هل يُعلّم المسيح بخلاص بالأعمال الصالحة؟


وصلني السؤال التالي على الخاص، بخصوص مقالي "إن كان التبرير بالايمان وحده، فلماذا الدينونة بحسب الاعمال؟":

"لو أمكن بس أسال حضرتك بخصوص مقال حضرتك نزلته. أعرف بس حضرتك شايف النص ده إزاى:

‘فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة’ (يو ٥ : ٢٩).

المقال اللى عن الدينونه حضرتك ذكرت ان مفيش أعمال صالحه لكن الدينونه هى تقدير لكم الشر بمقياس الله الدقيق. إيه المقصود بعملوا الصالحات هنا؟"

لا يعلّم الرب يسوع المسيح، في النص المشار إليه، بالخلاص على أساس الأعمال. ونؤسس ذلك أولاً على ما جاء في السياق المباشر وغير المباشر لهذا النص. وثانيًا على أساس اللاهوت الكتابي العام.

فيما يعتلق بالسياق المباشر لهذا النص، فإنه يحدثنا عن العمل الواحد للآب والابن: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (١٧)، و"الأعمال التي أنا أعملها" (٣٦). ثم يقدم الإيمان بإعتباره الواسطة الوحيدة للتمتع بهذا العمل الخلاصي الواحد للآب والابن. لهذا يقول المسيح في ذات القرينة النصية أن نوال الحياة الأبدية يكون من خلال الإيمان بالعمل الواحد للآب والابن: "من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة" (يو ٥ : ٢٤).

نفس هذا الأمر يتأكد لنا من السياق البعيد أو غير المباشر (النص العام لإنجيل يوحنا). إذ يعلّم البشير في نص آخر أن "الإيمان" هو "العمل" الذي يطلبه الله ويتوقع أن يعمله الإنسان كإستجابة للعمل الواحد والكامل للآب والابن: "فقالوا له: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟ أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله" (يو ٦ : ٢٩). جاء النص السابق في بعض الترجمات التوضيحية: "العمل الذي يطلبه الله هو أن تؤمنوا بالذي هو أرسله". وهذا ليس معناه أن المسيح يعتبر أن الإيمان عمل، وإلا لتناقض ذلك مع ما يقوم النص بتوضيحه؛ أي أنه ليس هناك عمل مطلوب سوى الاتكال والثقة على العمل الثالوثي الواحد. ليس هناك ما يمكن فعله إلى جوار ذلك العمل الكامل والمُنْجَزْ سوى الإعتراف بكماله والإتكال عليه. لقد سألوا الرب يسوع عن "أعمال" فإذ به يخبرهم عن "العمل".

وفيما يتعلق باللاهوت الكتابي العام، فإن الذين فعلوا الصالحات هم الذين نالوا الحياة الأبدية بالفعل كما رأينا في عدد (٢٤) من نفس الأصحاح: "من يسمع .. ويؤمن .. فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة". إنهم لن يخرجوا إلى قيامة الحياة لأنهم فعلوا الصالحات، بل هم فعلوا الصالحات لأنهم خرجوا بالفعل من الموت الروحي إلى الحياة الأبدية منذ لحظة إيمانهم بإرسالية الآب للابن. إن الحياة الأبدية هي في تصديق إرسالية الآب للابن، ولذلك فهي ليست مؤجلة أو مشروطة بالأعمال الصالحة، بل تبدأ بمجرد المجيء إلى المسيح بالإيمان: "وهذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت وحدك ويسوع المسيح الذي أرسته" (يو ١٧ : ٣).

والمقصود بالصالحات هنا يكون أولاً: بالنظر إلى طبيعة من عملوها. أي أنها أعمال صالحة لأنها معمولة في الابن. هي صالحات لأن طبيعة من فعلوها تقدست من خلال عمل الابن. وذلك على عكس الإنسان الذي لم يتبرر بالإيمان بعد، فيرى الله أعماله على أنها قاذروات لأنها نابعة من طبيعة ملوثة لم تتبرر ولم تتقدس بعد. وثانيًا، هي صالحات بالنظر إلى كونها برهان خلاصهم، فهم آمنوا وجاءوا بالثمار، وليس فقط مدعين صدقوا تصديقًا عقليًا عقيمًا لم يثمر بأي صلاح. من هذا المنظور فإن الدينونة ستصادق على حقيقة إيمانهم من خلال ثمارهم. لقد نالوا الحياة الأبدية وتغيروا وأعمالهم الصالحة تشهد بذلك.

أما الذين فعلوا السيئات فهم أصحاب الأعمال الشريرة، من لم يتغيروا. وهم أيضًا من كانت أعمالهم التي تبدو صالحة غير معمولة في الابن. أي لم تتقدس طبيعتهم بعد. فإشعياء يقول عن أعمال اليهود الصالحة (الغريب أنه يضع نفسه إلى جوارهم) أنها "كثوب ملطخ كل أعمال برنا" (إش ٦٤ : ٦). وبولس رأى كل أعمال صلاحه التي عملها قبل إيمانه، في فريسيته وغيرته الدينية، أنها "نفاية" (في ٣ : ٨)، أي روث بهائم طبقًا لليونانية. لاحظ أن كل من إشعياء وبولس يتحدثان لا عن شرور، بل عن "أعمال برنا"، و"البر الذي في الناموس". لهذا يقول بولس لتيطس أن الذين يعملون أعمالاً صالحة دون أن يتبرروا ويتقدسوا أولاً لهم أذهان وضمائر نجسة، ومن ثم فلا تُقبل أعمالهم التي تبدو صالحة لأنها صادرة من ضمير وذهن نجسين "كل شيء طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرًا، بل قد تنجس ذهنهم أيضًا وضميرهم. يعترفون بأنهم يعرفون الله، ولكنهم بالأعمال ينكرونه. إذ هم رجسون غير طائعين، ومن جهة كل عمل صالح مرفضون" (تي ١ : ١٥ – ١٦). فأعمالهم في مجملها شريرة، وما بدا منها صالحًا هو مرفوض أمام الله لأنه صادر من طبيعة فاسدة جذريًا. لاحظ أيضًا أن بولس يقول أن الفرق بين الطاهرين والنجسين هو الإيمان إذ يستخدم النجاسة وعدم الإيمان كمرادفان لوصف الفئة الأخيرة "أما للنجسين وغير المؤمنين". فهم نجسين لأنهم غير مؤمنين. والعكس صحيح بالنسبة للمؤمنين، فهم طاهرون لأنهم آمنوا.

إن أي عمل صالح في ظاهره صادر عن الإنسان لا يمكن إعتباره كذلك أمام الله إلا بشروط. أحد أهم هذه الشروط هو أن يكون صادر من طبيعة بارة ومقدسة بالفعل. وما تم تقديسه تم تبريره أيضًا بالنعمة. لأن الله لا يهبنا أنصاف العطايا، بل عطاياه دائمًا كاملة. إننا عندما نتحد بالابن نأخذ كل شيء له؛ بره وقداسته. ولهذا فالإنسان الخاطيء لم يأخذ أي شيء بعد، لا بر الابن ولا قداسته. وبالتالي تُحْسَب أعمال بره أو صلاحه نجسة، لأنها صادرة من طبيعة فاسدة. إذًا، فالأعمال الصالحة تأخذ قيمتها لا منا، بل من عمل المسيح فينا. وإن كان عمل المسيح فينا ومن أجلنا يسبق أي عمل صالح لنا، إذًا، فنحن نتبرر بالنعمة وليس بالأعمال. والأعمال الصالحة ليست سوى ثمار التغيير، كما أنها للتعبير عن الامتنان لعمل الله فينا.

شرط آخر لكي تكون الأعمال صالحة أمام الله، فضلاً عن ضرورة أن تكون مؤسسة على عمل الابن، ينبغي أن تكون أيضًا بغرض مجد الله وبدافع محبة الله من كل القلب والفكر. إن كل عمل صالح نعمله ليس غرضه مجد الله هو خطية. لأن محبة الله ومجده ينبغي أن يشكلا كل شيء فينا: الفكر والشعور والسلوك. لهذا أطلق المصلحون على الأعمال الصالحة التي يعملها غير المؤمنين أنها "فضيلة مدنية" لأنها غير مدفوعة بمجد الله ومحبته.

الصالحات التي يقصدها المسيح إذًا، هي كذلك: بسبب طبيعة من عملوها، فهم الذين تبرروا وتقدسوا عند الله بالإيمان في عمل الابن. ولكونها في مجملها صلاحًا إذ تشهد عن التغيير والثمار لمن تبرروا وتقدسوا بالفعل، على عكس الذين سمة حياتهم العامة أنهم يعملون السيئات، أي لم يتغيروا. حتى الأعمال التي تبدو صالحة بواسطة الخطاة ليست في حقيقتها كذلك لأنها ليست مدفوعة بمجد الله أو محبته. هي خطايا وإن كانت في ظاهرها صلاحًا. ربما تكون خطايا أقل وطأة من الشرور المتعمدة التي ارتكبها هؤلاء. لكنها جميعًا خطايا لأنها أعمالاً مرتكزة حول الإنسان وليس حول مجد الله. ومن هذا المنظور فإن الله عندما يحاسب الأشرار لن يقيس أعمالهم الصالحة في مقابل أعمالهم الشريرة، إذ يؤكد كل من داود النبي وبولس الرسول "أنه ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد" (مز ١٤ : ١، ٣، رو ٣ : ١٢)، بل سيقيس مدى الشر الذي فيها ليدينهم الله طبقًا لميزان عدله الدقيق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس