تفنيد الاعتراضات على البدلية العقابية (٤)

كيف يكون المسيح قد أخذ عقوبة الجحيم الأبدي بينما لم يُصلب سوى ستة ساعات فقط؟

بداية، إن التعليم بأن المسيح تحمل العقوبة الأبدية، بدلاً عن المؤمنين به، لا يعني أنه نزل إلى الجحيم حرفيًا كما يُفهم من قانون إيمان الرسل. بل، كما يتم التعليم طبقًا للمنهج المصلح، أن المسيح تحمل عقوبة الجحيم وهو بعد على الصليب. بحيث أن عبارة "ونزل إلى الجحيم" لا تعني أنه نزل إلى هناك كما يعلم البعض (مثل دعاة حركة "كلمة الإيمان" الكاريزماتية)، بل أنه تحمل عذاب الجحيم دون أن ينزل حرفيًا إلى هناك. إن قولا المسيح "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو ٢٣ : ٤٣)، و"قد أُكْمِل" (يو ١٩ : ٣٠)، فضلاً عن انشقاق حجاب الهيكل من فوق إلى أسفل (مت ٢٧ : ٥١)، تؤكد جميعًا بما لا يدع مجالاً للشك أن المسيح أتم الكفارة وهو بعد على الصليب، إلى أن "أسْلَم الروح". وأن انفصال روحه البشرية عن جسده البشري (ورغم هذا ظل اللاهوت متحدًا بشقي الناسوت كل على حدة)، ثلاثة أيام وثلاثة ليال هو جزء من الكفارة التي تمت على الصليب.

طبعًا سائل هذا السؤال (في الغالب) ينكر البدلية العقابية وبالتالي يقول أن الفترة الزمنية القصيرة التي قضاها المسيح على الصليب دليل على أنه لم يتحمل العقوبة الأبدية. ولكن، يثور سؤال، كم من الوقت كان لابد للمسيح أن يقضيه على الصليب ليكون قد استوفى عقوبة الموت الأبدي؟ ولو قضى المسيح ستة أيام أو حتى (إن افترضنا جدلاً) أنه ظل على الصليب ستة قرون، سيظل السؤال مطروحًا من قبل أولئك، لماذا لم يكابد المسيح العقوبة الأبدية في الجحيم؟ وعليه، فلو أخذنا هذا الاعتراض إلى أبعاده المنطقية، يصير المطلوب بواسطة المعترضون هنا، أن يظل يقضى ابن الله الأزلى عقاب الجحيم الأبدي على الصليب إلى ما لا نهاية!

إلا أن اللعنة وآلام الموت اللذين تحملهم المسيح كانوا استثناء أو شذوذًا عن القاعدة (٢ كو ٥ : ٢١، غل ٣ : ١٣). فقد كان بارًا ولم يكن للعنة أو الألم أو الموت أية أحقية عليه. بل تحملهم كالبديل فقط. لهذا لم يكن من اللائق أو الممكن أن يظل ممسكًا فيهم إلى الأبد. لقد خضع لهذه جميعًا طواعية ولم يُخضع لها من أي طرف آخر.

وقِصَر المدة التي قضاها المسيح على الصليب ليس دليلاً ضد البدلية العقابية. فالله لا يُحد بالزمان أو المكان. فالسائل هنا يشير إلى مدة العقوبة ولا يشير إلى نوعها. بمعنى أنه يشير إلى مدة الآلام والموت وفي نفس الوقت يغفل نوعية الشخص الذي تألم ومات على الصليب. فمن مات على الصليب كان ابن الله المتجسد نفسه. ومن هنا تستمد العقوبة قيمتها الأبدية. إن أعمال الله تستمد قيمتها اللامحدودة من قيمته هو. أيًا كانت المدة التي قضاها المسيح على الصليب ستكون قيمتها اللامحدودة واحدة لأنها معمولة بواسطة ابن الله الأزلي اللامحدود. أن تنكر القيمة اللامحدودة لبدلية المسيح العقابية هو أن تنكر وجود أية قيمة لامحدودة لما عمله المسيح في حياته أو موته. لذات السبب دافع آباء الكنيسة الأوائل عن كل من مساواة الابن للآب من حيث الألوهة والمجد والسلطان، وعن أقنوميته، ومن ثم عن عقيدة الثالوث. لأن إنكار ألوهية الابن وأقنوميته هو إنكار للقيمة اللامحدودة لكفارته.

ولذات السبب يكابد الخاطئ عقوبة أبدية. ذلك، لأنه وإن كانت خطاياه وقتية، فهي، من ناحية، موجهة إلى الله اللامحدود، ومن ناحية أخرى فإن الإنسان لا يستطيع أن يفي ثمن خطاياه لأنه محدودًا. ضف إلى ذلك أن من أخطأ في واحدة من وصايا الناموس فقد صار مجرمًا في الكل. فمهما عمل الإنسان المحدود إذًا لن يستطيع سداد الدين اللامحدود الذي عليه تجاه الله اللامحدود. وكل ما عمله ابن الإنسان، أقنوم الابن الأزلي المتجسد، يأخذ قيمته من قيمة شخصه اللامحدود، حتى ولو كان ما عمله لم يتعدى بضعة ساعات على الصليب.

إن ما يقوم به رئيس دولة ما من أجله شعبه، في بضع دقائق، تنصرف آثاره على الشعب بأكمله طالما بقي في الحكم، بل وربما بعد أن يترك الحكم أيضًا. ذلك لأن ما يعمله رئيس الدولة أو الملك يستمد قيمته من شخصه رفيع المستوى. تخيل أن أحد المواطنين العاديين حاول تمثيل دولته. إن أعماله لن تكون لها أي قيمة تجاه باقي المواطنين، لأنه وإن كان يتمتع بمزايا المواطن، إلا أنه لا قيمة نيابية أو تمثيلية أو رئاسية له رفيعة المستوى مثل الرئيس.

أشرت في البداية أن قصر مدة الآلام التي تحملها المسيح ليس دليلاً ضد البدلية العقابية. تمامًا مثلما لا يمكن أن تكون الثواني التي يستغرقها أحد الأثرياء في دفع دين زوجته الكبير سوى دليل على غناه وقيمته المادية والمعنوية الكبيرة. ومثلما يكون استغراق المصارع الأقوى ثوانٍ قليلة لطرح منافسه القوي أرضًا دليلاً على قيمته وقوته. لقد هُزِمَ الموت الأبدي هزيمة ساحقة وسريعة بواسطة الرب يسوع. إن الغنى الذي في حياة المسيح يساوي ما لا حصر له من البشر كما وكيفًا. ودماه لها قيمة غير محدودة ("كنيسة الله التي اقتناها بدمه" أع ٢٠ : ٢٨) بقدر ما لشخصه من كرامة وقيمة غير محدودان.

إن هذه القيمة اللامحدودة لشخص المسيح الإلهي، هي السبب أيضًا في كون طاعته للناموس، طيلة الثلاث والثلاثون سنة، كافية لاحتساب بره الإيجابي لكل من مثلهم المسيح بنيابته. لقد عاش المسيح ثلاث وثلاثون سنة صنع فيهم البر، وأتم الناموس بصورة مطلقة. وكأن الملايين الذين مثلهم المسيح هم أنفسهم الذين أتموا الناموس. فإن كان لسقوط آدم، الإنسان المحدود، آثارًا أبدية على البشرية بأكملها، فكم وكم تكون الآثار الإيجابية لعمل الابن الأزلي المتجسد على كنيسته؟ لهذا يقول بولس أن عصيان آدم للوصية، ومن ثم موته وموت نسله، يقابله طاعة المسيح للناموس، ومن ثم تبرير من يمثلهم: "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سَيُجْعَلُ الكثيرون أبرارًا" (رو ٥ : ١٩، غل ٤ : ٤).

لقد كان كل ما عمله الرب يسوع المسيح ذو طبيعة نيابية. فقد أناب الواحد عن الكثيرون. وقد كان في حياته ذات الثلاث والثلاثون عامًا ما يكفي من البر ليحتسب إلى الملايين. وكان في موته على الصليب ما يكفي من قيمة لتغطية العقاب الأبدي لبلايين الخطايا لملايين من البشر. أن تجد صعوبة في تقبل مساواة سويعات الصليب بأبدية في الجحيم، هو أن تقول ضمنًا أنك تجد صعوبة في أن ينوب الواحد عن الكثيرون، وأن يكون بديلاً عنهم. إنه إنكار مستتر للطبيعة النيابية لعمل المسيح. ففي النهاية تحمل واحد عقوبة كثيرين. وتحمل عقوبة الجحيم وهو بعد على الصليب دون أن ينزل إلى هناك. كما أنه تحمل ذات العقوبة الأبدية في سويعات الصليب. وهذا يعني أن هناك سرية كبيرة في عمل الصليب. إلا أن هذه السرية لا تلغي وجود ما نستطيع أن نفهمه ونتعلمه عنه. إن عدم استقصاء الصليب incomprehensibility لا يعني عدم معرفة معناه أو استغلاقه علينا unknowability . لهذا فنحن عندما نقول أن هناك سرية في الصليب لا ننفي كونه إعلانًا مضيئًا ومفهومًا في جانبه الرئيسي. إذًا، فالمشكلة ليست في عدم منطقية مساواة ساعات الصليب بالعقوبة الأبدية، بل في عدم معرفة الكيفية التي حدث بهذا ذلك في العالم الروحي، فيما بين الآب وابنه من ناحية، وبين الابن وقوى الشر من ناحية أخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس