فريدريك شلايرماخر أبو اللاهوت الليبرالي: حيٌّ يرزق فيما بيننا!

١٧٦٨ - ١٨٣٤

لاهوتي وفيلسوف ألماني. لُقِّبَ بأبو اللاهوت الليبرالي. كان ولا يزال له تأثير كبير على اللاهوت في الغرب والشرق.

كان لشلايرماخر أصدقاء معتنقين للفلسفة الرومانسية (حركة شملت الفن والأدب والفلسفة تركز على الجانب الشعوري الفردي) والتي نشأت كرد فعل على جمود وتجريد الفلسفة العقلانية (العقل هو معيار الحق). وأصدقاءه هؤلاء كانوا محتقرين للدين أيضا لأنهم نفروا من كل ما هو عقيدي مجرد (أي تعثروا من العقيدة إن شئنا أن نستعمل لغة معاصرة). فألّف كتابه: "في الدين: أحاديث لمحتقري الدين المثقفين".

ومن ناحية أخرى فقد رأى شلايرماخر أنه لا يمكن الاعتقاد بالمسيحية الكتابية القويمة بسبب الهجوم الذي تعرضت له من العقلانيين. لا مجال للعودة من جديد، للمسيحية الكتابية بعد أن قوضها هجوم التنوير العلماني بشقيه العقلاني والتجريبي. بل ولا تستحق ذلك في نظره.

فرأى شلايرماخر أن الحل لتفادي الهجوم العقلاني على المسيحية ومن ثم إنقاذها من بين براثنه من ناحية، وفي نفس الوقت الكرازة لأصدقائه الرومانسيون من ناحية أخرى، هو أن ينأى بالمسيحية عن النص الكتابي والعقيدة، ويحصرها في الشعور والاختبار.

لهذا رأى أن جوهر الدين، بما في ذلك المسيحية، ليس في العقيدة المجردة كما علم المصلحون. وليس في الأخلاقيات المؤسسة على العقل كما نادى كانط. بل يكمن في الشعور الديني. وطبقًا لكلمات شلايرماخر "إن جوهر الدين هو الحدس أو الشعور".

هذا الشعور الديني هو الوعي بالله والاتكال المطلق عليه. فالإنسان منذ خلقه، لديه وعيا بالله (البر الأصلي) ولديه أيضا نسيانا لله أو إغفالا له (الخطية الأصلية). والخطية هي تغليب الأمور الأرضية مما يؤدي إلى قمع الوعي بالله.

الوعي بالله لا يعني مجرد انفعال عاطفي ولكنه إحساس بالاتكال المطلق على الله يتغلغل كل الكيان الإنساني.

هذا الوعي بالله موجود لدى البشر جميعا، ولكن الفرق يكمن في الاختلاف في درجات هذا الوعي فيما بينهم. أما عن يسوع، فهو أسمى مستوى وعي بالله حققه الإنسان. أي أن يسوع لا يختلف نوعيا عن البشر ولكن من حيث مستوى الوعي. فتميزه وتفرده ليس بسبب كونه الله الظاهر في الجسد، وليس بسبب أنه قدوس غير وارث للخطية الأصلية، بل بسبب نموه البالغ في وعيه الذاتي بالله. يسوع يتميز عن البشر من حيث الدرجة وليس من حيث النوع.

والمسيحية بدورها لا يميزها أي شيء عن باقي الديانات سوي في مستوى نموها في الوعي بالله. فليس هناك ديانة صحيحة وديانة خاطئة. ذلك لأن الديانات جميعا تدعو إلى الوعي بالله. ولكن يوجد ديانة بلغت مستوى أعلى من ديانة أخرى لأنها أكثر نموا في وعيها الديني.

الإعلان الكتابي لدى شلايرماخر ليس إعلانا موضوعيا ثابتا وناتجا عن عمل الله في التاريخ الفدائي، بل هو سجلا لاختبارات من كتبوه، أو ترجمة لوعيهم الداخلي بالله في صورة أطروحات عقيدية. الإعلان لدى شلايرماخر هو استنارة شخصية تنبع من الداخل، وليس حقا عقيديا موضوعيا يأتينا من الخارج ويُحدث فينا اختبارا شخصيا داخليا. وعليه فكل واحد يمكن أن يكتب كتابا مقدسا يعبر عن اختباره الفردي بالوعي الإلهي.

الله لدى شلايرماخر موجود في كل شيء، بل وفي الإنسان نفسه. لهذا فإن العلاقة مع الله عن طريق الشعور تمكن الإنسان من أن يكون له علاقة مباشرة بالله، وذلك على خلاف ما علم به المصلحين من ضرورة معرفة الله من خلال الأطروحات العقيدية في الكتاب المقدس. الأمر الذي جعل البعض يتهمه بأنه يؤمن بوحدة الوجود Pantheism ، بل وبالوحود الالهي الذي يحوي كل شيء Panentheism .

المسيح في فكر شلايرماخر هو أسمى مستوي حققته البشرية من الوعي بالله. والمسيح ليس بلا خطية لأنه غير وارث للفساد، ولكن لأن لديه وعيا عظيما بالله. وفداؤه يكمن في الانطباع الذي أحدثه في كنيسته بواسطة ذلك المستوي السامي الذي حققه من الشعور الواعي بالله. أي أن المسيح ليس سوى نموذجا لأسمى درجات الاختبار الروحي الواعي بالله.

ماذا يعني لنا ذلك كبروتستانت شرقيون؟ الغرض من عرض هذه النبذة عن شلايرماخر هو لفت النظر إلى حقيقة أن التيارات اللاهوتية الموجودة الآن على الساحة البروتستانتية في الشرق، والتي تقوم بحصر المسيحية في الشعور أو الاختبار، كما يعلّم بعض اللاهوتيون، أو تدعي بأن الوعي بالله موجود لدى البشر جميعا في كل الأديان والخلفيات ولكن بدرجات متفاوتة، وفقا لما ينادي به لاهوتيون آخرون، تجد جذورها فيما علم به شلايرماخر. طبعا ليس كل من تأثر بلاهوت شلايرماخر نقل أفكاره بحذافيرها. وليس من الضروري أن كل من تأثر بشلايرماخر، كثيرا أو قليلا، سيعترف بذلك صراحة. ففي نهاية المطاف المسؤولية تقع علينا نحن بأن نمارس التمييز الروحي ونحكم على الأفكار الغريبة وإن أنكر أصحابها تأثرهم بها.

على سبيل المثال، هناك واعظ مشهور يقوم بإعلاء الاختبار فوق التعليم (جوهر الدين هو الشعور). ويرى أن لا فضل للمسيحية على باقي الديانات سوى أنها تقدم منظورًا للعالم أكثر دقة (المسيحية فقط وصلت إلى مستوى أعلى في الوعي بالله من باقي الديانات). وأن هناك من سيخلصون دون أن يكونوا قد سمعوا عن المسيح أو آمنوا به عن وعي (الوعي بالله موجود في الجميع).

شلايرماخر إذًا حيٌّ يرزق فيما بيننا.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس