تنويريون أم ظلاميون؟


لقب "تنويري" الذي خلعه على أنفسهم الليبراليون هو الفزاعة التي يستخدمونها كنوع من إرهابك فكريًا وتحجيمك. لقب نصبوا به أنفسهم كإكليروس جديد ولكن بدلاً من إرتداء جلباب كاهن القرون الوسطى، يرتدون بدلة الأكاديمي أو العالِم المعاصر. هو تنويري وأنت عامي مثلما كان الوضع في القرون الوسطى إكليروس وعامي. نوع من الكهنوت الجديد ليس من المفترض أن تناقشه أو تجادله. تنويريو البروتستانتية هم كهنة العصر الجديد.

يستخدم ليبراليو البروتستانت هذا اللقب أيضًا لإضفاء الشرعية على شكوكهم، ولكي يمرروا من خلفه ما يريدون. فهم حاملي شعلة التنوير في عصر الظلام الأصولي. لكن لم يعطهم أحد هذه الوظيفة أو المكانة، بل هم عينوا أنفسهم بها على غير حق. لماذا على غير حق؟

يعرِّف كانط التنوير كالآتي:

"التنوير هو إنسلاخ الإنسان من عدم النضج الذي فرضه على نفسه. عدم النضج هو عدم القدرة على إستخدام فهم المرء دون توجيه من الآخر".

التنوير إذًا، طبقًا لهذا القطب الفلسفي العلماني الكبير، هو إعلاء السلطة الفردية للعقل (فهم المرء) فوق الإعلان (التوجيه من الآخر). الليبراليون البروتستانت يسيرون على نفس منهج التنوير العلماني من خلال إعلاء العقل (فهم المرء) فوق الكتاب المقدس (التوجيه من الآخر). لهذا نجد ‏البروتستانت الليبراليون يتغنون بـ ويمتدحون "التنوير". ويروجون لأنفسهم على أنهم تنويريون مسيحيون. إن الشيء المشترك بين كل ‏من العلمانيين وبين ليبراليو البروتستانت هو أن كلاهما جعلا الكتاب المقدس في مرتبة أدنى من العقل "استبدلوا حق الله بالكذب" (رو ١ : ٢٥). ‏

يقول المؤرخ واللاهوتي المصلح المعاصر مايكل ريفز أن الليبرالية اللاهوتية هي النظير المسيحي للتنوير العلماني:

"الليبرالية كانت النظير اللاهوتي للتنوير [العلماني]، الحركة الفكرية التي شكلت العالم الحديث. وكان من أهم خصائصها هو التركيز على العقل البشري. نُظِرَ إلى العقل البشري على أنه الحل للجهل البشري (كيف نعرف)، والحل لمشاكل الإنسان (كيف نخلص). عندما يتعلق الأمر بالإعلان الإلهي، لم يعد العقل هو الأداة التي تساعدنا على فهم الكتاب المقدس. العقل الآن هو المصدر المطلق للحق. سعى ماثيو تيندال في كتابه ‘المسيحية قديمة قدم الخلق’ لإثبات معرفة الله على أساس الرصد العقلي للعالم. لم تكن النتيجة [التي توصل إليها] إله الكتاب المقدس بل إله الربوبية – إله منفصل عن العالم الذي صنعه. لم يعد الوحي هو الذي يحكم على العقل البشري. بل أن العقل البشري سيحكم الآن على الوحي. وهكذا وُلد ما يسمى بالنقد الأعلى للكتاب المقدس، والذي أزال تدريجيًا من الكتاب المقدس أي وحدة وتاريخية وموثوقية وسلطة فيه".

على الرغم أن البروتسانتي الليبرالي يشترك مع الملحد في كونهما تنويريان يقومان بإعلاء العقل فوق الإعلان، فهكذا يصف الملحد نفسه على أنه ملحدًا تنويرًا the enlightened atheist ، إلا أن الملحد أكثر اتساقًا في منظوره الكوني من البروتستانتي الليبرالي. لأن الكتاب المقدس غير قابل للدمج مع الأيديولوجيات العلمانية. بل يوبخها ويتحداها. هي لا تفهمه ولا هو يُقَدِّرُهَا. إن أراد التنويري البروتستانتي أن يكون تنويريًا متسقًا مع منهجه عليه رفض الإعلان الكتابي بأكمله. ورفض الإصلاح البروتستانتي بأكمله.

أما عن حقيقة ما يروج له ليبراليو البروتستانت على أنه تنوير فهو لا شيء سوى اللاأدرية بمشتقاتها: لاطائفية، لاعقيدية، شكوكية. إذ يبدو أن تعريف التنوير لديهم يقتصر على اللايقين وإثارة الشكوك دون تقديم اجابات مع رفض المسلمات. يمدحون إثارة الأسئلة وفحص المسلمات لكنهم عاجزون عن تقديم إجابات شافية للأسئلة التي يثيرونها. ولا غبار في فحص المسلمات طالما أننا تحت سلطان سولا سكريبتورا. لكن هؤلاء جلسوا فوق عرش العقل ليحاكموا الكتاب المقدس.

لكن التنويري الحقيقي هو الذي يتمتع بنور الإنجيل ويسير في يقين نور الإعلان. التنويري الحقيقي هو ذلك الذي يستمد نوره من تلك الكلمة الإلهية الخالقة "ليكن نور". التنويري الحقيقي هو الذي ينسلخ من ظلمته الطبيعية المولود فيها بسبب وراثته للفساد الجذري ويخضع لسلطان وتوجيه الكتاب المقدس له. فيما عدا ذلك هو ظلمة وإظلام. لا يوجد سوى اختياران أمامنا: إما الحكمة النازلة من فوق، أو الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية.

"وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (٢ بط ١ : ١٩).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس