لأجل مجد الله وحده

جوهر الخلاف بين العقيدة الإنجيلية المصلحة وبين العقيدة القبطية الأرثوذكسية

مقدمة

يقول القس سامح موريس أن علينا كإنجيلين ألا نتحدث عن إختلافات الطوائف لأجل مجد المسيح. وإن كان يقصد بذلك الطوائف التقليدية بصفة عامة، أرثوذكسية وكاثوليكية، إلا أنه يعني بصفة خاصة الأرثوذكسية القبطية، لأنه دائم الحديث عنها ومحاولة التوفيق بينها وبين الإيمان الإنجيلي. ومع أن هناك تشابه جوهري بين كل من الكاثوليكية والأرثوذكسية القبطية، وأن الإختلافات العقيدية بينهما ثانوية فقط، لكن سأركز بصفة خاصة على العقيدة القبطية الأرثوذكسية.

إن مجد المسيح لا يمنعنا من الحديث عن الإختلاف بين العقيدة القبطية الأرثوذكسية حول الخلاص ونظيرتها الإنجيلية المصلحة، بل بالحري هو ذات السبب الذي يجعلنا نتكلم عن ذلك. ألم يكن أحد أهم مباديء ‏الإصلاح البروتستانتي هو "المجد لله وحده" (سولي ديو جلوريا)؟ ألم يكن الدافع الذي حرك المصلحون للمنادة بتعاليمهم هو أن يتمجد الله في المسيح من خلال الوضوح التعليمي الذي أكد عليه المصلحون؟ ‏بينما نادت كنيسة القرون الوسطى بأن الخلاص بالإيمان والأعمال معًا، الأمر الذي يتيح للإنسان الإفتخار، علَّم المصلحون بالتبرير ‏بالنعمة وحدها من خلال وسائطية الإيمان وحده على أساس عمل المسيح وحده لأجل مجد الله وحده.

إن جوهر الخلاف بين الكنيسة القروسطية والإصلاح البروتستانتي كان هو كلمة Sola أي "وحده" ... "الإيمان وحده" ... "النعمة وحدها" ... "المسيح وحده" ... "مجد الله وحده" ... "الكتاب المقدس وحده". على خلاف المنهج الدمجي الذي كانت كنيسة القرون الوسطى تعلم به: الإيمان بالإضافة إلى الأعمال، والنعمة جنبًا إلى جنب مع الإستحقاقات الفردية، والمسيح إلى جوار القديسين، والكتاب المقدس زائد التقليد والسلطة الكنسية، ومجد الله مناصفة مع مجد الإنسان.

هذا الوضوح التعليمي الذي سعى المصلحون إلى إبرازه وصياغته وتأصيله في الكتاب المقدس كان "مجد الله وحده" هو الدافع الأسمى من وراءه. على خلاف ذلك يسعى القس سامح موريس، لا إلى الوضوح التعليمي، بل إلى التعتيم العقيدي، تجاه الكنيسة القبطية التي تعتنق نفس المنهج الدمجي للكنيسة القروسطية، بأن يحرم علينا الحديث عن ذات الإختلافات العقيدية التي تُظهر مجد الله كما أكد عليها المصلحون البروتستانت.

إذًا مجد الله الذي يتحقق من خلال الوضوح التعليمي بيننا وبين الكنيسة التقليدية هو في جوهر خلافنا ‏مع الكنيسة التقليدية التي يغازلها القس سامح موريس. وما نهدف إليه من الوضوح التعليمي هو إظهار كفاية المسيح وحده من خلال كفاية وسائطية الإيمان وحده، الأمر الذي يُظهر ويُبرز ويضمن مجد الله في المسيح.

إن الخلاص الذي تعلّم به الكنيسة الطقسية المصرية يجعل الإنسان يفتخر لكونه يساهم به من منظور ما، وبالتالي فليس المجد لله وحده، بل للإنسان أيضًا. حتى وإن كان إسهام الإنسان بالقليل جدًا في مقابل الكثير من النعمة، إلا أنه في النهاية يُحسب له. على العكس من ذلك علّم المصلحون بالتبرير من خلال الإيمان وحده بالنعمة وحدها. أي أن الإنسان لا يعمل لكي يتبرر، بل يعمل لأنه تبرر بالنعمة وحدها من خلال الإيمان وحده كواسطة (وليس كعمل صالح). والفرق بين الإيمان وحده والإيمان مضافًا إليه الأعمال الصالحة كالفرق بين النور والظلمة وبين السماء والجحيم.

في السطور التالية، تأسيسًا على منهج المصلحون في الوضوح التعليمي، وبغرض تثبيت مجد الله من خلال التأكيد على كفاية المسيح من خلال كفاية وسائطية الإيمان وحدهما، سألخص جوهر الخلاف بين العقيدة الإنجيلية المصلحة وبين عقيدة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فيما يتعلق بموضوع الخلاص فقط نظرًا لخطورته ولكونه جوهر المسيحية.

عقيدة الكنيسة التقليدية دمجية Synergistic

إن الأقباط الأرثوذكس ينادون بخلاصًا أشبه بالشركة المساهمة؛ أي عمل تعاوني ثنائي مشترك يتزامن فيه كل من عمل الله والإنسان (لهذا سمي خلاصًا سنرجيستيكيًا أي مشتركًا ومتزامنًا). دمج لعمل الله بأعمال الإنسان، وللنعمة بالناموس. فالمسيح قدم الخلاص في التجسد والصلب والقيامة وعليك أن تخصصه لنفسك وتحصل عليه من خلال ممارسة الأسرار الكنسية والأعمال الصالحة. فالله والإنسان يشتركان في هذا العمل الخلاصي. لكن هذا عكس ما علّم به المصلحون تمامًا. فالخلاص طبقًا للمنهج المصلح هو أن الله عمل كل شيء، وأنجز عملاً تامًا وكاملاً، وما علينا سوى أن نقبله بالإيمان. والإيمان ليس عملاً لكن واسطة لقبول العمل الكامل للنعمة. والأعمال التي نعملها هي ثمار لعمل الله فينا وليست أساسًا للقبول أمامه. إنها دليل على قبول الله لنا بالنعمة وإثبات قبولنا لعمله الكامل والكافي بالإيمان. لهذا فإن الخلاص بحسب المصلحون خلاصًا مونرجيستيكيًا Monergistic؛ أي خلاصًا بالإرادة الإلهية المنفردة بدون أدنى تدخل لعمل الإنسان أو استحقاقاته. وهذا ليس معناه أن الله يخلصنا رغمًا عن إرادتنا، بل إنه يخلقها لنا لأننا أموات بالذنوب والخطايا (أف ٢ : ٥) ومستعبدون للخطية (يو ٨ : ٣٤) ومرضى روحيًا عاجزون عن التجاوب مع النعمة (إش ١ : ٥ - ٦، مر ٢ : ١٧).

للأسف فإن ما لا يدركه الكثير من الإنجيليين المعاصرين، هو أن هذا هو جوهر خلافنا مع الكنائس التقليدية. أو طبقًا لكلمات اللاهوتي جيمز وايت إن الإصلاح البروتستانتي لم يكن حول ضرورة النعمة، فقد علّمت الكنيسة القروسطية بضرورتها، بل حول كفاية النعمة، الأمر الذي لم تنادي به تلك الكنائس (ولم تزل لا تعلِّم به). إنها لا تعلِّم بأن الخلاص بالأعمال فقط، بل بالإيمان والاعمال معًا. ولهذا ينخدع البروتستانتي عندما يسمع أن التقليديون يعلمون بأن الخلاص بالإيمان. إلا أنهم – أي التقليديون جميعًا على اختلافهم – لا يعلمون بالتبرير بالإيمان وحده، بل بالإيمان والأعمال معًا. إن كلمة "وحده" هنا هي صميم الإختلاف البروتستانتي الطقسي. فنحن كإنجيليين نقول أن الإيمان "وحده" هو الواسطة التي تخلصنا. بينما يرى طقسيو مصر أن الخلاص يكون بالإيمان والأعمال معًا. وهذا عين ما كانت تنادي به كثلكة القرون الوسطى (ولا زالت). فاحتجاج المصلحون على تعاليم الكنيسة القروسطية إذًا كان حول كفاية المسيح من خلال كفاية وسائطية الإيمان. المصلحون أكدوا كفاية نعمة المسيح للتبرير من خلال كفاية وسائطية الإيمان وحدهما.

وهذا المنهج الدمجي التعاوني لكل من عمل الله (ممثلاً في الفداء) وعمل الإنسان (ممثلاً في الأعمال الصالحة وممارسة الأسرار)، يظهر في الكثير مما علّم به رجال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. على سبيل المثال يقول الأب تادرس يعقوب ملطي:

"لقد أراد خلاصنًا وقرره وقام به، لكننا لن ننعم بهذا الخلاص المجاني إلتزامًا بغير إرادتنا. الله يريد أن الكل يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون ... إذ لا يشاء موت الخاطي قبل أن يرجع ويحيا ... مقدمًا إبنه كفارة عن العالم كله ... ومع هذا فإن الله يتركنا نختار الطريق ... معلنين هذا الاختيار بالإيمان العملي ... وكأن الأعمال الصالحة التي هي بفضل النعمة الإلهية ضرورية ولازمة".

ثم يقتبس الأب تادرس مما كتبه الأنبا شنوده ليؤكد هذا المفهوم الدمجي للخلاص:

"يقدم لنا قداسة البابا شنودة الثالث في كتابه: ‘الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي’ براهين كثيرة علي أهمية الأعمال الصالحة ودورها في خلاصنا، نذكر منها: الأعمال الشريرة تؤدي إلي الهلاك الأبدي (غل ٥ : ١٠ - ٢١، أف ٥ : ٥ - ٦)، ستكون الدينونة حسب أعمالنا (مت ١٦ : ٢٧، يو ٥ : ٢٨ - ٢٩)، الأعمال هي ثمار الإيمان الحق (لو ٣ : ٨، يع ٢ : ١٤)، الأعمال شهادة عن وجود الإيمان (يع ٢ : ١٨، مت ٧ : ١٦ - ١٧)، بالأعمال نشهد أننا أولاد الله (١ يو ٢ : ٢٩، ٣ : ٩ - ١٠)، الأعمال تجعل الإيمان كاملاً (يع ٢ : ٢٢، ١ : ٢٧). هنا يلزمنا أن نميز بين أنواع كثيرة من الأعمال المذكورة في الكتاب المقدس: ١ – أعمال البر الذاتي، حيث يتكل الإنسان علي ذراعيه ... وهي أعمال محطمة للخلاص. ٢ – أعمال الناموس الحرفية مثل الختان وحفظ السبت بطريقة جامدة ... إن استخدمت حرفيًا تعوق الحياة الروحية. ٣ – أعمال صالحة هي ثمن الإيمان، فيها يتكئ المؤمن علي صدر الرب، ويطلب عمل نعمته الإلهية تحت قيادة الروح القدس؛ هذه أعمال لازمة وضرورية لخلاصنا". (كتاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والروحانية للقمص تادرس يعقوب ملطي)

وفي صدد مقارنة الأنبا شنوده بين العقيدة القبطية الأرثوذكسية والعقيدة الإنجيلية يقول أن هناك "خِلافات كثيرة في موضوع الخلاص" ثم يعدد أهم تلك الخلافات:

"من أهمها التركيز فقط على الإيمان، وعدم الاهتمام بكل ما عداه، وهنا يعتمدون على عبارة ‘آمن بالرب يسوع فتخلص...’ (أع ١ : ٣١). ويرون أنه بمجرد إيمان الإنسان يخلص، في نفس لحظة إيمانه، وكأنهم بهذا ينكرون الأسرار اللازمة للخلاص، مثل المعمودية والتوبة، وينكرون دور الكنيسة في موضوع الخلاص، الذي يعتبرونه مجرد علاقة مباشرة مع الله. ومن ضمن الموضوعات التي هي مجال خلاف: مدى إمكانية هلاك المؤمن إذا ارتد، فيرون أن المؤمن لا يمكن أن يهلك مهما سقط ... ومن الخلافات البارزة في موضوع الخلاص، مسألة الإيمان والأعمال".

"ففي تركيزهم على الإيمان يغفلون جانب الأعمال، وفي اهتمامهم بعمل النعمة، ينكرون لزوم الجهاد، وأكثر هؤلاء بعدًا عن التطرف من يقولون أن الإيمان ينبغي أن يكون إيمانًا عاملًا بالمحبة (غل ٥ : ٦)". (كتاب اللاهوت المقارن للأنبا شنوده)

كمثال أخير على كون الخلاص عمل الله وعمل الإنسان معًا، وليس عمل إلهي منفرد للنعمة، يجيب الأنبا رفائيل على سؤال "ما هو مفهوم الخلاص في عقيدتنا القبطية الأرثوذكسية؟" أولاً بنفي المفهوم البروتستانتي (المونرجيستي) بأن الخلاص هو عمل الله المحض والذي يتم قبوله من خلال وسائطية الإيمان وحده:

"هناك مفهوم آخر هام جدًا، فعندما نقول: ‘ليس بأحد غيره الخلاص’، كيف يأتي هذا الخلاص؟ البعض يقول يكفي الإيمان (آمن فتخلص). ولكننا لا نوافق على هذه العبارة. لماذا لا نوافق على عبارة: ‘آمن فتخلص’؟"

وبعد أن ينفي عن الخلاص أي مفاهيم بروتستانتية، يجيب الأنبا رفائيل على ذلك بقول يدل على سوء فهمه للإيمان كما يعلّمه المنهج الكتابي المصلح، إذ يختزله في مجرد تصديق عقلي:

"لأن الإيمان معناه أنك تُصدِّق، معناه: الثقة بما يرجى، والإيقان بأمور لا ترى ... فعندما أقول أنا آمنت بالمسيح معناها أني آمنت بكلامه، وتعاليمه، وشخصه أنه ابن الله، وأنه صُلب من أجلنا، وأنه مات وقام، وأنه صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، وأنه يدعونا للحياة الأبدية ... كل هذا عبارة عن مواضيع مرتبطة بالمسيح، بينما الخلاص في مفهوم الكتاب المقدس والآباء والكنيسة هو الاتحاد بالمسيح، وليس بالمواضيع".

يتابع الأنبا رفائيل:

"الخلاص هو الإتحاد بالمسيح، فإذا كنت متحد بالمسيح أخلص، وبدون الاتحاد بالمسيح لا يوجد خلاص. والمسيح شخص وليس مواضيع".

ثم يضيف الأنبا رفائيل ما يؤكد إما عدم اطلاعه على العقيدة البروتستانتية المصلحة أو سوء فهمه لها:

"من جهة المواضيع، إذا سألنا الشيطان سنجده يعرف ويصدق نفس المواضيع التي نعرفها ونصدقها، "أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا ‏تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!" (يع ٢ : ١٩). فالإيمان عبارة عن مواضيع نتكلم فيها وهذا غير كافي للخلاص. أنا لا ‏أتحد بموضوع أو بفكرة! لا بد أن أتحد بشخص هو المسيح". (بالمناسبة أليست هذه اللغة مشابهة إلى حد كبير للغة الدكتور ماهر صموئيل؟)‏

"أما من جهة الأفكار فمن الممكن أن يكون شخص ملحد يقول لك: أنا لا أؤمن بوجود الله، لكنني معجب بتعاليم المسيح السامية. ممكن شخص غير مسيحي يقولك: أنا أصدق وأؤمن أن المسيح هو الله. كل هذا جميل، ولكن هل هذا التصديق يكفي أن يدخل به السماء؟! دون معمودية؟! دون تناول؟! دون حياة مع المسيح...؟! قد يكون المسيح بالنسبة لأحد الأشخاص شخص عظيم، ولكنه لم يتحد به! لذلك فالخلاص هو الإتحاد بشخص المسيح".

إلا أن الأنبا رفائيل لا يستطيع أن يفصل عقيدة الكنيسة عن موضوع الخلاص، فإن كان الخلاص هو الاتحاد بالمسيح، وإن كانت الكنيسة هي جسد المسيح الذي يمنح الأسرار الكنسية المُخَلِّصَة، لا تستطيع أن تخلص إذًا إلا بالإنضمام للكنيسة أو الاتحاد بها:

"الإتحاد بالمسيح هو: الكنيسة، لأني سأتحد من خلال جسده، ولن أكون وحدي بل كلنا معًا، وكلنا معًا نكون كيان واحد هو ‘الكنيسة’ التي هي جسد المسيح. لذلك عندما نقول له: ‘يا رب افتقدنا بخلاصك’ معناها: دخلني فيك، أو وحدني بك. فيقول لي الرب: ‘اذهب إلى الكنيسة لأني أنا والكنيسة كيان واحد’. فيجب أن نتحد بالمسيح من خلال الكنيسة". (مقال الافتقاد للأنبا رافائيل الأسقف العام على موقع الأنبا تكلا)

إن ما اقتبسته أعلاه من كتابات رجال الكنيسة القبطية واضح به جدًا تحدي المبدأ المصلح "الإيمان وحده". ولن أستطيع هنا التعرض لكل ما قيل، لكن سأكتفي بالرد على كلمات الأنبا رفائيل لضيق المجال. ونستطيع تفنيدها من خلال عدة ملاحظات:

نحن لا ننكر أبدًا العلاقة بين الخلاص والاتحاد بالمسيح، بل نثبتها. إلا أن الأنبا رفائيل أساء فهم تلك العلاقة. إننا نخلص بناء على اتحادنا بالمسيح. بعبارة أخرى، هل خلصنا لأننا اتحدنا بالمسيح بالفعل (المنهج المصلح)، أم أن الاتحاد بالمسيح هدف نسعى إليه من خلال الأعمال والممارسات الكنسية حتى نخلص (المنهج القبطي الأرثوذكسي)؟ إن الاتحاد بالمسيح هو أساس كل البركات بالنسبة للمسيحي الكتابي. هو الإمتياز الذي لا نحصل عليه بالاستحقاق الذاتي، بل بالنعمة. فعندما نتحد بالمسيح نكون قد حصلنا بالفعل على التبرير. فالمسيح البار أطاع الناموس نيابة عنا بحياته البارة، وتمم سداد ديون الخطية أيضًا نيابة عنا بموته على الصليب. أخذ الدين الذي كان علينا وأعطانا البر الذي له. صحيح أننا من خلال التقديس نزداد إدراكًا وعمقًا ونموًا في هذا الاتحاد، إلا أن الاتحاد حادث بالفعل. لكن الأنبا رفائيل يجعل الاتحاد بالمسيح غاية الأعمال والانضمام للكنيسة وممارسة الأسرار. إنه يريد الحصول بأعماله البشرية العقيمة على ذلك الإتحاد المجيد الذي لا يعطى سوى بالنعمة وحدها من خلال الإيمان وحده.

وفيما يتعلق بادعاءه بأن الإيمان هو التصديق العقلي لحقائق عن المسيح، فقد جانبه الصواب في ذلك تمامًا. الغريب أنه يقتبس نص يقول أن الإيمان "ثقة" ثم يختزله في مجرد تصديق عقلي. بالإتساق مع تعريف رسالة العبرالنيين للإيمان بأنه "الثقة" فإن الإيمان في المفهوم البروتسانتي المصلح مكون من: محتوى معرفي (العقيدة)، وتصديق لها (إقرار بصحتها)، ثم إتكال قلبي على موضوعها (بتخصيص عمل المسيح للمؤمن فرديًا). ولهذا فالإيمان ليس فقط التصديق العقلي، فهذا هو إيمان المدعين، لكن الإيمان الحقيقي هو الإتكال القلبي الشخصي على وعد الإنجيل بالحياة الأبدية كواسطة للتبرير. ثقة شخصية في كفاية المسيح.

لكن الأنبا رفائيل يجرد الإيمان من كونه ثقة وإتكال على عمل النعمة لكي يفسح المجال للأعمال البشرية التي في ظاهرها صالحة ولكنها في حقيقتها ليست سوى روث البهائم كما قال بولس عن أعماله "نفاية" (في اليونانية سكوبالون أي روث بهائم فيلبي ٣ : ٨). لهذا أكد بولس لتيطس أن الخطاة النجسين تكون أعمالهم نجسة مثلهم مهما كانت صالحة في ظاهرها لأنها صادرة عن ذهن وضمير نجسان (تي ١ : ١٥ – ١٦). ورآها إشعياء أيضًا كثوب عدة (إش ٦٤ : ٦)، أي كثوب ملطخ، لأنها صادرة عن طبيعة بشرية مضروبة بالفساد من أولها إلى آخرها "كل الرأس مريض وكل القلب سقيم" (إش ١ : ٥). أما الأعمال الصادرة من المسيحي بعد تبريره أمام الله بالإيمان وحده فهي صادرة من طبيعة جديدة متحدة بالمسيح، لهذا فهي تُقْبَل أمام الله وتُكَمَّلُ في المسيح لأنها مقدمة في استحقاقه.

أما عن دور الكنيسة فيأتي بعد الخلاص. ليس للكنيسة أي دور قبل الخلاص سوى الكرازة. ثم على أساس الإيمان بالإنجيل، الذي هو موضوع كرازة الكنيسة، يأتي دورها كواسطة للنعمة، أي لنمونا الروحي "وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون" (أع ٢ : ٤٧). إن علاقتنا بالكنيسة تبدأ بعد التبرير بالإيمان وحده. إذ بالإيمان وحده نتحد بالمسيح ونُطَعَّم في جسده الذي هو الكنيسة.

سأرجيء بعض التفاصيل إلى التقييم النهائي للفكر القبطي الأرثوذكسي حول التبرير، وكيف أنه يُبخس مجد الله بل ويطعن به. لكن في عجالة أقول هنا أن دمج الإيمان والأعمال معًا للتبرير إنما لا يؤدي إلى مجد الله، بل إلى مجد الإنسان. إذ يصبح الإنسان شريكًا في التبرير أمام الله الديان. وبما أنه شريك، حتى ولو بالقليل، إذ فهو يستطيع الإفتخار. على العكس من ذلك، فإن المبدأ البروتستانتي بالتبرير من خلال الإيمان وحده يؤول إلى مجد الله في المسيح. لأنه مؤسس على كفاية عمل المسيح من أجلنا. إن المسيح بطاعته للناموس من أجلنا (رو ٥ : ١٩)، أي طاعته الإيجابية Active Obedience، وبإحتماله للموت واللعنة عنا على الصليب، أي طاعته التسليمية (في ٢ : ٨) Passive Obedience، لم يعد هناك أي شيء يفعله الإنسان ليصحح موقفه الروحي والقضائي أمام الله. إن دمج أعمالنا البشرية المنقوصة والصادرة من طبيعة ملوثة بعمل المسيح الكامل لهو حماقة تسلب مجد المسيح.

عقيدة الكنيسة التقليدية سرائرية Sacramentalism

رأينا أن الكنيسة التقليدية تقوم بتوليف أو مزامنة أو مزج لعمل الله الكامل، والذي لا يحتاج إلى إضافة، بأعمال الإنسان، الناقصة والصادرة من طبيعة بشرية ملوثة (في ٣ : ٨، تي ١ : ١٦)، لا لكي يؤل هذا في النهاية إلى الخلاص بل إلى مجرد أمل في الخلاص. فالعقيدة القبطية الأرثوذكسية تنكر الضمان الأبدي. والأعمال لدى التقليديون شقين: أعمال البر أو الصلاح، وممارسة الأسرار الكنسية السبعة. جانب رئيسي من الخلاص يتوقف على ممارسة تلك الأسرار. لهذا تُوصف عقيدة الكنائس التقليدية بالسرائرية؛ لأنها قائمة على الأسرار الكنسية ولا سيما سري المعمودية والإفخارستيا (مائدة الرب). إن هذا يأتي في تناقض مع المبدأ الإنجيلي بوسائطية الإيمان وحده للتبرير. أي إن ما يفعله الإيمان وحده طبقًا للمنهج المصلح، يفعلانه كل من الإيمان والأسرار معًا. بل إن الإيمان يُنظر له على أنه عمل لدى التقليديون، بما أنه إسهام بشري. في حين أن الإيمان لدى المصلحون ليس سوى واسطة لتخصيص عمل المسيح الكامل والكافي.

إن ما ينسبه الإنجيليين إلى وسائطية الإيمان وحده، إذ به نُقْبَل أمام الله على أساس عمل المسيح (يو ٣ : ١٥ - ١٨)، ونصبح أبناء له (يو ١ : ١٢)، وبه أيضًا نتغذى على حياة المسيح (رو ١ : ١٧، عب ١٠ : ٣٨)، ينسبه الأب تادرس يعقوب ملطي إلى سري المعمودية والإفخارستيا:

"في طقس سر المعمودية القبطي يظهر بوضوح خطان رئيسيان هما جحد الشيطان وقبول عمل الله ... بمعني آخر في سر المعمودية ينتقل المؤمن من البنوة للشيطان بالخضوع لأعماله إلي البنوة لله؛ يجحد ملكوت إبليس ليتقبل في داخله ملكوت المسيح، ينتقل من الغرب حيث الظلمة إلى الشرق حيث شمس البر".

"في سر الأفخارستيا، تعيش الكنيسة كما في السماء، خلال الذبيحة الواحدة غير المتكررة، الحية والواهبة الحياة، الحاضرة. في هذا السر تجتاز الكنيسة طريق الجلجثة منطلقة نحو السماء تحمل ذبيحة مخلصها القادرة أن تفتح أبواب السماء، وترد البشر إلي أحضان أبيهم السماوي".

ثم يخلص الأب تادرس إلى النتيجة التالية حول الأسرار:

"إذن الأسرار في مجمل طقوسها تطلب خلاص الإنسان وبنوته، وترفعه إلي الحياة السماوية ليأكل خبز الملائكة وينعم بشركة الأمجاد الأبوية، هي متعة ببركات الإنجيل".

وعن فعالية ممارسة الأسرار في كونها الجانب الإنساني أو المساهمة الإنسانية في الخلاص يقول الأب تادرس:

"إلتحام العمل الإلهي المجاني مع الجانب الإنساني: لقد دُعِيَت هذه الأعمال ‘أسرارًا sacraments ‘، لأنها أعمال إلهية فائقة للعقل ... غير أن هذه الأسرار تحمل روحًا إنجيليًا، أقصد عدم تجاهل الجانب الإنساني".

إن الإمكانية الخلاصية التي تُنسب للأسرار تجعل الخاطيء يُخَلِّص نفسه والكنيسة أيضًا مخلصًا له. فالكنيسة، مُمَثَّلَة في رجال الكهنوت الطقسي، تمنح الأسرار للخلاص، والخاطيء يستقبل الأسرار من الكنيسة لكي يخلص بها. إن هذا ذات ما يقوله الأب تدرس ولكن بصيغة مختلفة:

"في أكثر توضيح أقول أن الله في حبه للإنسان أعطاه كرامة خاصة، فيعمل به ومن خلاله دون تجاهل له، ففي سر العماد مثلاً لا يمكن لخليقة ما سماوية أو أرضية أن تقيم إنسانًا بشريًا ابنًا لله، هذا من صميم عمل روح الله القدوس، وفي استحقاقات الصليب ... لكنه يتحقق خلال الكاهن ... الله يسر أن يعطي للإنسان هذه الكرامة، لكن يبقي عمل السر من فعل الله ذاته لا الكاهن ... ربما يستصعب البعض هذا الفكر، متسائلًا: لماذا لا يهب الله عطاياه للمؤمن مباشرة دون وساطة الكاهن؟ نجيب بأن الله الكلمة الذي لم يستنكف من أن يصير إنسانًا يكرم البشرية كلها بالعمل خلال بشر يدعوهم ويقدسهم واهبًا إياهم نعمة الكهنوت". (كتاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والروحانية للقمص تادرس يعقوب ملطي)

يقول الأنبا شنوده أن أحد الخلافات الجوهرية بين الإيمان الإنجيلي والعقيدة القبطية الأرثوذكسية هو لزوم وفعالية الأسرار للخلاص لدى الأقباط الأرثوذكس:

"خلافات في المعمودية: لعل من أهمها لزوم المعمودية للخلاص، كذلك لزوم المعمودية للأطفال، ولا يؤمنون بكل فاعلية المعمودية، ولا علاقة للمعمودية بالولادة الجديدة، وبالتبرير وغفران الخطايا، وهكذا تتحول المعمودية في البروتستانتية إلى إسم بلا مفعول، لأن كل ما ننسبه إلى المعمودية من فاعلية، ينسبونه كله إلى الإيمان، وكأنها أصبحت مجرد علامة أو مجرد طقس، بينما هم لا يؤمنون بالطقوس".

"في البروتستانتية لا توجد قداسات، ولا ذبيحة إلهية، ولا يؤمنون باستحالة الخبز والخمر، إلى الجسد والدم الأقدسين، وهكذا لا يوجد تناول من هذه الأسرار المقدسة، وكل ما يفعلونه لتنفيذ وصية الرب (لو ٢٢ : ١٩) هو احتفال في بعض المواسم، فيه كسر الخبز، لمجرد الذكرى، ويدعون ذلك فريضة وليس سرًا كنسيًا".

وهكذا فإنه لا يوجد مذبح في الكنائس البروتستانتية، لأنه لا توجد ذبيحة...". (كتاب اللاهوت المقارن للأنبا شنوده)

إن الأسرار لدى الطقسيون تربط كل من عقيدة الخلاص وعقيدة الكنيسة معًا. فالكاهن الذي يمثل سلطان الكنيسة مانحة الخلاص من خلال الأسرار يقوم بالصلاة على ذبيحة القداس فيتحول العنصران إلى جسد الرب ودمه الذي "يُعطى لمغفرة الخطايا" كما يُقال في القداس القبطي الأرثوذكسي. لهذا فالخاطيء ليس في حاجة إلى الإنجيل وحده لكي يخلص به من خلال وسائطية الإيمان وحده، بل في حاجة إلى الكنيسة أيضًا مانحة الأسرار ومن ثم مانحة الخلاص. أو طبقًا لكلمات الأنبا رفائيل يحتاج أن يتحد بالرأس (المسيح) من خلال الاتحاد بالجسد (الكنيسة). وهكذا فالعقيدة الأرثوذكسية تتمحور حول الأسرار ولا سيما سر الإفخارستيا أو ذبيحة القداس. ويصبح كل من الكنيسة والخاطيء مُخَلِّصان للإنسان جنبًا إلى جنب مع الله بغض النظر عن مقدار كل واحد في المساهمة.

لقد كان جوهر خلاف المصلحون البروتستانت مع الكنيسة القروسطية هو السرائرية والإستحالة. فبينما اختلف كل من زوينجلي ولوثر حول طبيعة حضور المسيح في الإفخارستيا إلا أنهما اتفقا أنه لا طبيعة خلاصية لها. وقد جاءت جميع إقرارت الإيمان المصلحة معبرة عن هذه الحقيقة. صحيح أن سري الإفخارستيا والمعمودية يمنحانا نعمة لكنها ليست للتبرير بل للتقديس والنمو. إننا كإنجيليين لا نمارس السران أو الفريضتان لنتبرر بهما بل لأننا تبررنا بالفعل. وليس لكي نتحد بالمسيح بل لأن الإفخارستيا تُجسد لحواسنا الواقع الروحي الحادث بالفعل أننا واحد مع المسيح من خلال جسده المكسور من أجلنا وأننا خبز واحد مع بعضنا البعض. إن الأسرار كما علّم أغسطينوس هي رمز غير منظور لنعمة غير منظورة. إنها تعمق إدراكنا للوحدة مع المسيح والتمتع بفعالياتها ولكنها لا تخلقها.

ما تفعله الأسرار للمسيحي التقليدي يفعله "الإيمان وحده" بالنسبة للبروتستانتي. لهذا لم يكن مبدأ "التبرير بالإيمان وحده" ضربة موجهة ضد عقيدة الخلاص لدى التقليديون فحسب، بل لعقيدة الكنسية أيضًا. بكلمات أخرى، أن تقول أن التبرير بالإيمان وحده هو أن تقول أنه لا حاجة لذبيحة القداس التي من المفترض أنها توحدنا بالمسيح وتُعطى لمغفرة الخطايا، بل ولا حاجة للمذبح والكهنوت الطقسي بجملته. إن مبدأ "الإيمان وحده" أزال المذبح الطقسي من الوسط ووضع بدلاً منه المنبر الذي تُقال من عليه كلمة الله ويستقبلها الإيمان لكي يخلص بها ويتقدس من خلالها. إن كان الخلاص بالإيمان وحده إذًا فهو ليس بالأسرار والإيمان معًا.

إذًا، فالمعمودية البروتستانتية، ومائدة الرب البروتستانتية، يأتيان بعد التبرير بالإيمان وحده (مثلهما في ذلك مثل أعمال البر أو الصلاح). إنهما تجسيد لواقع موجود بالفعل. وليس أنهما يخلقان واقع خلاصي لنا. يجسدان الواقع الروحي ولا يقررانه. إذ فيهما نعلن ونشهد عن اتحادنا بالمسيح من خلال تجسيد هذا الاتحاد الحاصل بالفعل لحواسنا. وهذا وحده الذي يؤل لمجد الله. إننا من خلال ممارسة الأسرار نمجد المسيح الذي أكمل العمل وحده بدون أدنى مساهمة منا.

عقيدة الكنيسة التقليدية حول التبرير تغييرية Transformative

لماذا يتزامن كل من الإيمان والأعمال معًا للحصول على الخلاص في العقيدة القبطية الأرثوذكسية؟ ولماذا أكد الأنبا رفائيل على أن الخلاص ليس مجرد الإيمان بل الإتحاد بالمسيح؟ ولماذ شدد كل من الأنبا شنوده والقمص تادرس يعقوب ملطي على أن الخلاص هو ممارسة كل من الأعمال والأسرار؟ السبب وراء ذلك هو أنه في صميم منهج الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هو أن التبرير ليس إعلانًا قضائيًا من الله يخص مركز الإنسان أمام خالقه وقاضيه Forensic ، كما علّم المصلحون البروتستانت، بل رحلة من التغيير أو الاتحاد بالمسيح أو الأعمال والممارسات. ولهذا السبب هاجم الأنبا شنوده بكل ما أوتي من قوة الخلاص في لحظة. وهذا لا يعني سوى إساءة فهم أبعاد الخلاص بطمس التميير بين التبرير والتقديس. وهذا التمييز بين كل من التبرير والتقديس كان في صميم منهج الإصلاح البروتسانتي في مواجهة كثلكة القرون الوسطى. فالعقيدة القبطية الأرثوذكسية حول الخلاص ليست فقط دمجية (سنرجية)، وليست فقط سرائرية، بل تغييرية أيضًا، أي ترى الخلاص على أنه رحلة من التغيير على حساب طمس التمييز بين التبرير والتقديس.

ورغم أنه ورد في كتاب "بدعة الخلاص في لحظة" للأنبا شنوده الثالث ما يدل على إدراكه للتمييز البروتستانتي بين التبرير والتقديس، إلا أنه يصر على طمس الإثنين معًا. يقول الأنبا شنوده:

"يقولون: نحن في الكلام عن الخلاص في لحظة، إنما نقصد التبرير وليس التقديس، لأن التقديس يحتاج إلى مسيرة العمر كله ... !
فنجيبهم. ولكننا هنا نتحدث عن الخلاص. ولسنا نقول التبرير أو التقديس، وإنما الخلاص بوجه عام‎.‎‏
فإن كنتم تقصدون مجرد التبرير، إذن حددوا كلامكم وقولوا: إنما نقصد التبرير في لحظة، وليس الخلاص في لحظة‎". ‏

ثم يتابع الأنبا شنوده في العبارة التالية محاولته تفنيد التمييز البروتستانتي بين التبرير والتقديس، من خلال طمس التمييز بين التبرير والتجديد هذه المرة. إذ يساوي بين التبرير والولادة الجديدة:

"فإن قصدتم بالتبرير، الخلاص من الخطية الأصلية، ومن الخطايا السابقة للمعمودية، وليس البر الذي في المسيح يسوع (غل ٣ : ٢٧) ‏حينئذ نقدم السؤال الثاني‎:‎‏
وهل هذا التبرير، هو أيضًا يتم في لحظة؟‎!‎‏". (كتاب "بدعة الخلاص في لحظة للأنبا شنودة الثالث)

وقبل أن أقدم مثال آخر على طمس العقيدة القبطية الأرثوذكسية للتمييز بين التبرير والتقديس أريد في عجالة الرد على ما جاء في كلمات الأنبا شنودة السابقة. فعلى الرغم أن الأنبا شنودة يطمس الفرق بين التبرير والتجديد إلا أن كلاهما يحدثان في لحظة. فالتبرير حكم قضائي من الله بإعلاننا أبرارًا أمامه كما يكون المسيح بارًا وذلك من خلال احتساب بره لنا. والتجديد أو الولادة الجديد هما شيئًا واحدًا يعني خلق طبيعة جديدة لنا. صحيح أن التجديد هو تقديس مبدئي، والتقديس هو نوع من التجديد المستمر. إلا أنه يظل هناك تمييز بين هذه الثلاثة: التبرير والتجديد والتقديس. التبرير يخص مركزنا القضائي (الخارجي) أمام الله، بينما يتعلق كل من التجديد والتقديس بحالتنا القلبية الداخلية.

إن التبرير يتم في لحظة كما قال الرب يسوع المسيح عن الخاطيء الذي قرع على صدره طالبًا الرحمة أنه "نزل إلى بيته مبررًا دون ذاك" (لو ١٨ : ١٤). والصغية التي وردت بها كلمة "مبررًا" في اليونانية هي في زمن الماضي التام. أي حدث مكتمل. وهي نفس الصيغة المستعملة في قول المسيح "قد أُكمل" (يو ١٩ : ٣٠). وبولس تحدث عن التبرير بصيغة الماضي البسيط "إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح". يقول أحد القواميس أن صيغة الفعل الماضي البسيط aorist ، التي وردت فيها كلمة "تبررنا"، هي في المقابلة مع صيغة الماضي غير التام والتي تفيد الإستمرارية في الحاضر. أنظر أيضًا (رو ٥ : ٩). فضلاً عن ذلك، فإن طبيعة التبرير نفسه تعني أنه يحدث في لحظة. فإن الأمر لايتطلب سوى لحظة لكي يرانا الله في المسيح أو لكي يحتسب لنا بر المسيح شخصيًا.

بالإضافة إلى خلط التبرير والتقديس معًا بواسطة الأنبا شنودة، يفعل القمص تادرس يعقوب ملطي نفس الشيء في تصريحه الآتي:

"يقدم الله كل إمكانية إلهية لأجل خلاصنا، لكننا لن نتمتع بالسير في طريق الخلاص بغير اشتراكنا بالإرادة (النية) والعمل. هذه المشاركة من جانبنا لا تقلل من عمل الله الخلاصي، أو تنفي عنه مجانيته أو تدفع بنا إلى البرّ الذاتي. لأننا نؤمن أن إيماننا ورجاءنا ومحبتنا وأعمالنا رغم ضروريتها، إذ بدونها نحرم من الخلاص، إلاَّ أنها ليست من ذواتنا. لكنها هبة من الله يقدمها للمثابرين والمغتصبين، مبنية على استحقاقات دم المسيح".

إلا أن طمس التمييز بين التبرير والتقديس يتأكد من العبارة اللاحقة لذلك بواسطة القمص تادرس يعقوب ملطي:

"فلا تبرير لإنسان بغير الإيمان والرجاء والمحبة (أعمال المحبة)، ولا انتفاع بأعمال الله القوية من أجل خلاصنا بدونها. فما هو التزامنا نحن؟" (تفسير رسالة بطرس الأولى للقمص تادرس يعقوب ملطي)

إن وضع الإيمان الخلاصي جنبًا إلى جنب مع المحبة هو بمثابة خلط للناموس بالنعمة. ومزج للتبرير مع التقديس. إذ أن أولى وصايا الناموس هي "محبة الله من كل القلب والفكر والنفس" والثانية مثلها "تحب قريبك كنفسك". أن تقول أن السبيل إلى الخلاص هو أعمال المحبة، سواء موجهة إلى الله أو إلى الإنسان، هو أن تقول أن الخلاص بالناموس. وليس بالنعمة. فمن منا كفؤ لمحبة الله من كل القلب والفكر والإرادة؟ ومن منا استطاع أن يحب قريبه كنفسه؟ الإجابة هي أن المسيح استطاع فعل الإثنين بصورة تامة. إذ أنه أطاع الناموس نيابة عنا.

تأسيسًا على ما سبق، أود أن أعود مرة أخرى إلى جوهر الخلاف بين العقيدة الإنجيلية المصلحة والقبطية الأرثوذكسية حول طمس التمييز بين التبرير والتقديس.

أحد الأمور التي يُساء فهمها حول مباديء الإصلاح البروتستانتي، وكثيرًا ما يُستغل سوء الفهم هذا للهجوم عليه، هو الاعتقاد بأن مبدأ "التبرير بالإيمان وحده" يعني أننا فوضويون أو ضدناموسيون Antinomian. أي أننا نتبرر بالإيمان وحده ولا تهمنا الأعمال الصالحة بعد ذلك، كما قرأنا في كلمات الأنبا شنوده نفسه "من أهم (الخلافات البروتستانتية التقليدية هو) التركيز فقط على الإيمان، وعدم الاهتمام بكل ما عداه، وهنا يعتمدون على عبارة ‘آمن بالرب يسوع فتخلص". إلا أن هذا أبعد ما يكون عن العقيدة المصلحة. ففي صميم خلاف الإصلاح البروتستانتي مع الكنائس التقليدية هو العلاقة، أو بالحري الترتيب، بين الإيمان والأعمال ومن ثم بين التبرير والتقديس. فبينما يتزامن الإيمان والأعمال معًا لدى التقليديون للوصول إلى التبرير (من هنا جاء تعبير Synergism أي تزامن عمل الله وعمل الإنسان)، جاعلين التبرير بذلك تغييرًا وليس إعلانًا قضائيًا من الله، فإن المصلحون علّموا بأن الأعمال تتبع الإيمان كما تتبع الثمار الجذور زمانيًا أو كسبب ونتيجة. وأننا نتبرر أولاً بالنعمة وحدها بواسطة الإيمان وحده ثم تتلو ذلك أعمالنا الصالحة وممارستنا للفريضتان كإمتنان وإثبات على التبرير المجاني.

بكلمات أخرى، إن الإيمان هو العربة التي تجر الأعمال، والتبرير هو الذي يؤدي إلى التقديس. أو إن شئنا أن نستعمل كلمات الأنبا رفائيل عن الاتحاد بالمسيح، فإننا عندما نتحد بالمسيح نأخذ بره في لحظة إذ يرانا الله أبرارًا في المسيح، ونأخذ أيضًا قداسته التي تنمو فينا شيئًا فشيئًا. وبينما يعمل المسيحي التقليدي أعمالاً صالحة، ويمارس الأسرار السبعة، آملاً أن يصل إلى التبرير، فإن المسيحي البروتستانتي يتبرر بالإيمان وحده في لحظة ثم يعمل أعمالاً صالحة، ويمارس الفريضتان، كإمتنان للإحسان الذي صنعه مع الله، وكثمار شاهدة لأصالة الإيمان الحقيقي في قلبه. إن كانت الجذور (الإيمان والتبرير) حقيقية فلابد أن تعبر عن أصالتها من خلال ثمار الأعمال الصالحة والتقوى وممارسة الأسرار. بكلمات أخرى، من تبرر لابد وأن يتقدس لأننا عندما نتحد بالمسيح نأخذ كل من بره وقداسته كما تعطينا الشمس نورها ودفئها.

إن إساءة فهم الكنيسة التقليدية للعلاقة بين الإيمان والأعمال يعني أنها تسيء فهم العلاقة بين التبرير والتقديس من خلال عدم التمييز بينهما وخلطهما معًا. إن التقديس مؤسس على التبرير، والتبرير يقود إلى التقديس مثلما تؤدي الجذور إلى الثمار والسبب إلى النتيجة. ما نقصده بالتبرير هو أننا نُعْلَنُ مبررون قضائيًا على حساب عمل المسيح. لقد أطاع المسيح الناموس نيابة عنا وحُسبت لنا طاعته تلك. هذا التبرير هو نقطة الإنطلاق لحياة مقدسة تزداد نموًا ومشابهة للمسيح. التمييز بين التبرير والتقديس في صميم العقيدة الإنجيلية لأنه يحفظ مجد الله في المسيح. إنه يضمن كوننا مُسْتَقْبِلُون للتبرير المجاني وليس مساهمون به بأي شيء سوى ذنوبنا وعجزنا عن إيفاء مطالب الناموس العادل والبار.

الخلاص من دينونة الخطية وسلطانها هو بالإيمان وحده في عمل المسيح وحده. صحيح أن هناك تقديس تدريجي، أي خلاص من فعالية الخطية يومًا فيومًا، وأن هذا التقديس عمل مشترك بين الله والإنسان (سنرجيستي)، فنحن مخلوقين لأعمال صالحة قد سبق الله في أعدها لكي نسلك فيها، إلا أن كل من التبرير والتجديد عمل إلهي واحد محض يتم بسلطان الله المنفرد. وللأسف فإن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تطمس هذا التمييز بين التبرير والتقديس جاعلة بذلك التبرير تغييرًا وليس إعلانًا قضائيًا بأن المسيحي متبرر لأنه نال بر المسيح بالمجان.

لسنا ضدناموسيون أو فوضويون إذًا لأننا نؤكد على ضرورة أن يُظهر الإيمان أصالته من خلال ثمار التغيير. بل إن عقيدة الأقباط الأرثوذكس ليست أكثر من ناموسية Legalism لأنها عودة إلى الأركان الضعيفة. محاولة للتبرير من خلال الناموس الأدبي والطقسي.

ماذا يعني كل ما سبق لـ "مجد الله وحده"؟

إن كون الأرثوذكسية القبطية دمجية، أي ترفض التبرير بالإيمان وحده وتدمج بين الإيمان والأعمال للتبرير، وكونها سرائرية، أي الخلاص فيها يعتمد على ممارسة الأسرار ولا سيما المعمودية والإفخارستيا، وكونها تغييرية، أي تطمس الفرق بين التبرير والتقديس جاعلة بذلك التبرير رحلة من التغيير والعمل غير مضمونة النتيجة أو العواقب (كما أبرزنا سابقًا كيف يتهكم الأنبا شنودة على الضمان الأبدي)، فإن كل هذا من شأنه طمس، بل من شأنه الطعن في مجد الله المُعْلَن في العمل الثالوثي الواحد.

أولاً، إن العقيدة القبطية الأرثوذكسية تطعن في مجد الله بجعل الإنسان شريك في التبرير المُنْجَز بواسطة الابن

إن صميم حجة بولس في رومية ٣ هي أن التبرير بالإيمان والأعمال معًا سيجعل الإنسان يفتخر. بينما التبرير بالإيمان وحده، بدون أعمال الناموس، لا يُمَكِّن الإنسان من الإفتخار: "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره، ليكون بارًا ويبرر من هو بالإيمان بيسوع. فأين الافتخار؟ قد انتفى. بأي ناموس؟ أبناموس الأعمال؟ كلا. بل بناموس الإيمان. إذ نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس" (رو ٣ : ٢٤ - ٢٨). لاحظ أن بولس لا يعامل التبرير بالإيمان والأعمال معًا كحل وسط بين التبرير بالإيمان وحده من ناحية، والتبرير بأعمال الناموس من ناحية أخرى. بل يعتبر دمج الإيمان والأعمال للتبرير هو محاولة للتبرير بأعمال الناموس. وهذا يُفهم من رسالة غلاطية التي ادعى فيها المتهودون أنهم مؤمنون بفداء المسيح لكن كانوا يضيفون إليه الاختتان والطقوس والأعمال الصالحة. لا يوجد لدى بولس حلول وسط، إما التبرير بالإيمان وحده، أو إما أنه بالأعمال، لأن أي شيء يضاف إلى الإيمان وحده يُصير النعمة ناموسًا: "فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال، وإلا فليست النعمة بعد نعمة. وإن كان بالأعمال، فليس بعد نعمة، وإلا فالعمل لا يكون بعد عملاً" (رو ١١ : ٦).

إن الإنسان الذي يُسهم في التبرير أمام الله بأعماله الصالحة وممارسته للأسرار يستطيع أن يفتخر أمامه. إلا أن هذا يُنقص من مجد المسيح ويقلل من قيمة ما عمله لأنه يجعله غير كافٍ ويحتاج للإضافة من قبل الإنسان المحدود والملوث بالخطية الأصلية. بينما تؤكد الكنيسة الطقسية المصرية على اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح من ناحية، الأمر المفترض أن يقودها إلى كفاية عمل المسيح في الصليب، بما أنه عمل إلهي، فإنها تطعن في كفاية هذا العمل من ناحية أخرى بالإضافة إليه أعمال الإنسان الصالحة ظاهريًا والفاسدة جذريًا. إن الإضافة لعمل المسيح لهو طعن غير مباشر في ألوهيته لأنه انتقاص من قيمة العمل الذي قام به اللاهوت متحدًا بالناسوت. إن العمل الكفاري للمسيح عملاً كاملاً لأن من عمله هو الله الابن المتحد بالطبيعة البشرية. لذات السبب دافع الآباء عن عقائد الثالوث وألوهية المسيح واتحاد الطبيعتين بلا إنفصال أو اختلاط. لأن تقويض أي من العقائد السابقة هو تقويض للخلاص. إذ يجد خلاص المسيح كفايته وفعاليته ولامحدوديته من القيمة اللامحدودة للاهوت المتحد بالناسوت. لكن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بتأكيدها على الاتحاد الهيبوستاتي من ناحية، وبتعليمها بالتبرير بالإيمان والأعمال معًا من ناحية أخرى، متناقضة العقيدة والمنهج.

ثانيًا، إن مجد الله يتم طمسه والطعن به بجعل كل من التبرير والتقديس والتمجيد متوقفون على الجهاد الإنساني طبقًا للعقيدة القبطية الأرثوذكسية

رأينا كيف أن المفهوم القبطي الأرثوذكسي للتبرير يجعله متوقف على جهاد الإنسان وصلاحه (المزعوم) وممارسته للأعمال الصالحة. لهذا يطعن الأنبا شنوده في الضمان الأبدي. ذلك لأن القبطي الأرثوذكسي يجاهد ويصارع ويمارس الأسرار ويعمل الأعمال الصالحة ويتقشف إلخ، وفي النهاية لا يضمن أن يكون له نصيب في الحياة الأبدية. القبطي الأرثوذكسي لا يتبرر في لحظة أمام الله وبالتالي لا يضمن خلاصه النهائي (التمجيد). والتقديس أيضًا متوقف على قدرته الذاتية وليس مضمونًا بالنعمة. أن تقول أن التبرير غير مضمون هو أن تقول أن لا شيء في الخلاص بأكمله غير مضمون، بما في ذلك التقديس والتمجيد. لأن النعمة تضمن كل شيء؛ موقفنا القضائي أمام الله الديان، وجهادنا ضد الخطية، وتمجيدنا النهائي. من لا يكون تمجيده النهائي مضمونًا فإن مثابرته أو تقديسه أو جهاده في اللحظة القادمة غير مضمون. وبهذا فإن ذات منهج الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يقوض نفسه بنفسه باعتقاده أن لا شيء مضمون، بما في ذلك الأعمال (التقديس) التي من المفترض أنها تخلص.

على العكس من ذلك، فإن العقيدة الإنجيلية المصلحة تعلّم بأن كل شيء ينبع من النعمة. فعندما نتحد بالمسيح بالنعمة المحضة نأخذ مقامه القضائي أمام الله، كإنسان بار. ونُعْطَى قداسته التي إنتصر بها على التجارب. وسنأخذ الغلبة النهائية وعتق الأجساد عند لقاءه لأننا أخذنا عربون الروح بالفعل (٢ كو ١ : ٢٢، ٥ : ٥، أف ١ : ١٤).

إن موثوقية عمل الله في الإنسان تجد أساسها في عمل النعمة الثالوثي. فالآب اختار القديسين منذ تأسيس العالم بالنعمة. والابن أُرْسِلَ من الآب لفداء أولئك الذين تم اختيارهم. والروح القدس أُرسل من كل من الآب والابن لكي يخصص الفداء لمن اختيروا بواسطة الآب وتم فداؤهم بواسطة الابن (يو ١٠ : ٢٩، يو ٦ : ٣٩، أف ١ : ٣ - ٥، ١٣).

إن المنهج القبطي الأرثوذكسي لا يجعل أي شيء في الخلاص مضمونًا. لكن كيف يؤل هذا إلى مجد الله الواحد في أقانيمه؟ المنهج القبطي الأرثوذكسي لا يمجد الله الآب ولا الابن ولا الروح القدس. إذ يجعل عمل الفداء الكامل منزوع الفعالية، ومتوقف على أعمال الإنسان المنقوصة والصادرة عن طبيعة فاسدة جوهريًا. اخيتار الآب للقديسين إذًا لا قيمة له، وكفارة الابن الكاملة لا معنى لها، وعربون الروح القدس غير ذي جدوى بالنسبة لهم.

إذًا، فأمجاد الثالوث يتم طمسها لأن القبطي الأرثوذكسي يجاهد لأجل نتيجة غير مضمونة.

ثالثًا، مجد الله يتم طمسه بواسطة العقيدة القبطية الأرثوذكسية من خلال جعل خلاص المسيح ممكنًا فقط وليس فعالا

فحوى عقيدة الخلاص القبطية الأرثوذكسية هي أن المسيح فقط يُمَكِّن الإنسان من الخلاص، وليس أن خلاصه فَعَّال ومنجز بالفعل. وكأن ما فعله المسيح هو أنه فتح لنا باب الخلاص أو بالأحرى أزال العوائق من أمامنا لكي نجاهد ونمارس الأسرار على أمل أن نخلص. إن كون خلاص الإنسان وتبريره ممكنًا فقط وليس فعالاً أو منجزًا بواسطة عمل الله يتأكد لنا من إنكار العقيدة القبطية الأرثوذكسية للضمان الأبدي أو عدم هلاك المؤمن. بل إن فداء المسيح بذلك يخفق حتى في جعل الخلاص ممكنًا بصورة جيدة بما أن النتائج لم تزل غير مضمونة. يعتبرون أنه من الكبرياء أن يقول المرء أنه تبرر في لحظة. إلا أن ذات الكبرياء هو أن يعتبر المرء أن هناك قيمة لأعماله المنقوصة الصادرة من ذهن وضمير نجسين حتى أنه يضيف هذه النفايات إلى عمل المسيح الأقدس.

على خلاف ذلك، فإن الإيمان الإنجيلي المصلح يعلِّم بأن الخلاص الذي أنجزه المسيح خلاصًا فعالاً غير متوقف على أية مجهودات أو استحقاقات أو ممارسات بشرية مهما كانت. إنه خلاص مُنْجَز وفَعَّال بحيث أنه لا يحتاج إلى أي إضافة ولا يمكن أن يُفْقَد لأنه غير متوقف على كفاءتنا أو تقوانا أو مثابرتنا. وإلا لما خلص أحد منا لأن الخطية والشيطان والعالم أقوى منا جميعًا. إننا لا نبدء بالنعمة ثم نكمل بالمجهودات الذاتية، بل بالنعمة. وإلا فالنعمة ليست بعد نعمة.

إن التبرير أو القبول أمام الله طبقًا للمفهوم القبطي الأرثوذكسي لا يمكن أن يؤول إلى مجد الله إطلاقًا لأنه يجعل خلاص المسيح منزوع الفعالية ومتوقف على المجهودات البشرية العقيمة.

رابعًا، إن مجد الله في عمل المسيح يتم الطعن به بواسطة العقيدة القبطية الأرثوذكسية لأنه لا يجعل مكانًا للطاعة الإيجابية للمسيح

إن العقيدة القبطية الأرثوذكسية بإصرارها على دمج أعمال الناموس بالإيمان لا تجعل لطاعة المسيح النيابية للناموس الموسوي أية قيمة خلاصية. وإلا فلماذا يطيع المسيحي التقليدي الناموس؟ إنهم يؤكدون على اتضاع المسيح في التجسد لكنهم من ناحية أخرى يناقضون ذلك بإنكار القيمة الكفارية لإتضاع المسيح في الجسد وطاعته الإيجابية. ما قيمة اتضاع المسيح في الجسد وولادته تحت الناموس إذًا إن كان على الإنسان أن يعمل الأعمال الصالحة ويمارس الأسرار لكي يتبرر بها؟

طبقًا للمنهج البروتستانتي الكتابي فإن لكفارة المسيح شقان لا ينفصلان ومتضافران. الشق الأول هو الطاعة الإيجابية أو النشطة Active Obedience . وسُميت كذلك لأن المسيح أطاع الناموس من خلال أعمال الطاعة الإيجابية التي قام بها. وإن كان يمكن تمييز جوانب الناموس إلى أدبي (الوصايا العشر)، ومدني (الأحكام القضائية)، وطقسي (ممارسات الهيكل وتقديم الذبائح والتطهيرات)، فإن المسيح أطاع كل جوانب الناموس. لهذا يضع بولس عصيان آدم لناموس الوصية في الجنة في مقابلة مع طاعة المسيح للناموس "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد (آدم) جُعِلَ الكثيرون خطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد (إطاعة المسيح للناموس نيابة عنا) سَيُجْعَل الكثيرون أبرارًا" (رو ٥ : ١٩). إن هذا هو نفس ما يعنيه بولس من إعطاءه قيمة خلاصية لولادة المسيح تحت الناموس "ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني" (غل ٤ : ٤ – ٥).

بالنسبة للشق الثاني، أي الطاعة التسليمية Passive Obedience ، فهي تُسمى كذلك لأن المسيح خضع لموت اللعنة مستسلمًا لذات لحكم الناموس في الخطاة إذ كان بديلاً عنهم. يقول الرب يسوع المسيح "الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟" (يو ١٨ : ١١).

إننا لا نستطيع الفصل الحاد بين الطاعة الإيجابية والطاعة التسليمية، إذ أن حياة المسيح طيلة الثلاث والثلاثون سنة التي عاشها هي طاعة، منذ أول قطرة دم نزفها في ختانة في اليوم الثامن طاعة للناموس، إلى آخر قطرة دم خرجت من جسده على الصليب. كما أن كل حياته من منظور آخر هي تسليم لمشيئة الآب. إذًا، فهناك عنصرًا من التسليم في طاعته الإيجابية، إذ خضع للناموس. وهناك عنصرًا إيجابيًا في طاعته التسليمية إذ ذهب طواعية وبإرادته للخضوع للعنة موت الصليب. لهذا يقول بولس أن طاعة المسيح بدأت من تجسده إلى أن وصلت ذروتها في الصليب: "الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في ٢ : ٦ – ٨).

وعليه، فإن خضوع المسيح للناموس وطاعته إياه له قيمة كفارية عظمى. فهو لم يمت فقط كبديل عنا على الصليب، بل أطاع الناموس أيضًا نيابة عنا. لكن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تعلّم بأن الإنسان عليه طاعة الناموس الأدبي بالأعمال الصالحة، وطاعة الناموس الطقسي، بممارسة الطقوس والأسرار. وإذ بها تجرد طاعة المسيح للناموس من قيمتها. لهذا أصر المصلحون على التعليم بالتبرير من خلال الإيمان وحده، ذلك لأن المسيح أطاع الناموس عنا. ونحن نأخذ من خلال وسائطية الإيمان نتائج تلك الطاعة الكاملة للناموس بواسطة الرب يسوع المسيح. أن تعلّم بالتبرير من خلال الأعمال والأسرار إذًا هو أن تسلب مجد الله الذي تحقق من خلال طاعة المسيح للناموس. بينما التأكيد على القيمة الكفارية للطاعة الإيجابية للمسيح يضمن أن يعود المجد لله في المسيح.

خامسًا، مجد الله يتم طمسه في العبادة القبطية الأرثوذكسية بجعل الأسرار واسطة للتبرير أمام الله بدلاً من كونها تجسيدًا للتبرير الذي أنجزه المسيح بالفعل

إن جاز لنا أن نستعمل التعبير دراما لوصف سري أو فريضتا المعمودية وعشاء الرب، فإن السران يجسدان لحواسنا بصورة درامية ما أنجزه المسيح بالفعل بحياته وموته. كما سبق وأشرت، إنهما لا يخلقان الواقع الخلاصي، بل يجسدان له من خلال عرضه أو تجسيده لحواسنا. إن الجسد لابد أن يشترك في إدراك الروح لمعنى الفداء. لهذا عَيَّنَ الله في سلطانه أن تمارس الكنيسة كل من المعمودية ومائدة الرب.

من خلال الغطس في المعمودية، والصعود من مياهها، يشهد المؤمن عن عمل المسيح من أجله. فالنزول إلى مياه المعمودية يصور التنازل المجيد لأقنوم الابن المتجسد حتى الموت موت الصليب. والخروج من مياهها يرمز إلى خروج المسيح من القبر مجيدًا منتصرًا. ومائدة الرب تستعرض لحواسنا كيف أن خبز الحياة النازل من السماء، ابن الله المحيي، كُسِرَ جسده الطاهر بالموت وصار حياة لكل من يأكله بالإيمان وحده.

إلا أن العقيدة القبطية الأرثوذكسية بجعلها الأسرار واسطة للخلاص، وليست تجسيدًا للخلاص المنجز بالفعل، تُحَوِّل غرض الأسرار من واسطة لاستعراض وتجسيد أمجاد شخص المسيح وعمله، إلى واسطة للبر الذاتي ومجد الإنسان. فيصبح موضوع الأسرار ما يعمله الإنسان بدلاً من العمل المجيد الذي حققه المسيح بالفعل. وهكذا تسلب أسرار الكنسية القبطية مجد المسيح الذي من المفترض أنها تستعرضه وتجسده.

بناء على كل ما سبق، عَلّم المصلحون بالمبدأ الكتابي "التبرير بالإيمان وحده على أساس عمل المسيح وحده لأجل مجد الله وحده". إن أي اضافة إلى الإيمان هو بمثابة تقويض للنعمة. لهذا أيضًا أصر المصلحون على أن الإيمان مجرد واسطة تربطنا وتتحدنا بعمل وشخص المسيح. أن تطمس إذًا كون الإيمان وحده هو الواسطة للتمتع بالعمل الكامل للمسيح هو أن تطعن في مجد الله. لا مجال لأدنى مساومة أو تعتيم حول هذا الأمر.

سولي ديو جلوريا!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس