تفنيد الاعتراضات على البدلية العقابية (٥‏)

لماذا يتطلب الله دفع ثمنًا لغفرانه؟ وكيف يكون غفرانًا أو مسامحة وهو مدفوع الثمن؟ ألا تتناقض فكرة الثمن أو التعويض مع فكرة الغفران؟ ولماذا مثلاً يأمر الله المسيحي أن يغفر لأخيه بدون دفع ثمن؟ أليس هذا تناقضًا أو كيلاً بمكيالين؟

هذه مجموعة اعتراضات ولكنها مرتبطة معًا حول فكرة ضرورة وجود ثمن لغفران الله لنا.

إلا أن هذا الاعتراض يخطئ من أوجه كثيرة. فهو يقحم مفاهيم وتصورات بشرية على شخص الله وطبيعته. ويزيل التمييز الحرج بين الخالق والمخلوق. كما أنه غير منصف في نقده للبدلية العقابية على أنها تصوّر الله كإله قاسٍ يطلب ثمنًا لغفرانه من الخاطئ وكأنه لم يدبر بديلاً.

معرفة أمور الله تكون بالإعلان وليست بإقحام تصوراتنا البشرية عليه

استنكار وجود ثمن لغفران الله، طبقًا للادعاء هنا، هو محاولة لإقحام تصورات ومفاهيم بشرية على طبيعة الله وشخصه. في حين أننا يبنغي أن نخصع لإعلان الله عن نفسه وليس العكس. لهذا، فإن هذا الادعاء يفترض مسبقًا نوعًا من المعيارية اللاهوتية في تقرير ما هو الصلاح من عدمه أو ماهية الله. إنها محاولة لتشكيل الله طبقًا لمفاهيم بشرية عن الغفران. ولكن، لسنا نحن من يقرر ماهية الصلاح المتعلق بالغفران. ولسنا نحن الذين نحدد كيف يكون الله أو كيف يعمل. بل العكس صحيح؛ الله يكون ما هو عليه بالفعل. وما علينا سوى أن نخضع لإعلانه عن نفسه. والصليب هو إعلان الله عن نفسه. ومن خلال إعلان الصليب نفهم طبيعة الله. إذ فيه محبته وعدله إلتقيا، قضاءه ورحمته تلاثما.

إن أمور الله تُعْلَن، ثم تُقْبَل بالإيمان، وأخيرًا نسعى إلى فهمها. لكن صاحب الادعاء أعلاه، يبدأ من الخطوة الأخيرة، يحاول فهم أمور الله كما يتصورها ودون أن يخضع لإعلان الله عن نفسه في كلمته المقدسة. ولهؤلاء سيظل الصليب عثرة وجهالة ما لم يخضعوا للإعلان ويَدَعُونَهُ يغسل أذهانهم من كل تصوارتهم المسبقة عن الله. يعترضون على البدلية العقابية بحجة أنها نظرية إلا أنهم في الحقيقة تعثروا في ذات جوهر الصليب لأنهم أقحموا تصوارتهم البشرية على الله.

الخطية هي خطأ في حق الله اللامحدود لهذا تتطلب ثمنًا لامحدودًا

الخطية، طبقًا لإعلان الله عن نفسه، هي التعدي على ناموس الله. وهي خطأ في حق الخالق اللامحدود يستوجب الموت الأبدي. فإن كانت "أجرة الخطية هي موت" (رو ٦ : ٢٣)، إذًا فمن الطبيعي أنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة خطية" (عب ٩ : ٢٢). إن ثمن الخطية الفادح مؤسس على كونها موجهة إلى الله اللامحدود. فعاقبة الخطأ في حق الملك ليست كعاقبة الخطأ في حق مواطن عادي. وجسامة الفعل تكون متوقفة على الشخص الموجه إليه ذلك الفعل.

تطبيقًا لذلك، فإن الخطأ في حق الله لا يتساوى مع الخطأ في حق إنسان. والثمن الذي يُعَوَّضُ به الله اللامحدود على قدر الفرق بين لامحدودية الخالق وبين محدودية المخلوق. الفرق، إذًا، بين كون غفران الله لخطايانا يتطلب ثمنًا، بينما غفراننا لبعضنا البعض لا يتطلب ذلك، مؤسس على التمييز الخطير بين الخالق والمخلوق.

غفران الله لنا مكلفًا ومجانيًا في نفس الوقت

إن غفران الله لخطايانا من منظور ما له ثمن، ومن منظور آخر بلا ثمن. فالثمن، الذي هو الموت، دفعه البديل عنا والذي هو الرب يسوع. والغفران يُعطى لنا بلا مقابل لأن البديل سدد الثمن كاملاً عنا. إن الله لا يأخذ ثمن غفرانه مرتين. وهذا هو السبب في كون غفرانه لنا مجانيًا وفي نفس الوقت مكلفًا. لقد تكلف الله أن يبذل ابنه الحبيب لكي يغفر لنا خطايانا. وفي هذا فإن الغفران مكلفًا وباهظًا. بينما أعطى لنا بلا فضة أو ثمن ما أنجزه الرب يسوع المسيح نيابة عنا. وفي هذا فهو غفرانًا مجانيًا. وقد عبر بولس عن هذه الحقيقة المزدوجة في قوله "ليكون الله بارًا ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (رو ٣ : ٢٦). أي لكي يكون الله عادلاً (بارًا) في تبريره للفاجر المستوجب الدينونة فقد استوفى ثمن العدالة من ابنه. إنها تلك الموازنة الدقيقة والحساسة بين عدل الله ومحبته، وبين لطفه وصرامته، وبين غضبه ونعمته. ولهذا فإن هذا الادعاء غير منصف لأنه يغفل أن غفران الله مجانيًا وإن كان مدفوع الثمن. إن هذا الادعاء يحاول القول من طرف خفي أن البدلية العقابية تصور الله قاسيًا يطلب ثمنًا لغفرانه (في المقابلة مع البشر الذين يغفرون بدون مقابل)، في حين أنه يغفل أن هذا الثمن قد استوفاه الله من ابنه ليجعل غفرانه لنا مجانيًا. البدلية العقابية إذًا هي ذات رحمة الله الذي ارتضى أن يبذل ابنه عوضًا عن الخطاة الفجار لكي يهبهم الحياة. فإن كانت قسوة على الابن، إلا أنها رحمة تجاهنا. الاعتراض على البدلية العقابية إذًا هو في جوهره اعتراض على ذات رحمة الله.

وهذا ينقلنا إلى العلاقة بين غفران الله لنا وغفراننا لإخوتنا، ولماذا يتطلب الأول ثمنًا بينما لا يتطلب الثاني نفس الأمر.

الخطية في حق الآخرين هي خطية في حق الله في الأساس

رأينا أن الخطية هي تعدي على ناموس الله اللامحدود، وذلك التعدي يستوجب الموت. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكتاب المقدس يعلمنا بصورة متسقة أن الخطية، وإن كانت موجهة إلى إنسان آخر، أو إلى مخلوقات غير عاقلة (الحيوانات)، أو جامدة (الطبيعة)، هي في جوهرها موجهة إلى الله (تك ٣٩ : ٩، مز ٥١ : ٤). لأنه خالق ومالك كل شئ. ضف إلى ذلك أن الرب هو الذي اشترى (افتدى) قديسيه من الدينونة. وهذا يعني أنه له الكثير من الأسباب التي تعطيه الأحقية على مؤمنيه. ولكن ماذا يعني هذا لمسألة الغفران؟ إنه يعني أن الأخ الذي يخطئ في حق أخيه قد أخطأ في الإساس في حق الرب خالقه وحافظه وفاديه. إن الإساءة، وإن كانت موجهة لنا، هي في جوهرها موجهة إلى الرب. ومن ثم فالثمن أو التعويض (الكفارة) يُدفع للمالك الحقيقي. صحيح أننا مطالبون بأن نعوض من أخطأنا في حقه، إلا أن المقصود هنا هو التعويض الكفاري الأبدي، أو استرضاء عدل الله وغضبه، وليس التعويض الزمني المقدم لمن أخطأنا في حقه. إن ثمن خطايانا في حق إخوتنا قد دفعه الرب يسوع المسيح البديل (بما أن خطايانا موجهة إلى الله في الأساس) والله لا يأخذ ثمن الخطية مرتين.

غفران المسيحي لأخيه ليس غفرانًا قضائيًا بل لاسترداد الشركة معه

عندما يغفر الله لنا فهو يفعل ذلك كقاضٍ يعفو عنا على حساب البديل. لكن عندما نغفر نحن لأحدنا الآخر، فإننا نفعل ذلك كأعضاء لبعضنا البعض. هذه الأعضاء في شركة مع بعضها. إخوة وليسوا قضاة. فبما أن المسيح غفر لنا ديوننا جميعًا، فغفراننا لبعضنا البعض هو نوع من الاعتراف الأخوي لإزالة العوائق من أمام شركة القديسين. إنها استرداد لشركتنا بعضنا البعض. إننا جمعيًا أحرارًا وأبناءً بالفعل في البيت الواحد لأننا اشترينا بذلك الثمن الباهظ وأُحْضِرْنا إلى البيت الواحد. هذا الغفران إذًا له طابعًا عائليًا وليس قضائيًا كغفران الله لنا عندما أتينا إليه كخطاة. ومن ثم فهو غفران بدون استرضاء أو ثمن. على خلاف غفران الله لنا والذي أساسًا غفرانًا لاشباع أو استرضاء العدالة الانتقامية التعويضية.

أخيرًا، ماذا لو لم يطلب الله ثمنًا لغفرانه؟

لو أخذنا هذا الادعاء إلى أبعاده المنطقية، وتسائلنا: لو كان غفران الله بلا ثمن، أين إذًا محبة الله وتضحيته من أجل الخطاة؟ أين بذله؟ وأين الثمن الباهظ الذي تكبده في محبته للخطاة أعداءه؟ لو كان غفران الله بلا ثمن بصورة مطلقة، فإن محبة الله حينها تصبح رخيصة وسهلة، لم تتكبد أو تتكلف أي شئ، هذا إن كان يصلح أن يطلق عليها محبة من الأساس. إن تلك المحبة التي وصفها الرسول "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" تصبح رخيصة وبلا معنى لأنها جُعِلَت بلا ثمن. فمحبة الله هي التي كلفته هذا الثمن الباهظ على الصليب. من هذا الثمن الفادح الذي تكبدته، فإن محبة الله تظهر ذات قيمتها العظيمة والباذلة. فضلاً عن ذلك، أن تقول أن الله يغفر بلا ثمن فإن ذلك لا يعني فقط أن محبته رخيصة، بل يعني أيضًا أنه بلا عدل. لأنه لو لم يكن المسيح قد تحمل ثمن خطايانا، حتى يُعْطَى لنا غفرانًا مجانيًا، فهذا يعني أن الله لا يجازي الشر، ولا ينتقم من فاعلي الإثم المجرمين. إن كان الله قد غفر دون أن يأخذ ثمن العدل من البديل، فهو لن يأخذه من الخاطئ عند الدينونة. وبهذا تتفكك العلاقة بين كفارة المسيح والغفران، وفي نفس الوقت لا يكون هناك أساس للأخلاقيات البشرية بما أن الشر لا يُعاقب. وهكذا فإن التضمينات اللاهوتية لهذه الفكرة خطيرة.

الخلاصة

تلخيصًا لما سبق إذًا، فإننا نتعلم عن غفران الله لخطايانا ليس بإقحام أفكارنا البشرية على شخص الله وعمله. بل بفهم غفران الله في ضوء إعلانه عن نفسه. وطبقًا لهذا الإعلان، فإن الله، يتطلب ثمنًا لغفرانه لأنه الخالق والمالك. وثمن غفرانه للخطية هو سفك الدم، بما أن الخطية هي تعدي على ناموس الله، وخطأ في حق الله اللامحدود. إلا أن الله استوفى هذا الثمن من البديل الكفاري يسوع المسيح. وهذا يعني أن غفران الله مكلفًا ومجانيًا في نفس الوقت. مكلفًا لأن أجرة الخطية هي الموت. ومجانيًا لأن البديل سدد هذ الثمن عنا. أما عن أسباب اختلاف غفران الله لنا عن غفراننا لبعضنا البعض، فلأن الخطأ في حق الله خطأ غير محدود. ولأن الاساءة في حقنا هي أساسًا خطية موجهة إلى الله قد حملها البديل يسوع المسيح عنا. والله لا يأخذ حقه مرتين. وأن غفران الله لنا هو غفرانًا قضائيًا بينما غفراننا لبعضنا البعض هو غفران إخوة وأخوات لأحدهم الآخر داخل بيت العائلة الواحد. فضلاً عن ذلك، فإن الادعاء بأن غفران الله ينبغي أن يكون بلا ثمن له تضمينات لاهوتية خطيرة تطعن في محبة الله وعدله ومعنى وقيمة ما عمله المسيح على الصليب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس