آباء الكنيسة وتاريخية الطوفان الكتابي

تمهيد

يواجه الطوفان الكتابي، على الأقل، هجومًا شرسًا من علم الجيولوجيا، أو بالأحرى افتراض نظري حول تاريخ الأرض لا يمكن إثباته بالعلم التجريبي. وهو الإدعاء بأن الطبقات الصخرية تترسب بمعدلات بطيئة جدا، بحسب المشاهدات التي يتم رصدها في الوقت الحاضر. فما نراه الآن، هو مفتاح لفهم تاريخ تلك الطبقات الصخرية التي تحوي في داخلها الكثير من الحفريات. أي أنه كما تترسب الطبقات الآن بمعدلات بطيئة مُكَوِّنَةً الصخور، فلابد أن تلك المعدلات البطيئة كانت سارية عبر تاريخ الأرض بأكمله. وإن كانت الطبقات الصخرية وحفريات السجل الأحفوري هما دليلان على ملايين السنين من التطور والترسّب البطئ للطبقات الرسوبية، فإن هذا من شأنه استبعاد كارثة طوفان نوح كتفسير لتلك الظواهر الجيولوجية. لأنه لو كان طوفان نوح قد حدث فعلا، وأنه كان عالميا وذو طبيعة تدميرية شديدة، فلابد أننا نرى آثاره في صخور الأرض. وعليه فإما أن يكون السجل الحفري وطبقاته الصخرية دليلا على ملايين السنين من التطور والترسيب البطئ، أو إما أنه دليلا على طوفان نوح. وطبعا الاعتقاد الثاني لن يكون اختيارا لكل متشكك أو لا أدري أو ملحد.

يقول د. جون د. موريس عالم الجيولوجيا المسيحي المحافظ، والذي يؤمن بعصمة الوحي وتاريخية تك 1-11، أن الطوفان كان حدثا عالميا عنيفا سبّب تغيرًا في القشرة الأرضية والتضاريس العالمية، مُخَلِّفَاً وراءه مليارات الحيوانات والنباتات الميتة. أو على حد تعبير د. موريس نفسه: "الكتاب المقدس يحكي بالمثل عن طوفان عالمي (تك 6-9). وقد وُصِفَتْ هذه الكارثة المائية الهيدرديناميكية [الهيدروديناميكا هي علم دراسة حركة الموائع] بأنها ليست أقل من إعادة تشكيل لقشرة الأرض على مستوى الكرة الأرضية، على الأقل للطبقات العليا للأرض بأكملها. خَلَّفَتْ في إثرها سلاسل جبال، وأقواس بركانية، وقارات منفصلة [عن بعضها]. جميع الكائنات الحية التي سكنت الأراضي الجافة استسلمت إلى مياهها، باستثناء تلك الموجودة على متن الفلك. والأهم في هذا النقاش، فقد أنتج الطوفان الكتابي طبقات رسوبية شاسعة من الترسبات التي حملتها المياه والتي كانت مليئة بالنباتات والحيوانات الميتة، والمتصلبة الآن في الصخور الرسوبية والحفريات. لا مكان على الكوكب نجا من أهوال الطوفان. في كل مكان ننظر فيه، في كل رواسب صخرية أو أحفورية ندرسها، نواجه تضاريس غُمِرَت بالماء". [1]

إن ما قاله د. جون موريس هو التفسير المسيحي السليم للسجل الأحفوري والطبقات الرسوبية الصخرية. أي شخص مسيحي يثق في كتابه، ومتسق في منظوره اللاهوتي، لابد وأن يرى السجل الأحفوري مُفَسَّرَاً من خلال الطوفان الكتابي. 

هذه المشاهدات الجيولوجية للطبقات الرسوبية المتراصة فوق بعضها، ولوجود حفريات مدفونة فيها، هو أمر شغل قدماء اليونانيون أيضا. إلا أن تفسيرهم للسجل الأحفوري لم يكن من منظور موسوي. بل تفسير من منظور طبيعي يستثني وجود الله وتدخلاته الفوقطبيعية في العالم الذي خلقه ويعتني به ويحكمه كديّان. يقول عالم تأريخ الجيولوجيا والباحث اللاهوتي د. تيري مورتنسون (وهو يؤمن أيضا بعصمة الكتاب وبحرفية وتاريخية أحداث الخلق والسقوط والطوفان):

"الجيولوجيا، باعتبارها مجالًا علميًا منفصلاً له دراسات ميدانية منهجية، وجمع وتصنيف للصخور والحفريات، وتطوير عمليات إعادة البناء النظري للأحداث التاريخية التي شكلت تلك الطبقات الصخرية والحفريات، عمرها حوالي 200 عام فقط. قبل ذلك، مبكرا في العصور اليونانية القديمة، كان الناس قد لاحظوا حفريات في الصخور. اعتقد الكثيرون أن الحفريات كانت بقايا الكائنات الحية السابقة التي تحولت إلى حجر، والعديد من المسيحيين الأوائل (بما في ذلك ترتليانوس ويوحنا فم الذهب وأغسطينوس) نسبوها إلى طوفان نوح. لكن آخرين رفضوا هذه الأفكار واعتبروا الحفريات إما نكاتًا للطبيعة، أو نتاجًا للصخور التي وهبتها الحياة بمعنى ما، أو أعمال الله الخلاق، أو ربما حتى خداع الشيطان". [2]

إن تاريخية طوفان نوح لا تتعلق فقط بعصمة الكتاب ومصداقيته، بل بوجود الله ذاته. وهنا تكمن خطورة قضية تاريخية الطوفان والتي نحن بصدد البحث فيها. لاحظ معي هذا الارتباط الوثيق بين تاريخية طوفان نوح والخلق. لو كان طوفان نوح حدث تاريخي حقيقي، عالمي ومدمر، إذا فلابد أنه ترك آثاره في طبقات الصخور وحفرياتها. في مقابل ذلك، لو لم يحدث طوفان نوح، بل مجرد قصة رمزية يُرَادُ بها فقط معنى روحي، إذا فالسجل الحفري هو دليل على ملايين السنين من التطور، كما يدعي التطوريون. وإن صحّ هذا، فالمخلوقات جائت عن طريق التطور، وليس الخلق. وبالتالي، فما حاجتنا إلى إله خالق وديان طالما أن كل شئ يحدث بصورة طبيعية تلقائية دون الحاجة إلى خالق متسلط على خليقته؟ إذا فالتفريط في تاريخية طوفان نوح، بما يشمل ذلك من عالميته وطبيعته التدميرية، هو من ناحية أخرى استسلام للنموذج التطوري، بأن كل الكائنات الحية جاءت عن طريق التطور عبر ملايين السنين، وأن السجل الأحفوري هو دليل على حدوث هذا التطور.

هذا الإدعاء، بأن الطبقات الصخرية، بما فيها من حفريات، تكونت عبر ملايين السنين، دفع الكثير من المسيحيين المعاصرين للمساومة على تاريخية طوفان نوح. سواء بإنكار حدوثه كليا، أو بإنكار عالميته، كأن يكون طوفانا محليا، أو أخيرا بإنكار طبيعته التدميرية والإدعاء بأنه كان طوفانا هادئا. كل هذا لرفض أنه حدث تاريخي ترك آثارا في صخور الأرض. أو إن كان حدث تاريخي، فهو في أفضل حالاته لم يكن على درجة من التدمير جعلته يترك آثارا في في سجلات الأرض الجيولوجية.

إلا أن لا شئ من هذه الادعاءات، في جوهرها، جديد على الإطلاق. فقد نادى قدماء اليونانيون بأكاذيب مماثلة. سواء بمحلية الطوفان، أي أنه لم يكن عالميا. أو سواء بأنه مأخوذ عن الأسطورة الإغريقية. الأمر الذي استدعى آباء الكنيسة للرد على تلك الافتراءات وتفنيدها، ومن ثم إثبات كل من تاريخية طوفان نوح وعالميته وطبيعته التخريبية الهائلة. ولكن الملاحظ، في دفاع عمالقة الفكر المسيحي المبكرون عن تاريخية طوفان نوح، أنهم لم يساوموا أبدا على أي حقيقة متعلقة بتاريخيته، على خلاف ما يفعله المسيحيون المعاصرون الذين يدمجون الخلق بالتطور وملايين السنين. دافع الآباء عن تاريخية طوفان نوح، وعالميته، وطبيعته التدميرية، وعلى كون السجل الأحفوري دليلا على الطوفان ويُفَسَّرُ به، وأن طوفان نوح ليس مأخوذا عن الأسطورة الإغريقية، وعن الأبعاد الهندسية الدقيقة للفك والتي جعلته يصمد أمام تلك الكارثة العالمية المدمرة.

ثمة ملاحظة هامة نود ذكرها هنا قبل أن نستعرض ما قاله الآباء في هذا الموضوع. وهو توضيح يتعلق بأسطورة الطوفان الإغريقية (يُرْجَىَ عدم الخلط بينها وبين أسطورة الطوفان البابلية، جلجامش). حيث أنه من المهم فهمه لكي تكون لدينا الخلفية الضرورية لاستيعاب ما يقوله الآباء في دفاعهم عن تاريخية طوفان نوح في مقابل الأسطورة الإغريقية. بحسب الموسوعة البريطانية، فإن دوكاليون، في الأسطورة الإغريقية، هو نوح الإغريقي، أي ما يعادل نوح الكتابي ولكن لدى الإغريق. ودوكاليون هو ابن بروميثيوس، خالق الجنس البشري. وزوجة دوكاليون هي بيرا. والأسطورة الإغريقية تقول بأن ملك الآلهة زيوس أراد تدمير البشر بواسطة طوفان جلبه عليهم، فقام دوكاليون ببناء فلك ونجا فيه هو وامرأته بيرا. [3]

الآباء وتاريخية طوفان نوح

بعد هذه المقدمة الطويلة، والضرورية، نتوجه الآن إلى ما قاله الآباء دفاعا عن مصداقية كلمة الله فيما يختص بطوفان نوح. وسنتناول ما كتبه الآباء في تتابع تاريخي من الأقدم إلى الأحدث.

يقول يوستين الشهيد (165 م.) عن طوفان نوح التاريخي: "ولكن الأرض كلها، كما يقول الكتاب المقدس، غُمِرَت بالمياه، وارتفعت المياه بارتفاع خمسة عشر ذراعا فوق كل الجبال". [4] وهنا يؤكد يوستين الشهيد على عالمية طوفان نوح. فهو لم يكن حدثا محليا في ميزوبوتاميا. فالمياه ارتفعت "فوق كل الجبال". فكيف يمكن للمياه أن ترتفع فوق كل الجبال لمسافة 15 ذراع فوق أعلى قمة جبلية موجودة دون أن يكون طوفانا عالميا؟

يكتب أوريجانوس (185 - 251 م.) تفنيدا لهجوم سيلسوس على طوفان نوح: "بعد ذلك يستمر [سيلسوس] كما يلي: 'إنهم يتحدثون، في المكان التالي، عن طوفان وسفينة ضخمة، لديهم في داخلها كل شيء، وعن حمامة وغراب كرسل، محرفين قصة دوكاليون بتهور. غير متوقعين، على ما أظن، أن هذه الأشياء ستظهر للضوء، لكن متخيلين أنهم يخترعون قصصًا للأطفال الصغار فقط '. [من هنا تبدأ كلمات أوريجانوس:] نلاحظ الآن في هذه الملاحظات العداء - وهو أمر لا يليق بفيلسوف - والذي أظهره هذا الرجل تجاه هذه القصة اليهودية القديمة. وإذ لا يستطيع قول أي شيء ضد تاريخ الطوفان، غير مدركا لما قد يكون أثاره ضد الفلك وأبعاده .. لماذا لا يجب أن نعجب بالأحرى ببناء يشبه مدينة شاسعة، إذا أُخِذَتْ أبعادها على أنها تعنى ما في قدرتها من معنى .. ولماذا لا ينبغي لنا أن نعجب بتصميم ثَبَتَ بناءه بشكل محكم، جعله قادرًا على تحمل عاصفة تسببت في حدوث طوفان؟ لأنه لم يكن ملطخا بطلاء أسود، أو أي مادة من هذا النوع ، ولكنه كان مغطى بإحكام بالقار. أليس موضوعًا للإعجاب، أنه بترتيب العناية الإلهية، قد تم إحضار عناصر جميع الأجناس فيه، لكي تستبقل الأرض مرة أخرى بذور كل الكائنات الحية، بينما استخدم الله رجلاً صالحًا ليكون السلف لأولئك الذين كانوا سيولدون بعد الطوفان؟". [5]

طبعا كلمات أوريجانوس في غاية الوضوح أنه يعتبر طوفان نوح "تاريخ". وأن ضخامة الفلك وتصميمه الهندسي المحكم، مثارا للإعجاب لديه. الأكثر من ذلك، أن أوريجانوس يرى عناية الله ورحمته وسط مشهد الدينونة هذا: فقد رتب الله رجلا صالحا وفلكا ضخما لحفظ البذور البشرية والحيوانية عليه لكي تستقبلها الأرض من جديد.

يروي لنا هيبوليتوس (170 - 236 م.) ما يقوله الفيلسوف اليوناني كزينوفانيس حول اختلاط الأرض بالبحر ووجود حفريات بحرية في قمم الجبال ناتجة عن ذلك. وهو لا يقصد الطوفان الكتابي بذلك. من ناحية أخرى، فإن هيبوليتوس لا يقدم تفنيدا لهذه المزاعم، بل يكتفي بسردها ضمن الهرطقات. ولكن ما نستطيع أن نتعلمه من ذلك، هو أن فلاسفة اليونان أرجعوا تلك المشاهدات الجيولوجية إلى تفسيرات طبيعية، وليس إلى دينونة الله على الجنس البشري في طوفان نوح. وذلك طبعا لأنهم لا يؤمنون بيهوه إله الكتاب المقدس واليهود. ولكن سيأتي الذكر أيضا أن هيبولويتوس يؤمن بتاريخية الطوفان الكتابي. أما عن روايته لما ادعاه كزينوفانيس فكانت كالآتي:

"يرى كزينوفانيس [فيلسوف يوناني] أنه كان هناك اختلاط للأرض مع البحر، ومع الوقت انفصلت عن البلل، مدعيا أنه يمكن أن يقدم أدلة كالآتي: فالمحارات البحرية تُكْتَشَفُ في وسط الأرض وفي الجبال. ويؤكد أيضًا أنه في محاجر سيراكيوز [ميناء في جزيرة صقلية الإيطالية]، تم العثور على صور مطبوعة لسمكة ولكلاب البحر، وفي باروس [جزيرة يونانية] صورة مطبوعة لنبات لوريل في قاع حجر، علاوة على ذلك، في مليتا [إيطاليا؟]، عُثِرَ على أجزاء من جميع أنواع الحيوانات البحرية. ويقول أنها أُنْتِجَتْ عندما غُرِسَتْ كل الأشياء في الأصل في الوحل، وتم تجفيف انطباع لها في الوحل. يقول إن جميع البشر هلكوا عندما طُرِحَت الأرض في البحر، فتحولت إلى طين". [6]

أما عن تاريخية طوفان نوح، يقول هيبوليتوس: "وفي زمن نوح حدث طوفان في جميع أنحاء العالم .. و نوح هذا، لأنه كان أكثر رجل متدين ومحبا لله، وحده، مع زوجته وأبناءه، وزوجاتهم الثلاثة، هربوا من الطوفان الذي تلا ذلك. وهو مدين بحفظه للفلك. وكل من أبعاد وبقايا هذا الفلك، كما أوضحنا، تظهر حتى يومنا هذا في الجبال المسماة أراراط ، والتي تقع في اتجاه بلد أديابين". [7]

يعلّم ثيؤفيلوس الأنطاكي (القرن الثاني) عن تاريخية الطوفان الكتابي قائلا: "لقد شرحنا الأشياء التي تختص بنوح، الذي يُطْلَقُ عليه بواسطة البعض دوكاليون .. بعد الطوفان، كان هناك، مرة أخرى، بداية للمدن والملوك". [8]

يقول ثيؤفيلوس الأنطاكي أيضا أن أفلاطون علّم بطوفانا محليا، لم يشمل الأرض كلها. وأفلاطون لا يؤمن بالطوفان الكتابي، لكن فقط أرجعه إلى عوامل طبيعية: "بالنسبة لأفلاطون .. عندما بَرْهَنَ أن طوفانًا قد حدث، قال أنه لم يمتد على الأرض كلها. بدلاً من ذلك، قال أنه امتد فقط على السهول، وأن الذين فروا إلى أعلى التلال نجوا بأنفسهم. لكن البعض الآخر يقول أنه كان هناك دوكاليون وبيرا [زوجة دوكاليون]، وأنهما كانا محفوظان في صندوق خشبي [فلك]". [9]

كتب أيضا ثيؤفيلوس الأنطاكي عن الطوفان: "كما أنه لم يكتب أنه كان هناك طوفان ثان: على العكس من ذلك، قال أنه لن يحدث طوفان من الماء في العالم مرة أخرى؛ كما لم يحدث في الواقع، ولن يكون هناك. ويقول أن ثمانية أشخاص حُفِظُوا في الفلك، في ذلك الذي أُعِدَّ طبقا لتعليمات الله، وليس بواسطة دوكاليون [ما يعادل نوح في الأسطورة الإغريقية]، بل بواسطة نوح .. كما أوضحنا في مكان آخر أن نوح، عندما أعلن للبشر الأحياء آنذاك أن هناك طوفانًا قادمًا، تنبأ لهم قائلًا، تعال إلى هناك، فالله يدعوك إلى التوبة .. وكان لنوح هذا ثلاثة أبناء .. وكان لهم ثلاث زوجات .. كل رجل وزوجته .. لذلك، كل الأشخاص الثمانية الذين وُجِدُوا على متن الفلك خَلُصُوا. وأظهر موسى أن الطوفان استمر أربعين يومًا وأربعين ليلة، وكانت السيول تتدفق من السماء، ومن ينابيع الغمر المتفجر، بحيث تجاوز ارتفاع الماء 15 ذراع فوق كل قمة عالية. وهكذا تم إهلاك البشري الذي كان موجود آنذاك، وتم إنقاذ فقط أولئك الذين كانوا محميين في الفلك، الذين كانوا، كما قلنا بالفعل، ثمانية أشخاص. ومن الفلك، لا تزال بقاياه تُرَى حتى يومنا هذا [وقت ثيؤفيلوس] في الجبال العربية. هذا، إذن، هو خلاصة تاريخ الطوفان". [10]

فيما يتعلق بالآثار التي خلفها الطوفان في طبقات الصخور والسجل الحفري، يقول ترتليانوس (200 م.): "كان هناك وقت كابد فيه العالم كله تَحَوُّرًا، لأنه اجتاحته جميع المياه. وحتى يومنا هذا، كانت المحارة البحرية وقرون التريتون [كاِئن بحري صَدَفِي من البطنيات] ترقد كأجسام غريبة على الجبال، تتوق لأن تُثْبِتُ لأفلاطون أنه حتى المناطق المرتفعة قد تموجت [بفعل مياه الطوفان]. في النهاية، من خلال الانحسار [للمياه]، كابدت الكرة الأرضية، مرة أخرى، تغييرا في الشكل". [11] وهنا يرى ترتليانوس أن الطوفان كان عالميا. وأنه السبب وراء وجود حفريات بحرية على قم الجبال. وهذا في نظر ترتليانوس رد على ادعاء أفلاطون بأنه كان هناك طوفانا محليا. طبعا مع ملاحظة أن أفلاطون لم ينسب ذلك الطوفان المحلي لإله الكتاب المقدس، بل أرجعه إلى تفسيرات طبيعية. وأخيرا فإن ترتليانوس يرى أن كل من حلول مياه الطوفان في بدايته، وانحسارها في نهايته، أدى إلى حدوث تغييرات كبيرة في شكل الأرض.

يصرّح لاكتانتيوس (250 - 325 م.) عن طوفان نوح قائلا: "من المتفق عليه بواسطة الجميع أن الطوفان حدث لإبادة الشر وإزالته من الأرض. الآن، فالفلاسفة، والشعراء، وكتاب التاريخ القديم، يؤكدون جميعهم على نفس الشئ، وبهذا يتفقون بصورة خاصة مع لغة الأنبياء". وهنا يرى لاكتانتيوس أن ما يقوله الفلاسفة والشعراء والمؤرخون حول حدوث طوفان لإزالة الشر، هو أمر يؤكد ما قاله موسى. طبعا مع التحفظ على أن ما قاله أولئك عن حدوث طوفان لم يكن مطابقا لما سجله موسى في توراته. 

يضيف لاكتانتيوس في نفس القرينة قائلا: "لذلك، إذا كان الطوفان قد حدث لغرض تدمير الشر، والذي كان قد تزايد قبلا من خلال الكثرة المفرطة للبشر، كيف كان بروميثيوس خالق الإنسان، عندما قيل بواسطة نفس الكتبة أن ابنه دوكاليون كان الوحيد الذي حُفِظٓ [من الطوفان] بسبب بره؟ كيف يمكن لسلف واحد وجيل واحد أن يملئوا العالم بسرعة هكذا بالبشر؟ لكن من الواضح أنهم أفسدوا هذا الأمر أيضًا، كما فعلوا في الرواية السابقة. لأنهم كانوا يجهلون كل من تاريخ الطوفان على الأرض ومن كان يستحق أن يخلص بسبب بره عندما هلك الجنس البشري، وكيف ومع من خَلُصَ، الأمور التي يُعَلَّمُ بها جميعا بواسطة الكتابات الموحي بها. من الواضح إذا أن الرواية التي يقدمونها [أولئك الكتاب] بخصوص عمل بروميسثيوس كاذبة". [12]

إن كلمات لاكتانتيوس الأخيرة تستحق منا التمعن فيها. في هذه الكلمات يفند لاكتانتيوس الأسطورة الإغريقية القائلة بأن الطوفان جاء بسبب تزايد شر الإنسان. فيتساءل لاكتانتيوس مستنكرا: كيف يكون الشر الإنساني كثير للدرجة التي استلزمت أن يرسل زيوس كبير الآلهة طوفانا علي البشر، وفي نفس ليس لدينا سوى جيلين من البشر، بروميثيوس الوالد والخالق للبشر، وابنه دوكاليون وزوجته بيرا؟ فلا يعقل أن وجود جيلين فقط من البشر يؤدى إلى فساد الأرض كلها! وهنا يريد لاكتانتيوس القول أن الطوفان الكتابي غير منقول عن الأسطورة، فالأسطورة تهدم نفسها ذاتيا بعدم اتساقها المنطقي. على عكس السجل الموسوي المتسق ذاتيا. 

يؤكد أيضا جريجوريوس النازيانزي (329 - 390 م.) على تاريخية الطوفان اليهودي بقوله: "ومجد نوح في تك 6: 8 أنه كان يرضي الله. هو الذي اِئْتُمِنَ على إنقاذ العالم كله من المياه، أو بالأحرى من نسل العالم، هرب من الطوفان في فلك صغير". [13] وهنا يرى جريجوريوس النازيانزي أن نوح أُنْقِذَ من مياه الطوفان، وفي نفس الوقت من نسل العالم الأشرار. فالفلك خلصه من مياه الدينونة، بينما خلصته مياه الدينونة من الأشرار وشرهم. تماما كما يقول بطرس أن نوح خلص "بالماء": "الذي فيه خلص قليلون، أي ثماني أنفس بالماء" (1 بط 3 : 20).

يقول واحد من الآباء، اِعْتُقِدَ في بداية الآمر أنه يوستاثيوس الذي عاش في القرن الرابع، ولكن اتضح فيما بعد أنه لم يكن يوستاثيوس هو الذي كتب ذلك بل نسبت إليه: "بما أن المياه قد غطت قمم الجبال، فقد طُمِرَتْ تماما واختفت بتدفقها. لأنه في أوقاتنا هذه أيضا، على قمة جبل لبنان، وجد الرجال، الذين يقطعون الحجارة [لاستخدامها] كعلامات للحدود، أنواعًا مختلفة من الأسماك البحرية، والتي لابد أنها جُمِعَتْ معا في كهوف الجبال عندما عَلِقَتْ في الوحل". [14] وهنا يؤكد هذا الكاتب، أيا كانت هويته الحقيقية، على عالمية وتاريخية طوفان نوح. وأن وجود الحفريات البحرية على قمم الجبال هو دليل على صدق السجل الكتابي بأن الطوفان كان عالميا ومدمرا وقتل كل الكائنات فيما عدا كل من كان داخل الفلك.

يكتب يوحنا فم الذهب (347 - 407 م.) قائلا: " 'حدث بعد سبعة أيام' تماما كما أنذر الرب. يقول أن: 'مياه الطوفان صارت على الأرض، في سنة ست مئة من حياة نوح، في الشهر الثاني، في اليوم السابع عشر من الشهر'. لاحظ دقة الكتاب المقدس، فليس أنه أخبرنا بالسنة فقط، بل أوضح الشهر واليوم أيضًا. ولكي يحضر الأجيال القادمة إلى إطار للفهم أفضل من خلال هذا السجل التاريخي، ولكي يزيد من خوفهم حول ما حدث، يقول: 'في ذلك اليوم، انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت كل طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة'. انظر إلى مدى المراعاة التي يوظفها الكتاب المقدس هنا أيضًا، واصفًا كل شيء بطريقة إنسانية: ليس هناك بوابات كسدود في السماء، بل يصف كل شيء بعبارات مألوفة لنا، كما لو كان يقول أن الرب ببساطة أعطى أمرًا فأطاعت المياه أمر خالقها فورًا، وسقطت من السماء من جميع الجوانب وغمرت العالم بأسره". [15]

رغم أن فم الذهب يعتبر أن تعبير "طاقات السماء" ليس حرفيا، إلا أنه وصف لما فعله الله في السماء بتعبيرات بشرية. وهذا لم يمنع فم الذهب من ملاحظة الدقة التي استعملها الكتاب في تحديد تاريخ بدء الطوفان. وعليه فالكتاب المقدس، طبقا لفم الذهب، يستعمل تعبيرات بشرية، ليصف ما فعله الله، ولكن بطريقة لا تخل بدقة الإعلان وجودته.

أخيرا وليس آخرا، يؤكد بروكوبيوس الغَزِّي (575 - 538 م.) على تاريخية وعالمية طوفان نوح بواسطة المشاهدات الجيولوجية التي كانت في وقته، والتي لا تزال متاحة لنا، بوجود كائنات بحرية متحفرة في أعلى قمم الجبال. يقول بروكوبيوس الغَزِّي للذين يجدون صعوبة في تصديق ما رواه موسى من أحداث تاريخية: 

"يمكن الإظهار بوضوح، من خلال العديد من الطرق الأخرى، أن طوفان عالمي جاء على الأرض، حيث يمكن بواسطة ذلك [الإظهار] إقناع هؤلاء الأشخاص الذين يؤمنون بصعوبة، أن موسى قد شرح هذه الأشياء. فحتى اليوم، في الجبال الشامخة والتي يصعب تسلقها، توجد بقايا [كائنات] بحرية، أي محارة بحرية وقطع أصداف سلاحف بحرية وغيرها من الأشياء، وهو ما رأيناه نحن أنفسنا". [16]

ختاما، وبناء على كل ما سبق، التمسك بحرفية وتاريخية وعالمية وتدميرية طوفان نوح، ليس أمرا استحدثه الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر. وليس وليدا للأصولية البروتستانتية في القرن العشرون. بل هو إيمان الكنيسة التاريخي منذ وجودها. إنه لشتان الفرق بين موقف الآباء الذي رأيناه في السطور السابقة، وبين موقف المسيحيون المعاصرون الذين يساومون على دقة وصدق ومعقولية ما سجله لنا الوحي على يد موسى فيما يتعلق بالطوفان الكتابي. فبينما يسرع المسيحيون المعاصرون لتصديق الإعاءات بأن ملحمة جلجامش الأسطورية البابلية أسبق من سفر التكوين زمنيا، وأن ما كتبه موسى كان بوحي من تلك الأسطورة، فإن الآباء لم يهتزوا أمام ادعاءات القدماء بأن موسى نقل عن الأسطورة الإغريقية. وبينما يعتنق المسيحيون المحدثون ملايين السنين من التطور، وأن حفريات السجل الأحفوري دليلا على حدوثه (كما يزعم التطوريون)، فإن الآباء المباركون، لم يروا في السجل الأحفوري سوى برهانا على مصداقية طوفان نوح الكتابي. 

ولعله يكون في هذه الشهادات التاريخية التي وثقناها أعلاه توبيخا للمساومات المسيحية المعاصرة!


[1] Morris, John D., Sherwin, Frank J., The Fossil Record: Unearthing Nature's History of Life, 2010, Institute For Creation Research. Dallas, Texas. p.37
[2] Mortenson, Terry, 2008, 'Where Did the Idea of “Millions of Years” Come From?' in Ham, Ken (ed) The new answers book 2, Green Forest, AR: Master Books, p.114
[3] Deucalion, Encyclopaedia Britannica: britannica.com/topic/Deucalion
[4] Justin Martyr, Diaglogue With Trypho, 138
[5] Origen, Against Celsus, 4.41
[6] Hippolytus, Refutation Of All Heresies, 1.12
[7] Hippolytus, Refutation Of All Heresies, 10.26
[8] Theophilus of Antioch, To Autolycus, 2.30-31
[9] Theophilus of Antioch, To Autolycus, 3.18
[10] Theophilus of Antioch, To Autolycus, 3.19
[11] Tertullian, On The Pallium, 2
[12] Lactantius, Divine Institutes, 2.11
[13] Gregory of Nazianzus, Second Theological Oration 18
[14] Pseudo-Eustathius, Commentary on the Hexameron
[15] John Chrysostom, Homilies On Genesis, 25.10
[16] Procopius of Gaza, Commentary on Genesis.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس