الله والإنسان: من الذي يبحث عن من؟


هل هناك من يبحث عن الله؟ ماذا عن كل العابدين في الديانات المختلفة من حولنا؟ أليسوا – بشكلٍ أو بآخر – باحثون عن الله؟ ماذا عن الذين يتصدقون ويصنعون الخير من مختلف الأديان، رغبة في ارضاء الله؟ هل الإنسان هو الذي يأخذ المبادرة في البحث عن الله، ودور الله فقط هو أن ينتظر سلبيًا من يبحثون عنه؟ إن كان الخلاص عمل تعاوني مشترك بين الله والإنسان، ما هي نسبة كل منهما في العمل؟ أو أين يبدأ الإنسان، ومتى يأتي دور الله في الإستجابة له؟ 

أنظمة الخلاص الأربعة ومشكلة الإنسان 

حول دور الإنسان في الخلاص، والذي يشمل البحث عن الله، يوجد أربعة أنظمة سوتوريولوجية (خلاصية). ونقول "أنظمة" لأن نظرتنا للخلاص مؤسسة على ومرتبطة منطقياً ونظامياً بما نعتقده حول طبيعة الإنسان الأدبية. أو بتعبير أدق، مؤسسة على ما نعتقد أن الكتاب يعلمه عن الفساد الجذري للإنسان. فدور الإنسان يتحدد بناءً على مدى قدرته وفعاليته. فكلما كان الإنسان صالحًا وقادرًا، كلما ازداد دوره في الخلاص، وتَقَلَّصَ معه دور الله. والعكس صحيح، الإقرار بالفساد الجذري للإنسان، كما يعلّم التقليد المصلح يعني من الناحية الأخرى مركزية وكفاية عمل النعمة. كل منظور أو تعليم عن الخلاص نسمعه من أي لاهوتي، به افتراض مُسبق حول طبيعة الإنسان. فمثلاً، طبقًا للبيلاجيوسية، فإن الخلاص عمل إنساني صرف، يأخذ الإنسان فيه مبادرة البحث عن الله ومعرفته وقرار تبعيته، بل ويكمل العمل أيضًا إلي آخره بنفسه. والنعمة ليست سوى عاملاً مساعدًا، وغير ضرورية للإنسان. والنصف بيلاجيوسية ترى أن الخلاص عمل تعاوني مشترك بين الله والإنسان، إلا أن الإنسان هو الذي يأخذ المبادرة والله يستجيب لها. وإن كان الإنسان في الحالتين السابقتين يأخذ المبادرة والله يستجيب لها، إلا أنه طبقا للأرمينية، فإن الخلاص عمل تعاوني مشترك أيضًا، ولكن الله هو الذي يأخذ المبادرة والإنسان يستجيب لها. على خلاف كل الأنظمة السابقة، تأتي الكالفينية لتعلم بأن الخلاص عمل إلهي صرف، الله يأخذ المبادرة ويكمل العمل إلي آخره. وحينها فقط يبدأ سعى الإنسان نحو الله. 

المشكلة في الأنظمة الثلاثة الأولى، أنها تجعل عمل المسيح متوقفًا على إرادة الإنسان واستجابته وبحثه. بمعنى لو أن خلاص المسيح، متوقف على قبول الإنسان له، فإن هذا من شأنه وضع عمل المسيح الكامل وغير المحدود، تحت رحمة الإنسان الرافض والمقاوم له. فمن إذًا يضمن أنه سيكون هناك واحد فقط يمكنه أن يقبل ذلك العمل؟ ولكن عمل المسيح لم يجعل الخلاص ممكنًا فقط، بل فعَّالاً. فليس عمل المسيح تحت رحمة الإنسان الخاطئ، أي أنه خلاصًا ممكنًا يُصَيِّرَهُ الخاطئ بإرادته فَعَّالاً، بل الإنسان الخاطئ تحت رحمة ونعمة عمل المسيح، أي أن خلاص المسيح ليس فقط ممكنًا بل فعَّالاً في ذاته دون التوقف على إرادة الإنسان. 

الفساد الجذري للإنسان 

قبل أن يسقط آدم، وكل نسله معه، لكون الأول نائبا تضامنيًا للثاني، بل ولكل الخليقة العاقلة وغير عاقلة، كان الإنسان له طبيعة محايدة تجاه الشر. يستطيع إرادة الصلاح، وإرادة الشر، في نفس الوقت وبالتساوي. لكن بمجرد أن سقط الإنسان الأول، فسدت طبيعته. وصار نسله وارثًا لتلك الطبيعة. كما يقول الوحي: "وعاش آدم مئة وثلاثين سنة، وولد ولدًا على صورته كشبهه، ودعا اسمه شيثًا" (تك 5 : 3). فإن كان آدم قد خُلِقَ في بداية الأمر على صورة الله ومثاله، ثم فسدت تلك الصورة، مع كونها لا تزال موجودة فيه وفي نسله، إلا أن نسله جاء لا على صورة الله الأصلية، بل ورث تلك الصورة المشوهة من آدم أبيهم. 

لقد تسبب هذا الفساد في أن يفقد الإنسان إرادته للبر. الإنسان لديه قدرة طبيعية على فعل الأشياء، لكن هذا لا يعني (وفي نفس الوقت لا يضمن) أن لديه القدرة الروحية والأدبية على إرادة الصلاح. فهو يستطيع أن يحب ويكره، لكنه يحب الظلمة ويكره البر. لديه القدرة أن يتخذ القرارات، لكنه لا يستطيع أن يتخذ قرار طاعة الله من تلقاء نفسه، نظرًا لطبيعته التي تجنح إلى عصيان الله. إن لا أحد من البشر لديه القدرة من تلقاء نفسه على طاعة أمر الله بالتوبة. والكتاب المقدس يقدم الكثير من الأوصاف لحالة الإنسان تصور مشكلته من أبعاد مختلفة. فهو ميت روحيًا (مت 8 : 22، لو 15 : 24 ، أف 2 : 1، أف 5 : 14)، ومريض روحيًا أعجزه المرض الروحي (إش 1 : 5، إر 3 : 22، مت 13 : 15 ، مر 2 : 16 - 17)، وأعمي روحيًا لا يستطيع أن يرى قباحته بسبب الخطية ولا يستطيع أن يرى جمال الله ومشيئته الصالحة (2 كو 4 : 4، 2 كو 3 : 14، يو 12 : 40). يقول أيضًا بولس: "لأن إهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله، لأنه ايضًا لا يستطيع"( رو 7 : 8). في المبسطة: "فالتفكير الخاضع للطبيعة الجسدية معاد لله، لأنه لا يخضع لشريعة الله، بل ولا يمكنه أن يخضع". 

الإنسان يرفض كل من الإعلان العام والإعلان الخاص لله عن نفسه 

طبقًا لهذه الطبيعة الفاسدة، فإن الإنسان لا يريد الصلاح أو البر. وبالتالي لا يبحث عن الله. يقول الكتاب المقدس أن لا أحد من البشر يريد الله أو يبحث عنه أو يرغب في علاقة معه: "ليس من يفهم. ليس من يطلب الله" (رو 3 : 11). في ترجمة كتاب الحياة جاءت: "ليس من يبحث عن الله". ليس فقط أن الإنسان لا يبحث عن الله، بل إنه يبحث في الإتجاه المضاد. يحب الظلمة ويبحث عن عبادة الأصنام، ويرغب في التمرد على الله ومقاومته: "وأحب الناس الظلمة أكثر من النور" (يو 3 : 19). وهذا ليس معناه أن الإنسان يحب النور والظلمة ولكنه يفضل الظلمة عليها، بالعكس، بل يبغض النور ويحب الظلمة، أن تحب الظلمة هو أن تبغض النور. في الترجمة العربية المشتركة ترد هذه الآية كالآتي: "فأحب الناس الظلمة بدلا من النور". وفي الترجمات الإنجليزية المحافظة ESV و NET و NASB و HCSB و RSV و ASV وAMP تُرْجِمَت إلى: rather than ، أي "عوضًا عن". وفي ترجمة NIV تُرْجِمَت إلى: instead of ، أي "بدلاً من". 

منذ سقوط الإنسان في جنة عدن والرب هو الذي يبحث عن الإنسان "وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وإمرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة. فنادي الرب الإله آدم وقال له: أين آنت؟ فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فأختبأت" (تك 3 : 8 – 10). بل وحتي في عالم ما قبل الطوفان الذي يصفه بطرس بأنه "عالم الفجار" (2 بط 2 : 5) والذي نال دينونة الله العادلة في الطوفان يقول سفر التكوين "لا يدين روحي في الإنسان إلي الأبد" (تك 6 : 3). كلمة يدين العبرية هنا (دين) تعني أيضًا "يجاهد" أو "يصارع" وقد وردت في الكثير من الترجمات الإنجليزية (Strive) أي "يكافح"، وفي السبعينية (katameno) أي "يبقي". فروح الله ظل يجاهد مع عالم الفجار قبل الطوفان كثيرًا. إلا أنهم أصروا علي عنادهم ومعاداتهم لله. لهذا قرر الرب أن يهلك عالم الفجار الذي لم يلتفت حتي مجرد الإلتفات لصوته. 

إن المساعي الإلهية الجادة والقوية في الوصول إلى الإنسان لم تكف بعد. فهو لا يزال ينادي من خلال صوت الخواء الداخلي الروحي، ولكن الإنسان هو الذي يصر أن يملأه بأشياء أخرى غير الله. إنها الآبار المشققة التي لا تضبط ماء كما قال النبي (إر 2 : 13). ويتكلم الرب أيضًا من خلال صوت الضمير، إذ يقول بولس "الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم، شاهدا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة" (رو 2 : 15). لاحظ أن الضمير يفعل شيئين يشتكي (يتهم) و يحتج (يصادق). ولكن يقول الكتاب أيضًا أن الأشرار: "إذ قد فقدوا الحس، أسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسة في الطمع" (أف 4 : 19). 

ويتحدث أيضًا من خلال الطبيعة "لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته، حتي أنهم بلا عذر" (رو 1 : 20). لفظة "مصنوعات" باليونانية هي (poiema) وتعني أيضًا "عملاً شعريًا" والتي هي مصدر الكلمة الإنجليزية (poem) أي "شعر". فالخليقة ليست مجرد مصنوعات، لكنها عملاً فنيًا، يحرفه الدراونة إلى مجرد عبث وعشوائية وصدفة، مدعين أنها تبدو مصممة تصميما ذكيًا ولكها في حقيقتها ليست كذلك. إنهم يقمعون حق الله في إعلانه العام عن نفسه في الطبيعة "لأن غضب الله معلن من السماء علي جميع فجور الناس وإثمهم، الذين يحجزون [يقمعون، يخمدون] الحق بالإثم" (رو 1 : 18). 

يتكلم الله أيضًا من خلال التجسد، فميلاد الرب يسوع المسيح وحياته وموته وقيامته وصعوده جميعًا شاهدة بأن الله دخل التاريخ الإنساني "لكي يطلب ويخلص ما قد هلك". ولكن، هذا الذي يدعوه بولس سر التقوى، قوبل برد فعل شديد الإثم من الإنسان. ففي محاكمة وصلب وقتل يسوع اتحد كل من اليهود والرومان، عامة الشعب وقادة الأمة، رجال الدين ورجال السياسة، الإنسان (يهوذا) والشيطان (الذي دخله)، بيلاطس وهيرودوس اللذان كانا في عداوة قبلا وأصبحا أصدقاء من جديد عند تصاعد أحداث رفض يسوع (لو 23 : 12). كل هؤلاء جمعتهم رغبة واحدة، التخلص من ذلك البار الذي شهد على شرورهم وتمردهم وحقدهم. 

وبعد أن مات وقام وصعد الرب يسوع المسيح، ترك للعالم كنيسته الشاهدة التي يتحدث من خلالها "أنتم نور العالم" و"ملح الأرض". ولكن ما أقل الأوقات التي عبرت على الكنيسة دون أن تواجه اضطهادًا ورفضًا. "إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم" (يو 15 : 18). والعالم يبغض الكنيسة، والإبن، لأنهم يبغضون الآب: "أبغضوني أنا وأبي. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنهم أبغضوني بلا سبب" (يو 15 : 24 ، 25). لماذا كل هذه الكراهية للإبن، وللآب، ولكنيستهما، إن كان الإنسان يبحث عن الله فعلاً؟ 

وترك لنا أيضًا "الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في موضع مظلم" (2 بط 1 : 19). ولكن البشر، بدءًا من الصدوقيين الذين تشككوا في العهد القديم ما عدا التوراة، ثم مارسيون وأتباعه، مرورًا بالعقلانيين في القرن السادس عشر، ثم أنصار النقد الأعلى والنقد التاريخي، ووصولاً إلى يومنا هذا ومن يعتقدون بوجود أجزاء موحى وأخرى غير موحى بها، بل ومن يتشككون في تاريخية يسوع من الأساس. إنه نفس صوت الحية القديمة في جنة عدن: "أحقًا قال الله". 

بل إن الله يتكلم من خلال الألم والكوارث والمآسي الإنسانية مخبرًا البشر أن هناك خلل في الإنسان وفي الخليقة "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون". ولكن الفلاسفة الملحدون (جون ستيوارت ميل) يفسرون ذلك علي أنه إما أن الله عاجز عن خلاص البشر أو أنه غير مكترث. فبدلا من أن يري الإنسان المشكلة فيه يراها في الله. 

وأخيرًا وليس آخرًا فإن الله يتكلم من خلال الإحتجاب عن خليقته. إنه مثل الشمس حينما تتواري وراء الغيمة، يحتجب هو لكي يخلق فينا جوعًا ويجعلنا نستعلم عنه. ولكن الإنسان الباطل الجاحد يقول، إن كان الله موجود، فلماذا لا يظهر؟ ولماذا لا يرسل لنا علامة من السماء على الأقل؟ لا شك أنه يستطيع الإعلان عن نفسه بصورة معجزية، لكنه لا يفعل ذلك، لأنه لا يحب أن يقحم نفسه علي الإنسان. لأن الله لو ظهر بصورة فائقة للطبيعة لربما سحقنا هذا الإعلان، فنعبده خوفًا وليس عن حب أو طواعية أو انجذابًا له. بل وحتى عندما حدث ذلك الإعلان المعجزي رفضوه "فطلب إليه جمهور كورة الجدريين أن يذهب عنهم، لأنه اعتراهم خوف عظيم. فدخل السفينة ورجع" (لو 8 : 37). ورغم أن الرب يسوع المسيح لم يحتاج أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما في الإنسان "أجابهم يسوع وقال: الحق الحق أقول لكم، إنكم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم" (يو 6 : 26)، إلا أن هذا لم يثنيه عن قصده المحب في الإعلان عن رحمته للإنسان الساقط المعاند. لهذا أخبر إبراهيم الغني أن اليهود لن يلتفتوا إلى المعجزات لأنهم لم يلتفوا إلي كلمة الله "فقال له: إن كانوا لا يسمعون من موسي والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون" (لو 16 : 31). فهل سمعوا للأنبياء أم قتلوهم؟ ألم يصفهم الرب بأنهم "أبناء قتلة الأنبياء"؟ إن الله يبحث عن الإنسان متحدثًا في "الصوت المنخفض الخفيف". لكن الإنسان هو الذي يريد الإختباء والهروب وإظهار العناد بشتى الطرق. 

لقد رفض الإنسان إعلان الله العام، في الطبيعة والضمير، وإعلانه الخاص في يسوع وفي الكلمة المكتوبة. 

بغضة الإنسان لله على المستوى الجماعي أيضًا 

وبغضة الإنسان لله، وعداوته له، ليستا فقط على المستوى الفردي، بل على المستوى الجمعي أيضًا "لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب في الباطل؟ قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع قيودهما، ولنطرح عنا ربطهما" (مز 2 : 1 -3). لقد وصل حد الرفض الإنساني إلى الثورة الجماعية ضد الرب ومسيحه. إن الأمم بأكملها في حالة من النسيان المتعمد لله: "الأشرار يرجعون إلى الهاوية، كل الأمم الناسين الله" (مز 9 : 17، مز 50 : 22 ، 106 : 13 ، أي 8 : 13 ، إر 3 : 21 ، 13 ، 25 ، 18 : 15). وفي مجموعهم رافضون له: "فيقولون لله: ابعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر. من هو القدير حتي نعبده؟ وماذا ننتفع إن إلتمسناه؟" (أي 21 : 14، أي 22 : 17 ، مز 10 : 4). 

ليس فقط الأمم هم الذين رفضوا الرب وعبادته، بل شعبه أيضًا. فتاريخ إسرائيل خير شاهد على ذلك. فحتى آدم الجمعي Corporate Adam والذي هو إسرائيل، لم يسعى في إثر الله. بل عبدوا الأوثان، في مصر، في البرية، في أرض الموعد، وفي السبي. لقد أثبت الإنسان سواء على المستوى الفردي، أو الجمعي، أنه غير باحث عن الله الحي الحقيقي، بل رافض ومقاوم له. 

ماذا عن السلوكيات الدينية الإنسانية التي يبدو فيها الإنسان باحثًا عن الله؟ 

كما رأينا، فإن الكتاب المقدس لا يعلمنا أن الإنسان يبحث عن الله، بل أن الله هو الذي يبحث عن الإنسان الذي يسعى للهروب منه والتمرد عليه. وما يبدو من السلوكيات الإنسانية على أنه بحث عن الله، رغم كونه من منظور ما كذلك، إلا أنه في حقيقة الأمر ليس بحثًا حقيقيًا عن الإله الحي الحقيقي. 

ولكن لعل سائل يعترض، ألم يكن بولس مثلا يسعى للوصول إلى الله حتى وإن كان يبحث بالطريقة الخاطئة؟ ونريد أن نجيب عن هذا السؤال بسؤال مقابل: هل كان بولس يسعى إلى الله أم إلى الفتك بمن يؤمنون بالله؟ أو بكلمات أخرى، هل كان يريد الله حقا أم أنه كان يريد تدمير الله فيمن كانوا يؤمنون به من المسيحيين؟ لاحظ كلماته "كنت أضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها" لكن الفضل لله "الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته" (غل 1 : 13-14). وعندما ظهر له الرب يسوع المسيح صدمه بقوله أنه يضطهده هو شخصيًا "لماذا تضطهدني؟" لقد كان بولس رافضا للمسيح ويضطهده هو شخصيًا وقد أظهر هذا الرفض والغل في اضطهاد أتباعه. وهذا لا يؤكد سوى ما أوردناه سابقًا بأن اليهود أبغضوا الآب والإبن، والعالم سيبغض أتباعهما، لأنهم يبغضون الأصل الذي جاء منه الأتباع، أي الآب والإبن. 

ثم ماذا عن الآيات التي تحض الإنسان على طلب الله والسعي إليه، مثل: (1 أخ 28 : 9، إر 29 : 13 ، مراثي 3 : 25 ، هو 5 : 15 ، 10 : 2، أع 17 : 27 ، عب 11 : 6)؟ إن توقع الله من الإنسان أن يطلبه ليس دليلا على أن الإنسان يريد ذلك، أو يستطيعه. بل هو إعلان عن مشيئته. إن الله يطالب الإنسان بالتوبة، وبالإيمان، وبالرجوع إليه، وبطلبه وبالسعي إليه. لكن هذا لا يعني أن الإنسان يستطيع أو يريد فعل هذا. فكما أوضحنا، أن الرغبة والقدرة الطبيعيتين، على اتخاذ القرارات بواسطة الإنسان، لا يعنيان أنه يمتلك القدرة الأدبية (الروحية) على ذلك. إن الله يحث الإنسان على السعي في إثره والتوبة إليه، لأن الإنسان يستطيع طبيعيًا أن يتخذ القرارات، لكه لا يريد أدبيًا، لكونه عاجز عن ذلك، أن يأتي إلى الله روحيًا، فَيُشْفَىَ. 

وماذا أيضًا عن المتدينين من مختلف الديانات، وعن عبادتهم، ومظاهر وممارسات التقوى التي تبدو عليهم؟ والذين يعملون الأعمال الصالحة لإرضاء الله، ألا يدل هذا على بحثهم وسعيهم نحو الله الخالق؟ يقول آر سي سبرول: 

في رسالة بولس إلى أهل رومية ٣: ١١ ، يصرح بولس: "ليس من يطلب الله". وفي ظاهره، فقد يبدو هذا حُكْمًا مفزعًا. كثيرًا ما يحث الكتاب المقدس الناس بطلب الله، ومع ذلك يعلمنا أيضًا أنه في حالتنا الساقطة فإن لا أحد منا في الواقع يبحث عن الله. الوضع الطبيعي للإنسان غير المجدد هو أنه هارب. ميلنا الطبيعي هو الهرب من الله. أثارت الخطيئة الأولى في عدن الهروب الأول من محضره، هروب للاختباء من الله وتمحيصه. الإحساس بالعري ارتبط بالإدراك الأول للذنب. التمسا آدم وحواء تغطية لخزيهما، مكان للاختباء من ذنبهما. كان هذا هو المشهد الأول للتستر الإنساني، إنها حقًا فضيحة جنة عدن. 

كثيرًا ما نسمع المسيحيين الإنجيليين يقولون إن أصدقائهم غير المسيحيين "يسعون إلى الله" أو "يبحثون عن الله". ولماذا نقول ذلك بينما يعلم الكتاب المقدس بوضوح أن لا إنسان غير مجدد يبحث عن الله؟ لَاحَظَ توما الأكويني أن الناس يبحثون عن السعادة والسلام والراحة من الشعور بالذنب والشبع الشخصي وغير ذلك من الخيرات. نحن نفهم أن هذه الخيرات يمكن العثور عليها في نهاية المطاف في الله وحده. ولأن الناس يبحثون عما يستطيع الله وحده أن يقدمه، فنستنتج أنهم يبحثون عن الله نفسه. وهذا هو خطأنا. في حالتنا الساقطة، فإننا نرغب في الحصول على الخيرات التي يمكن أن يقدمها لنا الله وحده، لكننا لا نريده هو. نريد العطايا بدون المعطي، الخيرات بدون مانحها. 

يعلن رومية 3: 12 أن جميعهم "زاغوا" أو "حادوا عن الطريق". إن الخطاة حقًا "عاصين" [طالبون طريقهم]. قبل أن يطلق على المؤمنين "مسيحيون" (مصطلح للسخرية)، أطلقوا على أنفسهم "أهل الطريق". وتحدث يسوع أيضًا عن "طرق" مختلفة، طريق تؤدي إلى الحياة وأخرى تؤدي إلى الهلاك (متى 7: 13– 14). وبما أنه لا يوجد أحد يبحث عن الله بينما يكون غير مجدد، فليس من المفاجئ أننا نزوغ جميعًا ونخرج عن الطريق. 

نحن لا "نجد" الله نتيجة بحثنا عنه. إننا يُعْثَرُ علينا بواسطته. البحث عن الله لا ينتهي بالتجديد؛ بل يبدأ عند التجديد. إنه الشخص المجدد هو الذي يسعى بصدق وإخلاص إلى الله. لَاحَظَ جوناثان إدواردز أن السعي وراء الله هو العمل الرئيسي للحياة المسيحية. [1] 

في ضوء ما أوضحناه سابقًا، بأن الإنسان لا يبحث عن الله، بل رافض ومقاوم له، وأن البحث عن الله والتماسه يبدأ فقط من الولادة الجديدة، كما صرح جوناثان إدواردز، يثور سؤال. ما الذي يجعل الإنسان يهتم بالدين من الاساس؟ أو يجعله يمارس أعمالاً صالحة لإرضاء الله؟ 

السبب في ذلك، كما يقول كالفن، هو أن الله قد زرع بذرة الدين في الإنسان، أو ما أسماه الإحساس بالإله Sense of Deity، والذي هو نتيجة خلق الإنسان على صورة الله. أو على حد كلمات كالفن نفسها: 

ولكن بالرغم من أن التجربة تشهد على أن بذرة الدين قد زُرِعَت إلهيًا في الجميع، إلا أنه نادرًا ما يوجد واحد من كل مائة يغذيها في قلبه، بل ولا يوجد واحد أبدًا تنمو فيه تلك البذرة حتى النضج معطية ثمرًا في حينه. علاوة على ذلك، في حين أن البعض يفقدون أنفسهم في ممارسات معتقداتهم الخرافية، والبعض الآخر، بِنِيَّة مُبَيَّتَة، يتمردون على الله شرًا، والنتيجة هي أنه، كمقابل للمعرفة الحقيقية له، فإن الجميع فاسدون، بحيث لا يمكن في أي جزء من العالم العثور على التقوى الحقيقية ... يظهر هذا البُطْل والفخر الممتزجين، في أنه عندما يبحث الناس البؤساء عن الله، بدلاً من الصعود أعلى من أنفسهم، كما يجب أن يفعلوا، فإنهم يقيسونه على جهلهم الجسدي، ويتجاهلون البحث الراسخ، فينطلقون لغمس فضولهم في خيالات باطلة. وهكذا، فإنهم لا يتصورونه وفقًا للصفات المُعْلَن بها، وإنما يتخيلونه حسب أي شئ ابتدعته رعونتهم ... بمثل هذا التصور عن الله، لا شيء قد يحاولون تقديمه في سييل العبادة أو الطاعة يمكن أن يكون له أي قيمة في نظره، لأنه ليس هو الذي يعبدونه، ولكن بدلاً منه، تصور وخيال قلوبهم الخاصة. يصف بولس هذا العملية الفاسدة بشكل مثير للإعجاب، عندما يقول: "وبينما يزعمون أنهم حكماء، صاروا جهلاء" (رومية 1: 22). [2] 

هذا ما دعاه أيضًا اللاهوتي راندي ألكورن، بأنه نوع آخر من البحث عن الله. أي من من منظور ما، فإن الإنسان يبحث عن الله لكونه مخلوق على صورته ومثاله. ولكون الله قد جعل الأبدية في قلبه. ومن منظور آخر، فإن الإنسان لا يبحث عن الله. بل يبحث عن صورة زائفة له ترضيه أو تسبب له نوع من الرضا، يتوافق وفساده الداخلي. أو كما قال الأكويني، يبحث عن منافع العلاقة مع الله. ويتسائل ألكورن: كيف يمكن أن يكون هناك من لا يبحثون عن الله، وأن النعمة دائمًا فعالة، وفي نفس الوقت يوجد من هم هالكون داخل الكنيسة؟ والإجابة لديه هو أن هناك درجات من السعي أو البحث عن الله. وفي رأيي أن ألكورن لم يوفق في هذه الصياغة، لكن جوهر حجته هو أن الإنسان غير المجدد لا يبحث عن الله، لكن يبحث عن صورة زائفة له. يقول ألكورن: 

إذاً، فهناك 'سعي' إلى الله وهو ليس مثل 'كل ما أعطاني الآب يقبل إليّ'. إنه نتاج خلق الإنسان على صورة الله، بذلك الفراغ الذي يمكن أن يملأه هو فقط، ذلك الحنين والشوق لله ولكن مع ميل خاطئ يحول الأشياء إلى آلهة مزيفة. وبالتالي، فإن عبادة الأصنام نفسها هي شكل شرير من البحث عن الله، لكنه ليس شكلاً يكرمه. [3] 

حسنًا، إن كانت المظاهر الدينية الخارجية للإنسان في مختلف الديانات، ليست سوى بحث عن منافع العلاقة مع الله دون البحث عن الله نفسه والرغبة في الخضوع لسلطانه، وإن كان الإنسان أيضًا يفعل ذلك مدفوعًا بإحساسه بالأبدية في قلبه، فكيف نفسر الأعمال الصالحة والصدقات والفضائل التي يبديها المتدينون؟ يقول أيضًا سبرول أن المصلحون علموا بما أسموه "الفضيلة المدنية". فالإنسان، رغم فساده الجذري، إلا أنه لا يزال قادرًا على آداء الأعمال الصالحة. وهذه الأعمال الصالحة تتفق مع وصايا الله من الناحية الخارجية. فالأشرار يستطيعون الإمتناع عن السرقة والتصدق بأموالهم، إلا أن هذا في حد ذاته لا يعني أنها أعمال صالحة بمعناها المطلق. ولكن الله تهمه الدوافع الداخلية وراء تلك الأعمال الأخارجية نفسها. وبما أن الدافع المطلوب أن يكون وراء كل عمل صالح للإنسان هو محبة الله، إذًا فالعمل الذي يتفق خارجيًا مع ناموس الله، وينبع من قلب غير متجدد، لا يعتبره الله عملاً صالحًا. [4] 

بناء علي كل ما سبق فإن الله هو الذي يبحث عن الإنسان وليس العكس. وأن الإنسان رافض ومعاند ومبغض لخالقه رغم بحثه عنه. إن مشكلة الإنسان ليست مشكلة إبستومولوجية (كيف نعرف الله أو كيف نصل إليه)، لكنها مشكلة روحية، نحن نعرف أنه موجود لكننا لا نريد أن هذا يملك علينا. إعلانات الله غير خافية عن الإنسان وهو "بلا عذر"، بل نراه "يحجز الحق بالإثم". إن البحث عن الله يبدأ فقط عندما يتجدد القلب "لأن عندك ينبوع الحياة. بنورك نري نورا" (مز 36 : 9). 


[1] Sproul, Robert Charles. What is reformed Theology?: Understanding the basics. Baker Books, 2012, p.86 
[2] Calvin, John. "Institutes of the Christian religion (H. Beveridge, Trans.), 1.4.1 
[3] Alcorn, Randy, If No One Seeks after God Unless God Draws Him and Grace Is Always Effective, then How Can Some Folks Be in the Church (the Tares) and Not Be Saved?, March 26,10. https://www.epm.org/resources/2010/Mar/26/if-no-one-seeks-after-god-unless-god-draws-him-and/ 
[4] Sproul, Robert Charles. What is reformed Theology?: Understanding the basics. Baker Books, 2012, p.83 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس