(٣) الفكر الأرثوذكسي الشرقي للدكتور ماهر صموئيل

بغض النظر عن النسوية الصارخة في عظة الدكتور ماهر صموئيل المعنونة "ستة رجال وسبعة شياطين"، إلا أن تعريفه للإنسان على أنه أيقونة الله والحامل لحضوره هو تعريف غير قويم مأخوذ عن الأرثوذكسية الشرقية التي تأثر بها الدكتور ماهر صموئيل بشدة. يعرف الدكتور ماهر صموئيل الإنسان كالآتي:

"من هو الإنسان طبقًا للمشروع الإلهي؟ ده تعريف لاهوتي عملته بعد دراسة صعبة. يعني قعدت عشرات الساعات، عشرات الأيام، علشان أصيغ ورقة علمية عن ماذا يعني أن تكون إنسان. لما يقول نعمل الإنسان على صورتنا، الكلمة اليونانية ‘آيكون’ Icon. الإنسان هو أيقونة ... الإنسان هو أيقونة الله الحية، والحاملة لحضوره، والفاعلة لمشيئته في الأرض".

لنرى إذًا حقيقة هذا التعريف الذي استغرق من الدكتور ماهر صموئيل عشرات الأيام لصياغته.

إن أول ما علينا أن نلحظه هنا هو أن الدكتور ماهر صموئيل لا يعرِّف من هو "المسيحي"، بل "الإنسان". صحيح أن الإنسان هو أيقونة الله الحية، ونحن نتفق جزئيًا مع ذلك، لأن الإنسان غير المؤمن هو ميت بالذنوب والخطايا وإن كانت له الحياة البيولوجية. إلا أننا نختلف كليًا مع قول الدكتور ماهر صموئيل أن الإنسان حامل للحضور الإلهي. الإنسان الطبيعي، غير المُخَلَّص، ليس حاملاً للحضور الإلهي، بل هاربًا منه. إنه يحمل صورة الله بعد أن تشوهت، ولكنه ينفر من الحضور الإلهي. ألم يهرب أبينا آدم، بعد سقوطه، من حضور الرب عند هبوب ريح النهار؟ أليست قصة البشرية، أفرادًا ومجموع، هي الهروب من الحضور الإلهي؟ إن الكتاب المقدس بعهديه يعلّمنا بأن الإنسان غير باحث عن الله إذ يؤكد كل من داود النبي وبولس الرسول أنه "ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (مز ١٤ : ٢، ٥٣ : ٢، رو ٣ : ١١ – ١٢). إن الإنسان، ليس حاملاً لحضور الله، بل حاملاً لحضوره الذاتي الملوث بالفساد الجذري بما أنه لا يريد سوى الحكم الذاتي autonomy منذ أن تمرد على الرب في جنة عدن. إن الإنسان كان حاملاً للحضور الإلهي قبل أن يسقط.

إن القول أن الإنسان الطبيعي، وليس الإنسان المسيحي المُخَلَّص، حاملاً للحضور الإلهي يمكن أن يعني شيئان. الأول هو أن له تضمينات حول عالمية الخلاص (اليونيفيرساليزم). فبما أن الإنسان الطبيعي حاملاً للحضور الإلهي، وليس هاربًا منه ويقاومه، إذًا، فبصورة ما هو مُخَلَّصْ. وماهر صموئيل يعلّم بالشمولية والتي تعني بأن الله يستخدم أفضل المعرفة الدينية المتاحة لدى الإنسان الذي لم يسمع الإنجيل لكي يُخَلِّصه بتلك المعرفة الدينية. كما أنه تساءل سابقًا ما المانع أن تكون عقوبة جهنم مختلفة (من شخص لآخر) من حيث المدة. والأمر الثاني الذي يمكن أن يشير إليه القول أن الإنسان حاملاً للحضور الإلهي هو أنه لم يتأثر بالسقوط.

أَوْضَحْتُ في مقال سابق كيف أن الأرثوذكسية الشرقية تعلّم بأن الإنسان إنحرف عن الطريق ولم يسقط طبقًا للمفهوم الكتابي كما يعلّم به اللاهوت المصلح. إن الأرثوذكسية الشرقية ترى أن هناك فرق بين الصورة والمثال في قول الكتاب أن الله خلق الإنسان على "صورته ومثاله". الصورة هي ما خُلِقَ عليه الإنسان من إمكانيات، وهذا يعني أن إنسانيته لم تكن مكتملة أو كاملة، بل في حاجة الى التطور أو النضوج. والمثال هو الكمال الإنساني الذي ينبغي أن يصل إليه الإنسان بصيرورته مثل الله وذلك عند تفعيل أو إستخدام الإمكانيات المتاحة له في صورة الله الممنوحة له. ولكنه بسقوطه إنحرف عن هذا الهدف. إنحرف ولم يسقط. ذلك لأنه لم يكن مكتمل الإنسانية بعد. والأرثوذكسية الشرقية تستعمل مصطلح سقوط الإنسان لكنها لا تعني به ما نعنيه نحن في الفكر الإنجيلي المصلح. بكلمات أخرى، فإن الأرثوذكسية الشرقية تخفف من وطأة سقوط الإنسان لتجعله حيدان عن الطريق أو الهدف. وهذا يصب في صميم الخلاف على عقيدة الفساد الجذري للإنسان. إذًا فهذا الفكر الأرثوذكسي الشرقي ينكر الفساد الجذري طبقًا للمفهوم الإنجيلي الكتابي. وقد أبرزت في مقالين سابقين كيف أن الدكتور ماهر صموئيل معتنق للفكر الأرثوذكسي الشرقي. فهو يرى أن خلاص المسيح هو إستعادة إنسانيتنا التي فقدناها بالحيدان عن الطريق. ويعلّم بأن هناك وحدة عضوية في الخليقة وليس بنيابية آدم كالرأس العهدي الأول للبشرية.

في هذا المقال أريد لفت النظر إلى رؤية الدكتور ماهر صموئيل للإنسان على أنه أيقونة الله متأثرًا في ذلك بالفكر الأرثوذكسي الشرقي المختص بعقيدة الإنسان (الأنثروبولجي الأرثوذكسي الشرقي).

إن المقصود بقول الدكتور ماهر صموئيل أعلاه بأن الإنسان أيقونة الله، ليس مجرد ترجمة لكلمة "صورة" إلى "أيقونة" كنوع من التوضيح. ذلك لأن للأيقونات مكانة خطيرة وجوهرية في الفكر الأرثوذكسي الشرقي. إن الفكر الأرثوذكسي الشرقي ينأى بنفسه عن كل ما هو موضوعي وقضائي. فالكنيسة الأرثوذكسية الشرقية تبرز الأيقونات لأن لها وظيفة تعليمية تضارع الكتاب المقدس والكلمة الموعوظة. "من حيث ما تمثله، فإن الأيقونات هي كتاب مقدس مفتوح أو حتى أطروحة لاهوتية" لدرجة أن "ما تمثله الكلمة من تأثير قوي على مسامعنا، فللأيقونة ما تمثله من تأثير قوى على أبصارنا". [1] فهي تشرح أجزاء الإيمان لمن يتأمل بها. وبهذا فهي لها وظيفة وسائطية، لأنها تتوسط العلاقة بين الله والإنسان. والأيقونات حاملة للحضور الإلهي من هذا المنظور. وهذا معناه أن العلاقة مع الله، طبقًا اللأرثوذكسية الشرقية، صوفية أكثر من كونها موضوعية. ويجعل مشكلة الإنسان إختبارية أكثر من كونها قضائية. الأيقونات في صميم الأرثوذكسية الشرقية التي لا ترى أن الإنسان تعدى على ناموس الوصية في الجنة، بل إنحرف عن هدف مشابهة الله. ولا ترى أن المسيح، الذي هو الأيقونة العظمى لله، استرضى عدل الله على الصليب بل استعاد لنا إنسانيتنا التي فقدناها بإنحرافنا عن هدف التمثل بالله. الأيقونات في الأرثوذكسية الشرقية، تعكس حضور الله كما تقول موسوعة الأرثوذكسية الشرقية: "تُفهم الأيقونة في الأرثوذكسية على أنها علامة على الحضور الإلهي في العالم وتذكير بعلاقتنا الأساسية مع الله". [2] والإنسان بدوره يعكس حضور الله كأيقونة عظيمة. فالإنسان والأيقونة يحملان الحضور الإلهي بدرجات متفاوتة. لهذا السبب يغيب كل معنى موضوعي وقضائي في تعريف ماهر صموئيل للإنسان.

وخطورة هذا الفكر تتضح أكثر في كون الإنسان حاملاً للحضور الإلهي هو أنه يجعل الإنسان ينظر إلى الداخل للبحث عن الله أو الوصول إليه. فالحضور الإلهي يكون في الداخل، داخل الأيقونة، وهي تعكس أو تشع بهذا الحضور إلى الخارج. والله إختبار شخصي في الداخل أكثر من كونه حقيقة موضوعية في الخارج أعلن عن نفسه إعلانًا موضوعيًا في الحق الكتابي. إن الفكر الأرثوذكسي الشرقي متشرب بهذا الميل الصوفي. يقول الأسقف كاليستوس وير، وهو يعتبر حجة في الأرثوذكسية الشرقية لدرجة أن كتابه يُستخدم للتعريف بما هي الأرثوذكسية الشرقية:

"كل واحد منا هو ‘عِلْم لاهوت حي’، ولأننا أيقونة الله، يمكننا أن نجد الله من خلال النظر في قلبنا، من خلال ‘العودة إلى داخل أنفسنا’: ‘ملكوت الله بداخلكم’ (لوقا ١٧ : ٢١). قال القديس أنطونيوس المصري: ‘اعرفوا أنفسكم ... من يعرف نفسه يعرف الله’. كتب القديس إسحاق السيرياني (أواخر القرن السابع): ‘إذا كنت طاهرًا، فالسماء في داخلك؛ سترى في داخلك الملائكة ورب الملائكة’. وقد سُجِّل عن القديس باخوميوس: ‘في نقاوة قلبه رَأَىَ الله غير المرئي كما في المرآة’ ". [3]

أبرزت في مقالي الأول كيف أن الدكتور ماهر صموئيل ينادي بالتوجه نحو إنسانيتنا. يقول الدكتور ماهر صموئيل:

"إسمع العبارة التانية دي: ونحن كائنات يحركها ما تحب وليس ما تعرف ]لاحظ هذا الميل الصوفي في حد ذاته[. وإحنا متجهين، مش ماشيين خالص طبقًا للي إحنا عارفينه ]يقصد العقيدة[، لكن طبقًا للي إحنا بنحبه ... طَبْ ونعمل إيه في المصيبة دي؟ ... خليني أقول: نتوجه نحو إنسانيتا. نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا. الله خلق الإنسان لكي ما يتطور ويكتمل فيصير إنسانًا. عنده كل القدرات إنه يبقى إنسان، لكن محتاج إكتمال، ولن يكتمل ليصير إنسانًا إلا بالعلاقة مع الله، والعلاقة مع الإنسان القريب".

وهذا يأتي بالإتساق مع كون الإنسان أيقونة الله وحامل للحضور الإلهي كما علّم الدكتور ماهر صموئيل في عظته "ستة رجال وسبعة شياطين". وهذا أيضًا يأتي بالتناغم مع تركيز الدكتور ماهر صموئيل في عظاته دائمًا على الإختبار الشخصي وفي نفس الوقت الطعن والإقلال من خطورة العقيدة والتعليم، ليس فقط خطورتها بصفة عامة، بل في أهميتها للخلاص أيضًا. كما أن اعتقاد الدكتور ماهر صموئيل بأن الإنسان حامل للحضور الإلهي أدى إلى نظرة دونية للكنيسة لديه، فجعله يطعن في كون حضور الله في الكنيسة يتفوق على حضور الله في الفرد. من ضمن تصريحاته حول هذا الأمر:

"عندنا مفهوم خاطئ لمحضر الله ... اختزلنا محضر الله إلى مكان وزمان، وضاعت فكرة جعلت الرب أمامي في كل حين، بقينا بنتقابل ‏مع الله في محضر الله لما بنروح اجتماع ... هذا مضاد تمامًا لكلمة الله، إن مقاعد الكنائس لا تملك سحرًا خاصًا يحول غير العابد إلى ‏عابد، وطقوسنا وترانيمنا لا تملك سحرًا خاصًا يستحضر الإله، احنا مش بنعمل تحضير أرواح نحضر ربنا ... لكن المفروض إننا ‏عايشين في محضر الله عابدين الرب في كل الوقت نعيش في مخافة الرب في الخفاء وفي العلن لكننا نجتمع لكي نعبد معًا، فاجتماعنا ‏هو اجتماع العابدين وليس هو الذي يحولنا إلى عابدين".‏

إن ما يريد ماهر صموئيل قوله في العبارة السابقة هو أنك لا ينبغي أن تذهب من أجل حضور الله في كنيسته، بل أن تذهب إلى هناك بالحضور الذي تحمله في داخلك. لدرجة أن اجتماع العبادة لا يتميز بأي شيء عن أي مكان آخر كما صرح في العبارتين الآتيتين:

"في كل العهد الجديد مفيش ولا مرة كلمة ‘اجتماع للعبادة’ فالله لم يشرع اجتماعًا للعبادة لكنه شرع الحياة كلها مجالا للعبادة".

"الخيال والدقة والمهارة والأمانة في العمل تمجد الله أكثر جدًا من تسبيحه في مكان العبادة".

إن تعريف ماهر صموئيل للإنسان بهذه الطريقة به مشاكل لاهوتية خطيرة. فهو محاولة للتركيز على الإختبار الداخلي أكثر من العلاقة القضائية مع الله. فالله ليس فقط أب نحبه، ولكنه قاضي وملك أيضًا نحتاج إلى التبرير القضائي أمامه. وهذا ما يهمشه ماهر صموئيل. ومؤخرًا طعن في مركزية عقيدة التبرير بالإيمان طبقًا للمنهج المصلح بالقول أن لوثر كان يعاني من شعورًا مفرطًا بالذنب مما أدى إلى تركيزه على تلك العقيدة. كما أن تعريف الإنسان هكذا بإعتباره أيقونة الله الحاملة للحضور الإلهي هو توجه صوفي لأنه يجعل الإنسان يركز على حضور الله في الداخل، وليس على إعلان الله الموضوعي عن نفسه في الكتاب المقدس. وهذا يؤدي إلى كافة الإختبارات الباطنية المزيفة والخطيرة. كما أن التركيز على الفرد بإعتباره حامل الحضور الإلهي أدى بماهر صموئيل إلى نظرة دونية للكنيسة. إن اللاهوت المصلح، وهكذا الآباء من قبلهم، أكدو على مركزية الكنيسة في العلاقة مع الله، في كون الكنيسة واسطة للنعمة إذ تخدم لنا بالكلمة المقدسة والتأديب الكنسي. إن لدى اللاهوتي البيوريتاني ديفيد كلاركسون أسباب كثيرة تجعله يرى أن الله يفضل العبادة الجماعية على العبادة الفردية. من ضمنها أننا سنكون جماعة في السماء إلى الأبد وليس أفرادًا. كما أن الكنيسة بجملتها تعكس مجد المسيح وحضوره أكثر من المؤمنين أفرادًا.

[1] McGuckin, John Anthony, The Encyclopedia of Eastern Orthodox Christianity, Wiley-Blackwell, 2011
[2] Ibid
[3] Ware, Kallistos, The Orthodox Church : An Introduction to Eastern Christianity, Penguin Books, Cop., 2015


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس