الضمان الأكبر ضد الارتداد، وأمنًا أكبر (ضد الارتداد) من واجبات العبادة الخاصة، ولذلك، فهي مُفَضَّلة أكثر من العبادة الخاصة. لا عجب، إذًا، أن الذين يسقطون عن غايتهم قد سقطوا عن الوسيلة التي تؤدي إليها الغاية (نش ١ : ٧ – ٨، أف ٤ : ١٤).

٧ – يعمل الرب أعظم أعماله في العبادة العامة. عادة ما تتم أشياء مثل التجديد والإيمان وما إلى ذلك من خلال العبادة العامة. في العبادة العامة يتكلم الرب بالحياة على العظام الجافة، ويقيم الخطاة من قبور خطاياهم، ويهب نورًا للعميان، ويشفي النفوس من أدرانها الروحية مجددًا إياها، ويطرد الشياطين والأرواح النجسة من الخطاة، ويقيد القوي ناهبًا أمتعته. ما من شك أن الرب يفعل هذه الأشياء في غير العبادة العامة، إلا أن الخدمة العامة هي الوسيلة الوحيدة المعتادة لهذه الأعمال الإلهية.

٨ – العبادة العامة هي الأقرب شبهًا بالسماء. في أوصاف الكتاب المقدس للسماء، لا يوجد شيء يتم على إنفراد، ولا شيء في الخفاء؛ كل عبادة تلك الشركة، أو الصحبة، المجيدة عبادة علنية وعامة. إن صحبة الملائكة التي بلا عدد، وكنيسة الأبكار، يكوّنان جماعة واجتماعًا عامًا واحدًا في السماء (عب ١٢ : ٢٢ ، ٢٨).

٩ – فَضَّلَ خدام الله الأكثر شهرة العبادة العامة على العبادة الخاصة. ولم ينسحب الرب من العبادة العامة مع أنها كانت فاسدة. كما أن العبادة العامة كانت أغلى لدى الرسل من سلامتهم وحريتهم وحياتهم. إن تفضيل أولئك الذين اقتيدوا بروح الله، ووصلوا لأعظم مستويات الشركة معه، للعبادة العامة على الخاصة، جديرة بالثقة والإصغاء له. كان داود رجلاً بحسب قلب الرب ورغم ما كان له من أمجاد الملك رأى أن "يومًا واحدًا في ديارك خيرٌ من ألف" لهذا اختار الوقوف على العتبة في بيت إلهه على السكن في خيام الأشرار (مز ٨٤ : ١ ، ٢ ، ١٠). حزقيا ويوشيا هما مثالان آخرين على أن رجال الله العظماء قدّروا العبادة العامة أكثر من الخاصة. الأول عمل المستقيم في عينيّ الرب ففتح أبواب بيت الرب ورممها (٢ أخ ٢٩ : ٢ - ٣). أنظر أيضًا ماذا عمل يوشيا في الأصحاحين ٣٤ و ٣٥ من نفس السفر. تأمل أيضًا المخاطر الكثيرة التي احتملها الرسل لإعلان إسم المسيح في العلن. الرب يسوع المسيح ذاته لم يضع نفسه فوق ممارسة العبادة العامة على الرغم أنه رأى أن العبادة الطقسية في الهيكل كانت إلى زوال، ولم ينسحب منها رغم فسادها. لهذا تجده بإستمرار في المجمع والهيكل، في عيد الفصح، فضلاً عن غيرته على بيت الرب "غيرة بيتك أكلتني".

١٠ – العبادة العامة هي أفضل وسيلة للحصول على أعظم المراحم، ومنع أعظم الدينونات وإزالتها. إن العبادة العامة هي الوسيلة التي عينها الله لهذا الغرض: "اضربوا بالبوق في صهيون ... اجمعوا الشعب، قدسوا الجماعة، احشدوا الشيوخ، اجمعوا الأطفال وراضعي الثديّ". ثم نقرأ عن فعاليتها ونجاحها في العدد التالي: "فيغار الرب لأرضه ويرق لشعبه. ويجيب الرب ويقول لشعبه: ها أنذا مرسل لكم قمحًا ومسطارًا وزيتًا لتشبعوا ... ولا أجعلكم أيضًا عارًا بين الأمم" (يوئيل ٢ : ١٥ - ٣٢). جاءت البركات الروحية والمادية للشعب بأكمله. أنظر أيضًا يهوشافاط ومركزية الدور الذي كان لبيت الرب (العبادة العامة) في إنقاذهم وخلاصهم وبركتهم (٢ أخ ٢٠). وارجع أيضًا تاثير وفعالية صلاة الكنيسة من أجل بطرس (أع ١٢ : ٥)، وفعالية صلوات القديسين (رؤ ٨ : ٤).

١١ – يهتم دم المسيح الثمين أكثر بالعبادة العامة. كانت العبادة الخاصة مطلوبة من آدم ونسله، وقاموا بها، حتى في حالة ما قبل السقوط، لكن التبشير العلني بالإنجيل وخدمة الفريضتان المقدستان يعتمدان بالضرورة على موت المسيح.

لم يعزم بولس أن يعرف وسط كنيسته إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا (١ كو ٢ : ٢). وهذا يدل على مركزية صلييب المسيح. ليس فقط أن بولس لم يعرف إلا يسوع مصلوبًا في العبادة العامة، بل إن صليب المسيح نفسه هو الذي اشترى لنا إمكانية ومواهب وفرائض العبادة العامة. الوعظ العام بالإنجيل، وخدمة الفريضتان، يعتمدون بالضرورة على موت المسيح. فبينما تتشير هذه الأشياء إلى دم المسيح، وترمز إليه وتمثله، فهي أمور منحها لنا دم المسيح نفسه. وكما أن المسيح رُسم أمام أعينا مصلوبًا، فإن هذه الأشياء نفسها قد اشتراها دم المسيح، وهي بالتالي عطايا المسيح المنتصر لنا. يقدم بولس الرسول في أفسس ٤ المسيح كمن انتصر وصعد إلى العلاء سابيًا سبيًا فأعطى الناس عطايا. ثم يخبرنا في عددي ١١ و ١٢ أن هذه العطايا هي المواهب والخدام الذين أعطاهم للكنيسة، رسل وأنبياء ومبشرين ورعاة ومعلمين، ومن ثم العبادة العامة التي يخدمون بها. هذه العطايا اشتراها المسيح بدمه، لتشير إلى دمه وموته وإنتصاره.

١٢ – تُعطى وعود الله للعبادة العامة أكثر منها للعبادة الخاصة. هناك وعود للعبادة العامة أكثر منها للعبادة الخاصة، وحتى الوعود التي يبدو أنها تقدم لواجبات العبادة الخاصة قابلة للتطبيق وأكثر قوة للعبادة العامة. وهذه الوعود كثيرة جدًا. فالرب يعد بحضوره في اجتماعات العبادة العامة (خر ٢٠ : ٢٤). ويعطي حماية وإرشاد (إش ٤ : ٥). وكما ملأ مجد الرب في البرية داخل خيمة الاجتماع، وكما غطى خارجها بسحابة عظيمة، هكذا سيضمن الرب شعبه واستمتاعهم بالعبادة العامة "ثم غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن" (خر ٤٠ : ٣٤). إن حضوره في الداخل سيكون مثل مجده في الخارج. من الخارج ضمان ومن الداخل ملء وشبع. والرب أيضًا يعد بالنور والفرح والوفرة والشبع في عبادته العامة (مز ٣٦ : ٨ - ٩).

بناء على ما سبق، فإن الرب يُفَضِّلُ العبادة العامة على العبادة الخاصة. وهكذا ينبغي أن يكون توجهنا أيضًا كمسيحيين نحو العبادة العامة، بما أن ذلك هو توجه الرب النفسه.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس