إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت ومحاولة تهميش الأول بإعلاء الثاني





مقدمة: التعريف بالمشكلة

إنجيل الملكوت هو ذلك المفهوم العام لعمل الله منذ الخلق إلى وقت إستعلان المسيح لِلْمُلْك وَرَدُّ كل شيء. لكنه للأسف أصبح الكارت الذي يستعمله ذوي الأجندات غير الكتابية للطعن في مركزية الكفارة العقابية والتبرير القضائي في الخلاص. هو مصطلح ومفهوم كتابيين تمامًا. لكن غير الكتابيين يستعملون علاقة معقدة بعض الشيء بين "إنجيل الخلاص" (أو إنجيل النعمة) وبين "إنجيل الملكوت" ليحيلوا غفران الخطية والتبرير والكفارة العقابية إلى الهامش بل ولتمرير التبرير بالناموس من خلف هذا التشويش.

سَأُقدم مثالان على هذه المحاولة من داخل الوسط البروتستانتي الشرقي. وسأتبع ذلك بتعريف كل من إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت ثم تحديد طبيعة العلاقة بين الإثنين.

على سبيل المثال، صَرَّحَ الدكتور ماهر صموئيل على تويتر منذ حوالي ثلاث سنوات بهذه العبارة:

"أكثر كلمة نطق بها الرب يسوع في الأناجيل، ليست المحبة، ولا الخلاص، لكن: ملكوت الله".

إن الدكتور ماهر صموئيل هنا يحاول أن يعطي المركزية للملكوت ويحيل رسالة الخلاص إلى الهامش من خلال الاستشهاد بأكثر كلمة نطقها المسيح. إنه يريد أن يقول لنا على الأقل أن موضوع الخلاص ليس بنفس أهمية موضوع الملكوت. الغريبة أن الدكتور ماهر صموئيل اختار لفظًا عامًا للخلاص ليضعه في مقارنة مع الملكوت. لكن، ماذا عن تعليم المسيح بضرورة الولادة من فوق، وضرورة الإيمان به، وتعاليمه الكثيرة عن الحياة الأبدية، وأنه جاء فدية عن كثيرين، وأنه غَفَرَ الخطايا مرارًا كثيرة، وعن الخاطيء الذي نزل إلى بيته مبررًا، وعن عشرات المرات التي حذر فيها من الجحيم؟ أليست هذه جوانب من الخلاص تحدث عنها المسيح كثيرًا؟ يبدو أن الدكتور ماهر صموئيل هنا يرتكب مرة أخرى مغالطة الخلط بين المصطلح والمفهوم. عدم ورود مصطلح "الخلاص" بحصر اللفظ لدى المسيح لا يعنى أنه لم يعلّم كثيرًا بجوانب مختلفة وتفاصيل متنوعة عن هذا الخلاص العام والعظيم. كما أن وضع الخلاص في مقابلة أو في تنازع مع الملكوت لهو مأزق مفتعل من قِبَل الدكتور ماهر صموئيل كما اعتدنا منه.

إن الدكتور ماهر صموئيل لا يعدم وسيلة للطعن والتهميش في المفاهيم القضائية للخلاص. على سبيل المثال، فعندما يتحدث عن الخلاص يستثني المفاهيم القضائية فيه فيقول أن المسيح جاء لا لينقذنا من الجحيم بل ليعيد إلينا إنسانيتنا المفقودة. وبهذا فهو يبرز التغيير والشفاء والاختبار على حساب المفاهيم القضائية للخلاص والمتمثلة في التبرير والغفران والنجاة من الدينونة. وعند حديثه عن الاختيار، ادعى أنه لا يوجد اختيار للخلاص من الدينونة، بل الاختيار في الكتاب المقدس يكون لأجل مهمة أو إرسالية. ومحاولته إعلاء مفهوم الملكوت فوق مفهوم الخلاص لهي إستراتيجية مختلفة للوصول إلى نفس الهدف والذي هو استبعاد المفاهيم القضائية من المشهد. أي بإحالة الخلاص إلى الخلفية، وإحضار الملكوت إلى الطليعة أو المركز، يقوم الدكتور ماهر صموئيل بإبراز مُلك المسيح وطاعتنا له كمَلك على حساب المفاهيم القضائية للخلاص. ولعل العبارة التالية توضح بالضبط نية الدكتور ماهر صموئيل في إعطاء مفهوم الملكوت المركزية:

"بنو الملكوت يعملون مع الملك على إعادة الملك. ويعملون مع المَلك على تأسيس مُلك المَلك. بنو الملكوت تم إنقاذهم من مملكة إبليس ومملكة العالم، وتم نقلهم إلى ملكوت ابن محبة الآب ... وماعندهمش شغلانة في الوقت ده إلا إنه يزداد مُلك المَلك عليهم وينقلوا مُلك المَلك إلى آخرين لأنهم أبناء الملكوت ... أنا بشتغل مع هذا المَلك لتأسيس هذا الملكوت. أنا بشتغل مع المَلك لنشر هذا الملكوت ... وعلى أد جهادك في الملكوت في جانبه الروحي على أد مكانك في الملكوت لما يأتي المَلك ... لو لم ننتقل إلى هذه الحالة، سنعيش كل أعمارنا مستثمرين كل إمكانياتنا لبناء ممالكنا الخاصة. ويصبح الله في هذه الحالة هو الوسيلة لبناء الملكوت الخاص بنا ... وأنا بشوف الناس نوعيتين: نوع تم إنتقاله روحيًا حقيقيًا إلى ملكوت الله، يعيش داخل الملكوت، وشغله الشاغل أن يعمل مع المَلك. وطلباته كلها تدور في فَلك المَلك، وطلبات المَلك ومشيئة المَلك، وواحد تاني بيعيش في دايرة بعيدة عن الملكوت خالص. بيبني مملكته، اللي هي بيته وعياله وخدمته وكنيسته وفهمه اللاهوتي [لاحظ الطعن في العقيدة هنا كالعادة]... مملكة خاصة بيه هو مركزها، مملكة تقوم على مباديء مسيحية، لكن مركزها هو وليس المسيح ... غاية بنو الملكوت هو عودة المَلك وسيادة المَلك وإكرام المَلك وإتمام مشيئة المَلك ... لملكوت مَن تعمل؟ أحلامك تدور حول مستقبل إزدهار مملكتك؟ أم إزدهار ملكوت الله؟ لمن تعيش؟ لمن توجه طاقاتك؟ مخك وإبداعك وكل اللي حيلتك وفلوسك بتستثمرها في بناء مملكة ليك ولعيالك ولا لبناء ملكوت الله؟" (فيديو بعنوان: "لملكوت من تعمل؟ أحلامك لمملكتك أم لملكوت الله؟ لمن تعيش؟ لمن توجه طاقاتك؟")

إن العبارة السابقة للدكتور ماهر صموئيل توضح قصده في جعل السلوك أو العمل هو الذي يعرِّف من هم بنو الملكوت. فبنو الملكوت ليسو من غُفرت لهم الخطايا وتبرروا وتم تحريرهم من سلطان الظلمة بالنعمة ثم نَقْلَهُم إلى الملكوت. بل من يعملون من أجل المَلك وملكوته بصفة أساسية. إن ما يحدد وجودك في الملكوت من عدمه، ليس ما عمله المَلك من أجلك، بل ما تعمله أنت من أجل المَلك. ولهذا يُقسم الدكتور ماهر صموئيل الناس إلى نوعيتين: الأولى هم من يعيشون من أجل المَلك وملكوته، والأخرى هم من يعيشون من أجل مملكتهم الخاصة. بكلمات أخرى، ما يحدد هويتك ليس ما عمله المَلك من أجلك، بتحريرك من سلطان الظلمة ونَقْلك إلى ملكوته بنعمة عمله السيادي المنفرد. ولكن ما يقرر هويتك هو ما تعمله أنت من أجل المَلك. إلا أن الكتاب يعلمنا أننا بنو الملكوت لأجل إحسان المَلك معنا. وعملنا في الملكوت ليس بقوتنا بل بقوة عمل المَلك فينا. فقد خَلَقَنَا لأعمالٍ صالحة قد سبق وأعدها لكي نسلك فيها.

لا نكون قد بالغنا إن قلنا أن التمييز بين التبرير والتقديس هو عصب الخلاص المسيحي والتعليم الإنجيلي المصلح. هذا التمييز الخطير وحده هو الكفيل بحفظ النعمة دون مساس من هجوم أعمال الناموس عليها. إن الذي يقرر هويتنا ليس ما نعمله بل ما نؤمن به. إن ما يحدد هويتنا هو الإيمان وحده، لأننا نتبرر لا بالإيمان والأعمال معًا، بل بالإتكال القلبي وحده على عمل المسيح من أجلنا. وهذه الثقة القلبية الشخصية في كفاية المسيح وعمله تثمر فينا التغيير ومركزية الله في حياتنا. ليس لأننا تغيَّرنا ونعمل من أجل المَلك نكون مؤمنين. بل لأننا آمنا بوعد إنجيل المَلِك أثمر فينا هذا الإيمان قوة وعملاً. ليس أننا خضعنا للمَلك ونعمل من أجل مملكته لهذا نكون بنو الملكوت، بل لأن المَلك ربط القوي، ونهب أمتعته، وحررنا منه، ثم نقلنا إلى ملكوته لنكون رعية له. إننا لا نُصَيِّرُ المَلِك مَلِكًا بعملنا لأجله وخضوعنا له، بل هو الذي يُصَيِّرنا رعية وعبيدًا له. وعليه، فإن التقديس لا يحدد هويتنا بل هو نتيجة لهويتنا في المسيح. لكن ما يعمله ماهر صموئيل هنا هو أنه يستخدم التقديس، الذي هو ثمار عمل الله في حياتنا، ليجعله مُحَدِّدًا لهويتنا. يخلط بين التبرير والتقديس وبين الناموس والنعمة. نفس الخطأ القديم لكثلكة القرون الوسطى لكن مصاغًا بصورة جديدة. هذا فضلاً عن اسبتعاد المفاهيم القضائية للخلاص.

المثال الآخر على ذلك هو ما ذكره أوسم وصفي في منشور له على التواصل الإجتماعي فيسبوك:

"إذا حاولت تعمل مسح كدة لكل أسفار العهد الجديد، من أول إنجيل متى لحد الرؤيا، وتختار كل الفقرات إللي بتتكلم عن الإنجيل و عن ‏الخلاص، هتلاقي إن أغلب الفقرات بتتكلم عن مفهوم ملكوت الله‎.‎ لما اتكلم يسوع عن الإنجيل إتكلم عن ملكوت الله. لما سفر الأعمال يخبرنا أن بولس الرسول بيتكلم في كورنثوس أو في أفسس، يقول ‏إنه بيتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله ... في مواقع أخري ولكنها أقل، إتكلم العهد الجديد عن الإنجيل باعتباره المصالحة، أو باعتباره الخلاص من الخطية، أو باعتباره غفران ‏الخطايا، لكن الكم الأكبر بيتكلم عن الإنجيل باعتباره بشارة الملكوت‎".

ليس فقط أن أوسم وصفي في العبارة السابقة يريد أن يعطي أسبقية لإنجيل الملكوت، أو لمفهوم الملكوت العام، على إنجيل الخلاص أو النعمة، بل يعيد تعريف الغفران ليصبح غفرانًا، لا عن خطايا الإنسان، بل نوع من العفو العام عن موقفه العاصي والمتمرد على الله:

"خطية الإنسان هي أنه يحيا ملكوته الشخصي. خطية الإنسان هي أنه يحيا خارج ملكوت الله، ‏والتوبة والمصالحة هما أن يتخلى عن ملكوته ويدخل ملكوت الله‎.‎ غفران الخطايا الذي جاء به المسيح ليس أن يغفر لي ما فعلته في الماضي ولكن يغفر لي تمردي الذي يحرمني من الحياة الأفضل، ‏وهي الحياة في ملكوت الله، وذلك عن طريق توبتي‎".

صحيح أن الغفران يشمل غفران الله لموقفنا منه كعصاة متمردون عليه، إلا أن هذا في حد ذاته لا يستبعد بالضرورة أن الغفران يكون عن كل الخطايا الفردية التي ارتكبناها (مت ٢٦ : ٢٨، لو ٢٤ : ٤٧، أع ٢ : ٣٨، ٥ : ٣١، ١٠ : ٤٣، ١٣ : ٣٨، ٢٦ : ١٨، أف ١ : ٧، كو ١ : ١٤). لكن، في العبارة التالية يتضح الغرض الحقيقي من تركيز أوسم وصفي على الملكوت؛ ألا وهو إقصاء المفاهيم القضائية للخلاص من المشهد:

"لذلك لما يكون التركيز في تقديم الإنجيل علي مفهوم الغفران والمصالحة، أكتر من مفهوم دخول الملكوت، وده حصل عبر السنين، ‏فهذا يقدم إنجيل لا يصنع تلاميذ‎!".

والسبب لدى وصفي في كونه إنجيلاً لا يصنع تلاميذ:

"لم يعد إنجيلا يصنع تلاميذ لأنه يركز فقط على المصالحة بيننا وبين الله وتسديد دين قديم من أجل الذهاب الى السماء‎.‎ دالاس ويلارد قال أيضاً عن المسيحيين أنهم أصبحوا مصاصي دماء! يريدون يسوع فقط من أجل دمه، لكي يهربوا به من الجحيم و ‏يذهبون إلى السماء"‎.

إن أوسم وصفي يفعل هنا أكثر من شيء: أولاً يعطي الأولوية والأهمية لمفهوم إنجيل الملكوت أكثر من البشارة الخلاصية. وثانيًا يقوم بإعادة تعريف الغفران ليصبح مجرد عفو عام عن خطية التمسك بالملكوت الشخصي، وليس عن كل الخطايا التي إرتكبها الإنسان متعديًا على ناموس الله. وفي الحالتين الغرض هو تهميش المفاهيم القضائية للخلاص.

لعل الحسنة الوحيدة فيما قاله أوسم وصفي أنه لم يفصل إنجيل الملكوت عن إنجيل الخلاص. على عكس كثيرون قاموا بالفصل الحاد بين كل من إنجيل النعمة، أو إنجيل الخلاص، وبين إنجيل الملكوت. إذ يبالغ بعض أصحاب الفكر التدبيري في التمييز بين الإثنين لدرجة الفصل بينهما بالقول أن إنجيل الخلاص للجميع وإنجيل الملكوت لإسرائيل حتى أن رسالة الصليب ليست جزء من إنجيل الملكوت وأن الخلاص بذلك مستقبلي فقط. ليس هدفنا الرد على هذا الأمر هنا لكن سنجيب عليه عند تحديد العلاقة بين كل من إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت.

إلا أن أوسم وصفي، في الحلقة الأولى من إنسان الملكوت (اقتراب الملكوت ١)، بينما يحاول أن يأخذ موقفًا وسطًا بين من يقولون أن الملكوت لم يأتي بعد وإنما هو الملك الألفي، وأنه بسبب سمو العظة على الجبل فهي تنتمي إلى إنجيل المكوت المختلف عن إنجيل النعمة أو الخلاص، وبين من يقولون أن الدخول إلى الملكوت الآن يكون بالأعمال أو الجهاد، يقول أن الفريقين أساءا الفهم. والحل الوسط الذي يقترحه أوسم وصفي ليس سوى الناموسية العهدية. أي أنك تدخل إلى الملكوت بالنعمة وتبقى فيها بالأعمال والجهاد. وهذا هو الفكر الذي ينادي به أنصار المنظور المحدث لبولس. (راجع مقال نقد المنظور المحدث لبولس)

يقول أوسم وصفي: "هو عمل إلهي يعمله الله، أنت لا تستطيع أن تعمله، أنت مخلّص بالنعمة، بعمل إلهي. لكن أنت مدعو للإشتراك إلى تفعيل هذا العمل الإلهي. مش إنت بتعمل حاجات عشان تخش (الملكوت). لأ، إنت بتخش زي مانت، والله يبدأ في العمل فيك، وأنت تتعاون معه، في تفعيل عمل الله بالطاعة والجهاد، لكي تتشكل هذه الصورة ... الله قبلكم كما أنتم بخطيتكم في ملكوته، فقط بالإيمان بهذه النعمة. لكن قَبِلَكُم وأدخلكم إلى ملكوته، لكي يغيركم، يعمل فيكم، وأنتم تستجيبون لهذا العمل، وتُفَعِّلُون نعمة الله بطاعتكم ... الخلاص من الله بعمل إلهي بالنعمة، لكنه كامن محتاج يُفَعَّل".

إن ما يُعَلِّمَه أوسم وصفي هنا ليس سوى الناموسية العهدية. أي أنك تدخل إلى المكوت بالنعمة، وتبقى فيه بالأعمال والجهاد والتفاعل إلخ. لكن هذه ليست نعمة. لأن النعمة التي تحتاج إلى تكميل، ويمكن أن تُفقد، ومشروطة بطاعة الإنسان ومثابرته، ليست نعمة بل ناموس.

ومع ذلك، ليس بغريب أن يُناقض وصفي ما قاله عن الدخول إلى الملكوت بالنعمة، بتعليمه في الحلقة الرابعة (علاقة بر الملكوت بتجديد القلب ٢) أن الولادة الجديدة، ليست رغمًا عنا مثل ولادتنا جسديًا، بل إرادية، أي لابد من موافقة الإنسان. أين النعمة إذًا طالما أن الإرادة تشارك في الولادة الجديدة؟ هذه ملاحظة واجبة لكن يظل موضوعنا هنا هو العلاقة بين إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت.

إن عدم الوضوح في العلاقة بين إنجيل الملكوت وإنجيل النعمة يمكن أن يؤدي إلى كافة الأخطاء اللاهوتية الخطيرة كما رأينا. ولا سيما جَعْل ما نعمله يحدد هويتنا ومصيرنا تجاه الملكوت. إنه خلط للنعمة بالناموس من خلال إعلاء مفهوم الملكوت، وبالتبعية مفهوم السلوك، فوق مفهوم الخلاص. بكلمات أخرى إنه نوع من التعويم أو التخفيف لموضوع الخلاص بجعل الفكر المركزي هو الملكوت. بل أيضًا بالتركيز على ما نفعله نحن في مقابلة مع ما عمله المسيح لأجلنا. إن ماهر صموئيل وأوسم وصفي همهما الأول، لا ما فعله المسيح لكي يحضرنا إلى ملكوته، ولا ما يفعله الآن فينا لكي يحفظنا في ملكوته ويجعلنا مثمرون فيه بقوته، بل ما نعمله نحن من أجل الملكوت.

تحفظ واجب

إن الدراسات الكتابية الحديثة تقول أن مفهوم الملكوت هو المظلة العامة التي تظلل الحق الكتابي بأكمله. وأنا أؤمن فعلاً أن مفهوم الملكوت هو الحق العام الذي يجمع كل أجزاء الكتاب المقدس معًا. وأنه ذلك النهر الكبير الذي تتفرع روافده الكثيرة إلى موضوعات مختلفة في الحق الكتابي. فمن مفهوم الملكوت يتفرع كل شيء آخر. وكل شيء آخر يصب في هذا المفهوم. إلا إنه شتان الفرق بين قول ذلك وبين إستغلال هذا الأمر للطعن في المفاهيم القضائية للخلاص أو لتهميش الخلاص. وكل هذا كما رأينا يكمن خلفه تمرير التبرير بالناموس من خلال إحداث هذا التشويش بين مفهومي الخلاص والملكوت. الأمر الذي يحتم علينا الوضوح اللاهوتي حول هذا الأمر. وهذا يقودنا إلى تحديد طبيعة العلاقة بين إنجيل النعمة وبين إنجيل الملكوت.

التعرف بإنجيل النعمة

إن محاولاتي كل من ماهر صموئيل وأوسم وصفي، وغيرهم الكثيرون، بإعطاء الأولية لمفهوم الملكوت بغرض استبعاد المفاهيم القضائية للخلاص، والمتمثلة في إنجيل النعمة، تحتم علينا وضع بعض التعريفات لتوضيح العلاقة بين كل من الملكوت والخلاص. لنبدأ بإنجيل النعمة.

إن إنجيل النعمة يخص كل من موقفنا القضائي كخطاة مذنبون أمام الله، وحالتنا القلبية الداخلية أيضًا. فالخطية هي التعدي على ناموس الله ومن ثم تحتاج إلى الإسترضاء، وهي أيضًا نجاسة تتطلب التطهير. بكلمات أخرى، إنجيل النعمة يغير موقف الله من نحونا ويغيرنا من الداخل. ينقذنا من دينونة الله ويحررنا من سلطان الخطية. تغيير موقفنا أمام الله هو البعد الموضوعي المركزي لبشارة الخلاص. ومن ثم فهو الأساس للبعد الشخصي للكفارة. بكلمات أخرى، إن الكفارة تتجه رأسيًا أولاً لإسترضاء عدل الله. ثم على أساس المصالحة والإسترضاء تُطَبَّق الكفارة على قلوبنا شخصيًا. وهذه الكفارة القضائية أنجزها المسيح بكل من حياته وموته. ففي حياته أطاع الناموس كبديل عنا ليهبنا بره الشخصي. وفي موته على الصليب أطاع حكم الناموس فينا ليأخذ الدينونة التي نستحقها.

النصوص التالية توضح ما هو إنجيل الخلاص أو بشارة النعمة:

"الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشر (يوانجيليتزو) بالسلام بيسوع المسيح ... له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال بإسمه غفران الخطايا" (أع ١٠ : ٣٦ – ٤٣).

"لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن، لليهودي أولاً ثم اليوناني. لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان، كما هو مكتوب: أما البار فبالإيمان يحيا" (رو ١ : ١٦ – ١٧).

"وأعرفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به وقبلتموه وتقومون فيه. وبه أيضًا تخلصون إن كنتم تذكرون أي كلام بشرتكم به. إلا إذ كننتم قد آمنتم عبثًا. فإني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضًا: أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب. وأنه ظهر لصفا وللإثني عشر" (١ كو ١٥ : ١ – ٥).

أخيرًا وليس آخرًا، إن إنجيل الخلاص كمفهوم نجده أيضًا في مركز وقلب إرسالية الرب يسوع المسيح طبقًا لما جاء في البشائر الأربعة. فمنذ ميلاده أُعْلِنَ الغرض من إرساليته بواسطة الملاك أنه "يخلص شعبه من خطاياهم" (مت ١ : ٢١). ولهذا أكد الرب يسوع بذات شفتيه المباركتان: "كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخْدَم، بل ليَخْدِم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت ٢٠ : ٢٨). فبكونه فدية عن كثيرين سيخلص شعبه من دينونة خطاياهم وسلطانها. ولأنه جاء لكي يكون فدية عن كثيرين كان الصليب في مركز إرساليته "ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة" (يو ١٢ : ٢٧). وعند اقتراب صلبه صَرَّح بأنه سيشرب الكأس التي أعطاه إياها الآب (مت ٢٦ : ٣٩). والكأس هي إشارة إلى كأس غضب الله في العهد القديم. بالإضافة إلى إشارات أخرى في الصليب تؤكد على أن المسيح احتمل غضب الله عوضًا عن الخطاة؛ مثل تسليمه إلى الأمم كما سُلِّم اليهود إلى الأمم كدينونة. ومثل إحصاءه مع أثمة أو إحتسابه قضائيًا كواحد منهم. ومثل الظلمة والترك وإشارات أخرى تدل على احتماله لغضب الله. (للمزيد أنظر مقال: إشارات غضب الله وعدله في الصليب)

إنجيل النعمة إذًا هو أن المسيح مات وقام لأجل خطايانا. لكي يخلصنا من دينونتها ويغفرها لنا، ولكي يمنحنا بر الله. فما هو إذًا إنجيل الملكوت؟

التعريف بإنجيل الملكوت

إن إنجيل الملكوت يرجع إلى تكوين ١ حينما أراد الله أن يؤسس لنفسه ملكوتًا على الأرض. فخلق الجنة مَقْدِسًا ملكيًا له والإنسان كنائب مَلَكِي له يسود على الخليقة بالنيابة عن المَلِك الأعظم. لهذا نجد لغة الخليقة تعكس قصد الله في تأسيس ملكوته. على سبيل المثال، نجد في خلفية الحديث عن خلق آدم على صورة الله ومثاله لكي يملك على الأرض كنائب عن الله ما كان يُعتقد قديمًا لدى ثقافات شرق أدنى بأن الملك هو صورة الإله. ولهذا السبب أيضًا كان يضع الملك تماثيلاً منحوته له في دائرة ملكه في إشارة إلى خضوع هذه الأرض لسيادته والدليل هو صورته الموجودة فيها. لكن الإنسان، الذي هو صورة الله ونائبه الملكي، سقط. وبسقوطه صار هناك عداوة بينه وبين الله، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين أخيه الإنسان، وبينه وبين الخليقة العاقلة وغير العاقلة. إن موسى قصد إيصال هذا المعنى لمن كتب لهم في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.

إلا أن الملك الأعظم اختار له نائبًا آخر له لإستكمال مشروع ملكوته الأرضي الذي لا يفشل. فأوجد الله إسرائيل بالنعمة لكي يؤسس ملكه من خلاله. إن وعود الله بأنه سيملك على الأمم من خلال إسرائيل ليست مستحدثة. بل هي قديمة قدم الخلق. إن هذا ما أراد الله أن يفعله من خلال آدم لو لم يسقط. إلا أن إسرائيل فشل بدوره فَطُرِدَ من جنته التي هي أرض الموعد. فجاء آدم الأخير، والإسرائيلي الحق، الرب يسوع المسيح، ليبشر بإنجيل الملكوت. إن الخطة والمشروع الإلهيين الأصليين لم يشفلا بفشل كل من آدم وإسرائيل. ذلك لأن مشورة الله الأزلية ليست متوقفة على عمل الإنسان.

إنجيل الملكوت، كما يشير الإسم، يعني مُلْك الله على كافة أرجاء الكون، من خلال الإنسان. وليس هذا الإنسان سوى الله المتجسد؛ الله–الإنسان يسوع المسيح. إن المسيح بطاعته الإيجابية فيما أخفق فيه كل من آدم وإسرائيل، وبموته نيابة عن الإنسان المتعدي على الناموس، استطاع، لا أن يستعيد فقط مُلْك الله على الخليقة من خلال الإنسان، بل أن يأخذ أيضًا هذا المُلك إلى أبعادٍ مجيدة، إلى ذات عرش الله في السماء. إن المسيح، كالله–الإنسان، يملك من أجلنا، ومن أجل الله، على كل الكون بأكمله. هذا المُلْك تم تأسيسه وتدشينه بالفعل منذ لحظة تجسده في مجيئه الأول. وسيكتمل عند إستعلانه في مجيئه الثاني. إن الرب يسوع المسيح صَالَحَ الله بالإنسان، والإنسان بنفسه، والإنسان بأخيه الإنسان، والإنسان بباقي الخليقة. ولهذا سَيُعْلَن مجد الله ومُلكه على كافة جوانب الحياة في الكون.

إن بعض النصوص التي يَرد بها مصطلح "إنجيل الملكوت" تعكس المهمة المشتركة التي كانت لكل من آدم وإسرائيل ولكنهما أخفقا بها. ففي متى ٤ : ٢٣ نقرأ "وكان يسوع يطوف الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كل مرض وكل ضعف ففي الشعب". في نفس الأصحاح نقرأ عن نصرته في البرية على الشيطان، تلك الحية القديمة التي أخرجت الإنسان من جنته ومقر سيادة المَلِك الأعظم على الخليقة.

لوقا أيضًا يخبرنا عن الأبعاد الكاملة لإنجيل الملكوت: "وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فَدُفِعَ إليه سفر إشعياء النبي. ولما فتح السفر وجد الموضوع الذي كان مكتوبًا فيه: روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأبشر (يوانجيليتزو) المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة". ثم يتبع لوقا ذلك بهذا النص الخطير: "ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم، وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم" ‏ (لو ٤ : ١٦ – ٢١). إن كون هذا النص هو في الأساس نبوة قيلت لإسرائيل، يعني أن ذلك كان غرض الله من إسرائيل. كما أن هذه النبوة شملت بعدي الملكوت؛ المادي والروحي. فالمسيح جاء لشفاء كل من الروح والجسد، ولمصالحة الإنسان بالله، والخليقة ببعضها. خلاص إسرائيل روحيًا، وخلاصه من أعداءه الأرضيين، ومن كافة الدينونات التي جاءت عليه بسبب عصاينهم الرب. بل وخلاص العالم بأكمله.

مثال أخير على الكرازة ببشارة الملكوت نجده في قول بولس كما دونه لوقا: "ونحن نبشركم (يوانجيليتزو) بالموعد الذي صار لآبائنا، إن الله قد أكمل لنا هذا نحن أولادهم، إذ أقام يسوع كما هو مكتوب أيضًا في المزمور الثاني: أنت ابني أنا اليوم ولدتك. إنه أقامه من الأموات، غير عتيد أن يعود أيضًا إلى فساد. فهكذا قال: إني سأعطيكم مراحم داود الصادقة" (أع ١٣ : ٣٢ – ٣٤). إن السياق الذي يقول فيه بولس ذلك هو عظته في مجمع أنطاكية بسيدية. إذ بعد قراءة الناموس والأنبياء، أخذ بولس يعيد على مسامعهم تاريخ إسرائيل. بدءً من اختيارهم كأمة صغيرة أراد الله أن يؤسس من خلالها مُلْكًا له. إلا أنه بمجرد خروجهم عصوا عليه فأتاههم الله في البرية. ولكن الله من مراحمه أدخلهم إلى أرض الموعد طبقًا لخطته. وإذ بهم يعصونه طيلة فترة القضاة. وأخيرًا طلبوا ملكًا فأعطاهم الله شاول. ثم عزله الله وأعطاهم بدلًا منه داود الذي من نسله أقام الله لإسرائيل مخلصًا ومَلِكًا أبديًا حسب الوعد (أع ١٣ : ١٤ – ٢٤). إن بولس يقول في هذا السياق أنه "يبشر (بنفس) الموعد الذي صار لآباءنا، إن الله قد أكمل لنا هذا نحن أولادهم". إن مجيء الرب يسوع المسيح الأول وموته وقيامته هو تدشين لمُلك الله العتيد.

في قرينة السقوط، حيث أخفق آدم أن يكون نائبًا مَلكيًا يتسلط على الخليقة لأجل مجد المَلِك الأعظم، نسمع عن الإنجيل لأول مرة "هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" (تك ٣ : ١٥). أو طبقًا للتعليم المصلح فهو "الإنجيل الأولي" proto-evangelium . كما أننا في سياق سقوط إسرائيل أيضًا، وفشله في أن يكون مملكة كهنة لأجل المَلِك الأعظم، نقرأ عن الأخبار السارة: "ما أقدم على الجبال قدمي المبشر، المخبر بالسلام، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون: قد مَلَكَ إِلَهُكِ" (إش ٥٢ : ٧). إن كلمة "المبشر" هنا جاءت في السبعينية "يوانجيليتزو". وقد طبق بولس هذا النص على الإنجيل الذي كان يبشر به "وكيف يكرزون إن لم يُرْسَلوا؟ كما هو مكتوب: ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخيرات" (رو ١٠ : ١٥). فإنجيل الملكوت هو الأخبار السارة التي تسري في أجزاء الحق الكتابي، كما يسري الشريان في الجسد، بخصوص مُلْك الله على الخليقة من خلال الإنسان.

أساس التمايز والتكامل بين كل من إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت

سؤال أخير علينا أن نسأله قبل أن نصل إلى التوضيح النهائي للعلاقة بين الملكوت والخلاص. لماذا يتداخل أو يتضافر إنجيلي النعمة والملكوت معًا (كما سنىرى)؟ الإجابة المختصرة على ذلك لأن كل من الخلق والسقوط والفداء والمجد تتضافر معًا إلى حد يصعب فصلها عن بعضها. وكما أَثَّرَ سقوط آدم الأول على علاقته بالله وبنفسه وبالآخرين وبالخليقة، فإن طاعة آدم الأخير لها تأثيرًا أعظم مضادًا في نفس تلك الإتجاهات.

إن فهمنا العلاقة بين كل من الخلق والسقوط والفداء والدينونة فإن هذا سيوضح كثيرًا العلاقة بين إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت. إن الخلق والسقوط والفداء والدينونة موضوعات متمايزة لكنها متضافرة في عمل الله عبر التاريخ الفدائي بطريقة يصعب فصلها عن بعضها. فالله صنع خليقة كاملة واصفًا إياها بأنها حسنة جدًا creation . ولكن تلك الخليقة الأصلية الكاملة اعتراها فسادًا جذريًا بمجرد سقوط الإنسان de-creation ، لكون الإنسان نائبًا ملكيًا عن الله ورأسًا عهديًا للخليقة بأكملها. فجاء عمل المسيح الكفاري ليكون أساس الخليقة الجديدة new creation . في حين سيكون نصيب غير المخلَّصين هو الهلاك الأبدي un-creation . لهذا نرى أسفار الأنبياء تتكلم عن دينونة الله باعتبارها عكس لعملية الخلق (إر ٤ : ٢٣). هذا ليس معناه الفناء أو التلاشي، لكن دينونة الله ستكون رهيبة وكأنها (من منظور ما حقًا) عكس أو إنقلاب لعملية الخلق. تطبيقًا لذلك، فإن الخليقة الجديدة نأخذها في إنجيل النعمة، ولكنها تكتمل بالعتق النهائي (المجد) في إنجيل الملكوت. وبغفران الخطايا ننتقل من العالم القديم الملعون بسبب خطية آدم الأول إلى الملكوت الجديد الذي دشنه آدم الأخير، الرب يسوع المسيح، بتجسده وموته وقيامته. طبقًا لقول بولس (بحسب الترجمات الأدق)، فإن "الأشياء العتيقة قد مضت، وأنظروا، ها قد جاءت الأشياء الجديدة" (٢ كو ٥ : ١٧).

وكمال وشمولية عمل المسيح الكفاري يعكسان هذا التضافر بين كل من إنجيل النعمة وإنجيل الخلاص. فهو عمل كفاري يشمل جميع أبعاد الوجود. إن الصليب تخرج منه أشعة نور تتجه إلى أعلى وإلى أسفل وإلى الداخل وإلى الخارج. بكلمات أخرى، لقد مات المسيح من أجل الله، ومن أجل الإنسان، ومن أجل الشيطان، ومن أجل الخطية، ومن أجل الخليقة بأكملها. إن موت المسيح كان مُوَجَّهًا لهذه الأطراف جميعًا. لاسترضاء غضب الأول، وتغيير الثاني، وسحق الثالث، ونزع فعالية الرابعة، ومصالحة الأخيرة ذاتيًا وتجديدها. لكن كل شيء في عمل المسيح يجد أساسه في ذلك البعد الموضوعي من الكفارة، أي موقفنا القضائي أمام الله. لأنه بتعدي آدم على الوصية في جنة عدن حَلَّ الموت واللعنة على البشر والخليقة. ومن خلال المصالحة القضائية الموضوعية مع الله يُسترد كل شيء إلى وضعه الطبيعي بل وأكثر بكثير إلى مقياس أمجاد المسيح المَلك المتوج في عرش الله.

إن هذا التناظر بين معصية آدم وتأثيرها على الخليقة بأكملها من ناحية، وبين طاعة المسيح وتأثير ذلك على الخليقة بأكملها من ناحية أخرى، هو أساس هذا التكامل والتضافر بين إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت. كما أن إدراكنا للتداخل والتضافر بين الخليقة الأصلية والسقوط والخليقة الجديدة، ضروري جدًا لفهم التداخل والتضافر بين كل من إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت.

إلى أي مدى يختلف إنجيل الملكوت عن إنجيل النعمة؟

بعد أن عرفنا كل من إنجيل الملكوت وإنجيل النعمة، وأوضحنا أن شمولية وكمال عمل المسيح تعكس التضافر والتكامل بين إنجيلي النعمة والملكوت، فإن هذا أخيرًا يأتي بنا إلى تحديد طبيعة العلاقة بالضبط بينهما. هل هما إنجيلاً واحدًا أم إنجيلين مستقلان ومختلفان؟ وإن كانا إنجيلاً واحدًا هل من تمييز بين جانبيه؟

إن إنجيل الملكوت وإنجيل النعمة ليسا إنجيلين مختلفين، بل إنجيلاً واحدًا من منظورين مختلفين. فإنجيل النعمة هو السوتيريولوجي (عقيدة الخلاص)، بيما إنجيل الملكوت هو السوتيريولوجي ملحقًا به الإسخاطولوجي (عقيدة الأخرويات). بشارة النعمة هي المجيء الأول للمسيح، مجيء الاتضاع للخلاص، في حين أن بشارة الملكوت هي المجيئان معًا؛ مجيء الاتضاع ومجيء ذروة الخلاص والمجد. إنجيل الخلاص هو إنجيل البشارة الفردية، بينما إنجيل الملكوت هو بشارة الخلاص الفردي في ظل جماعة الله وفي ظل الخلاص العام للخليقة بأكملها. بشارة النعمة هي إفتتاح الملكوت inauguration وبشارة الملكوت هي الثمار الكاملة والإستعلان النهائي لذلك الملكوت. إنجيل النعمة هو عمل الخلاص السري للمسيح المَلك (سر التقوى)، بينما إنجيل الملكوت هو استعلان الخلاص النهائي وأمجاد المسيح المَلك. الأخبار السارة للخلاص هي الخميرة مختبئة في أكيال الدقيق، في حين أن الأخبار السارة للملكوت هي الكل مختمرًا ومخبوزًا وطازجًا. إنجيل النعمة هو مجيء الخليقة الجديدة، وإنجيل الملكوت هو السماء الجديدة والأرض الجديدة. بشارة الخلاص هي الإنسان مكسوًا بثياب الخلاص بعد أن تعرى بسبب سقوطه، بينما بشارة الملكوت هي العودة بالإنسان المكتسي ببر المسيح، ليس فقط إلى الجنة، بل إلى السماء الجديدة والأرض الجديدة حيث يملك مَلك الملوك ورب الأرباب بالبر والسلام.

لكن، بسبب إستغلال العلاقة المعقدة بعض الشيء بين إنجيل الخلاص وإنجيل الملكوت لإستبعاد المفاهيم القضائية، فإن أهم ما نريد التأكيد عليه هنا في العلاقة بين الإنجيلين هو أن إنجيل النعمة هو الباب لدخول للملكوت، في حين إنجيل الملكوت هو المحطة النهائية والكبرى للنعمة. إنجيل النعمة يؤدي إلى إنجيل الملكوت وليس العكس. أي لا دخول لنا إلى الملكوت بدون غفران الخطايا والتبرير من خلال الإيمان وحده. وهذا يعني أن جوهر الكرازة هو إعلان إنجيل النعمة. وأن كل بركة في إنجيل الملكوت لا تتأتى إلا من خلال بركة إنجيل النعمة بغفران الخطايا والتبرير والمصالحة مع الله. صحيح أننا عندما نأتي إلى المسيح نتحد به باعتباره كاهن ونبي وملك، إلا أننا نظل غير قادرين على التمتع بمُلكه علينا ومن أجلنا إلا من خلال خلاصه لنا من دينونة الخطايا. إننا لا نتمتع بمُلك المسيح إلا عندما نُبارك به كذبيحة وككاهن لأجلنا.

طبقًا للقس جريج جيلبرت، يمكننا أن نشبه الفرق بين إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت كالفرق بين عدسة المنظور الصغير والمُرَكَّزْ zoom in وعدسة المنظور الكبير والشامل zoom out . العدسة الأولى تركز النظر على مشهد خلاص الإنسان من الدينونة بعمل الصليب. بينما العدسة الثانية تعرض المشهد بأكمله من بعيد لترى الإنسان مُخَلَّصًا وسط كنيسة مجيدة في ظل كون كبير تم عتقه من عبودية الفساد ويسود عليه المسيح المجيد مشرقًا بأمجاده الملكية عليه.

أو طبقًا لكلمات جيلبرت:

"إذا نظرنا بعناية إلى العهد الجديد، يمكننا أن نرى أن المسيحيين إستخدموا كلمة الإنجيل بطريقتين مختلفتين – طريقة واسعة وطريقة ضيقة. فمن ناحية، غالبًا ما إستخدموا الإنجيل للإشارة إلى مجموعة الوعود الكاملة التي يقطعها الله لمن يتم فداءهم من خلال المسيح. قد نطلق على هذا المعنى الواسع ‘إنجيل الملكوت’. من ناحية أخرى، هناك أيضًا أماكن كان فيها كتبة العهد الجديد سعداء جدًا بتطبيق كلمة إنجيل على الرسالة القائلة بأن الخطاة يمكن أن يُغفر لهم من خلال التوبة والإيمان بموت يسوع المسيح الكفاري وقيامته. قد نسمي هذا المعنى الضيق ‘إنجيل الصليب’ ".

ماذا تعني العلاقة بين إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت بالنسبة للكرازة؟

إن كان السبيل إلى الملكوت هو النعمة، وإن كنا لن نتمتع بإنجيل الملكوت بدون بشارة النعمة، فهذا يقودنا إلى نتيجة منطقية وكتابية خطيرة. ألا وهي أن تقديم إنجيل الملكوت على أنه البشارة، وفي نفس الوقت إغفال المفاهيم القضائية للخلاص، ليس فقط حجب للإنجيل الحقيقي عمن يحتاجوه، بل هو بمثابة إنجيل مضاد. إن اختزال الحق ليس مجرد حق مُشوه، بل هو باطل أيضًا، أو بالأحرى مقاومة للحق. ولا سيما تقديم إنجيل الملكوت بغرض الطعن في إنجيل النعمة.

إن تقديم إنجيل الملكوت بغرض اسبتعاد إنجيل النعمة هو ما أسماه لوثر بـ "لاهوت المجد". هو تعليم يريد أمجاد الملكوت بدون خزي الصليب. في حين أن تقديم إنجيل النعمة الذي يقود إلى الملكوت هو "لاهوت الصليب". إن أمجاد الملكوت مُخفاة في خزي الصليب وعاره. أن تنزع الخزي الذي في الصليب من خلال الطعن في المفاهيم القضائية هو أن تغلق باب الملكوت أمام الداخلين. فالعار الذي تحمله المسيح عنا على الصليب هو السبيل إلى تمتعنا بأمجاد الملكوت. أي الآلام والأمجاد التي بعدها. لهذا فعند محاكمة المسيح البار أمام بيلاطس أكد، بصورة غير مباشرة، على أن الصليب هو بداية ملكه والسبيل إليه "أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلدت أنا. ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق" (يو ١٨ : ٣٧). لهذا خضع المسيح لموت الصليب لأن في باطنه أمجاد الملكوت والسبيل إليها. إن الملكوت مُخْفَى في عار الصليب. ولعنة الصليب التي تحملها المصلوب نيابة عنا هي السبيل إلى جلوسنا إلى جواره في المجد.

إن إستخدام مفهوم الملكوت للإقلال من شأن الخلاص من دينونة الخطايا ينم عن محاولة مستترة للتخلص من عثرة الصليب. إذ أن الخلاص من دينونة الخطايا يعني أن المسيح أخذ عنا عقوبة النار الأبدية على الصليب. وهذا الأمر يشكل ثقلاً وعثرة لدى البعض مثل ماهر صموئيل وأوسم وصفي. ولهذا لا عجب أن الإثنان من ألد أعداء البدلية العقابية والتبرير القضائي. وأحد أشكال مقاومتهما للجانب القضائي من الخلاص هو إعلاء مفهوم الملكوت للطعن به في الخلاص من الدينونة.

يرى جيلبرت أننا مهما تحدثنا عن وعود إنجيل الملكوت، بدون ربطه بالصليب أو بإنجيل النعمة، فإننا في الحقيقة لسنا فقط لا ننفع من نكرز لهم، بل نضرهم، لأننا نحجب عنهم طريق الدخول إلى الملكوت والسبيل إلى التمتع بوعوده.

يوضح جيلبرت:

"بالمناسبة، هذا هو السبب في أنه من المنطقي لكتبة العهد الجديد أن يطلقوا على إنجيل الصليب اسم ‘الإنجيل’، حتى عندما يستمرون في تسمية مجموع الأخبار السارة ‘بالإنجيل’ أيضًا. نظرًا لأن البركات الأوسع للإنجيل لا تتحقق إلا عن طريق الغفران من خلال الصليب، ولأن هذه البركات الأوسع يتم تحقيقها بكل يقين عن طريق الغفران من خلال الصليب، فإنه من المناسب والمنطقي تمامًا لكتاب العهد الجديد أن يدعوا المغفرة من خلال الصليب – منبع وبوابة الدخول إلى باقي البركات البقية – بـ ‘الإنجيل’. لهذا السبب أيضًا لا نرى أبدًا العهد الجديد يدعو أي وعد فردي آخر من الله إلى المفديين بـ ‘الإنجيل’. على سبيل المثال، لا نرى أبدًا وعد الخليقة الجديدة يُدعى ‘الإنجيل’. ولا نرى المصالحة بين البشر تُسمى ‘الإنجيل’. لكننا نرى بالفعل مصالحة بين الإنسان والله تُسمى بـ ‘الإنجيل’ على وجه التحديد لأنها البركة التي تؤدي إلى باقي البركات بأكملها".

إن ما قاله جيلبرت يؤكد ما أشرت إليه سابقًا بأن الجانب القضائي من الخلاص، والمتمثل في التبرير والغفران والمصالحة، هو مركز إنجيل النعمة. ومن ثم فهو مركز إنجيل الملكوت أيضًا. إن غفران الخطايا والتبرير في الصليب هو الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الملكوت. أن تغفل أو تهمش أو تطعن في هذا الجانب القضائي من الخلاص في الرسالة التي تقدمها هو أن تحرم سامعيك من الدخول إلى الملكوت.

ختامًا

إنه لسبب فرح بالغ للمسيحي أنه لم يتحد فقط بالمسيح الكاهن والنبي، بل بالمسيح الملك أيضًا. إنه خَلَّصَنَا ليمكلك علينا ومن أجلنا. هو رأس مجيد لنا وكل شيء مُخْضَع تحت قدميه من أجلنا. ولا سبيل لأي من هذه الأمجاد إن لم يكن المسيح بالنسبة لنا أولاً هو الكاهن والحمل المذبوح عنا. إن السبيل للدخول إلى ملكوت المسيح هو المرور بصليبه كالباب والطريق الوحيد. وكل من لم يكتسي بثياب العرس، ثياب البر التي يمنحها المسيح نتيجة طاعته للناموس وموته على الصليب، سَيَأْمُرُ بطرده خارج الملكوت. وعليه، فإن هويتنا كأبناء للملكوت لا تتحدد بناء على ما نعمله للمَلك وملكوته، بل بناء على ما عمله هو من أجلنا إذ أنقذنا من سلطان الظلمة عندما ربط القوي بعمله السيادي المنفرد ثم نقلنا إلى ملكوته وأعطانا حياته الجديدة وسلطانه الملكي لكي نعمل بهما في الملكوت.علينا إذًا أن نحفظ هذه العلاقة الدقيقة والحساسة بين إنجيل النعمة وإنجيل الملكوت لأجل خلاص النفوس ولأجل مجد المسيح.

***

سَلَّمَهُ المبشر لفافة من الرق وعليها عبارة: "اهربوا من الغضب الآتي." (مت ٣ : ٧)
قرأها الرجل ونظر بتمعن إلى المبشر: "إلى أين يجب أن أهرب؟"
أشار المبشر بإصبعه إلى حقل واسع جدًا. "هل ترى الباب الضيق هناك من بعيد؟" (مت ٧: ١٣ – ١٤)
حدق الرجل النظر قائلا: "لا."
فسأله المبشر، "هل ترى ذلك الضوء البعيد الساطع؟" (٢ بط ١: ١٩)
"أعتقد أراه."
قال المبشر: "احتفظ بهذا النور في عينك واصعد إليه مباشرة. إذا قمت بذلك، سترى الباب. عند وصولك إلى الباب، وعندما تطرق عليه، سيتم إخبارك بما يجب عليك فعله".
ورأيت في حلمي وإذ بالرجل بدأ يركض. لم يكد أن يبتعد عن باب منزله كثيرًا حتى لاحظت زوجته وأطفاله ما يفعله فصرخوا إلي: "عُد! إرجع إلى المنزل!"
وضع الرجل إصبعيه في أذنيه وأطلق ساقيه للريح صارخًا: "الحياة! الحياة! الحياة الأبدية!" (لو ١٤ : ٢٦)
(سياحة المسيحي)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس