هل حقًا كانت توبة نينوى مجرد إصلاحًا اجتماعيًا كما يدعي تيم كيلر؟


نشرت مؤخرًا هيئة ائتلاف الإنجيل باللغة العربية مقالاً بعنوان "يونان النبي الضال: حوار مع تيموثي كَلِر". والمقال به أخطاء لاهوتية وتفسيرية جسيمة بسبب إقحام كيلر لأيديولوجية الانجيل الاجتماعي.

بداية لم أستسغ المشابهة بين يونان والابن الضال. صحيح أن يونان ضل طريقه إلى نينوى في البداية، لكنه حتمًا لم يضل طريقه إلى الله. فهو نبي حقيقي، يعرف يهوه معرفة حقيقية ومخلِّصة. ويرمز إلى الرب يسوع المسيح. كان يونان عاصيًا من حيث الإرسالية، وربما لم يكن يحب الخير للأمم، لكن حياته بصفة عامة لم تكن مثل الأمم الأشرار الذين ذهب لكي ينذرهم عن الدينونة. إن المقارنة ستكون أكثر إنصافًا بين الابن الضال وأهل نينوى، بما أن كلاهما كانا بعدين ويعيشان في الخطية.

بل إن كيلر يذهب لأبعد من ذلك بجعل أهل نينوى أفضل أخلاقيًا من يونان. فغرض السفر، طبقًا له، هو أن كاتبه أراد أن يبين كيف أن ‘الأمم الأشرار’ يمكنهم أن يُظهروا سمو وتقوى أخلاقية أكثر من نبي مدعو من الإله الحي وحامل الإعلان الإلهي". لدرجة أننا جميعًا، بما في ذلك المؤمنين والكنيسة، متدينون ولا دينيون في نفس الوقت. إن هذا يأتي بالاتساق مع اعتقاد كيلر بأن أهل نينوى لم يَخْلُصُوا خلاصًا روحيًا أبديًا، بل مجرد توبة أو نهضة مجتمعية وقتية، كما سيأتي الذكر. فهدف السفر كما يرى كيلر هو إبراز العدل الاجتماعي والأخلاقيات. فمن ناحية، أظهر الأمم تفوقهم على النبي اليهودي من حيث الأخلاق. ومن ناحية أخرى أراد الله لهم فقط إصلاحًا اجتماعيًا بالتوقف عن الجرائم ومن ثم تأجيل دينونتهم فقط وليس نجاتهم الأبدية.

صحيح أن الأممي أو الوثني أو الملحد يمكن أن يظهر صلاحًا أكثر من المؤمن (لبعض الوقت وإلا لتشككنا في حقيقة إيمان المُعْتَرِف)، لكن كيف يمكن أن يظهر الأشرار تقوى؟ هل التقوى بهذه السطحية؟ كيف يمكن للوثني الذي لا يؤمن بالإله الحقيقي، وكل غير مسيحي هو وثني، أن يُرى سلوكه على أنه مخافة الله؟ ثم إن جعل الاختلاف بين غير المؤمن والمؤمن هو السلوك الحسن أو العدل لهو محاولة للقول من طرف خفي أن السلوك أهم من العقيدة. وأن التغيير الاجتماعي أهم من الكرازة بالإنجيل. وهذا أيضًا يأتي بالاتساق مع ذكر كيلر لاحقًا أن تقديم العدل للمجتمع، بغض النظر عن المحبة، وبغرض الكرازة بالإنجيل فقط، هو تلاعب. صحيح أن موقف أهل نينوى وبخ تمرد يونان على إرسالية الله له، لكن يظل أن سمة حياة يونان العامة ليست هي الشر، وإلا لكان هو بدوره تحت الدينونة مثل أهل نينوى. إن فحوى ما يقوله كيلر هنا هو أن الله يُقدر العدل المجتمعي أكثر مما يقدر الإيمان بشخصه والمصير الأبدي للأمم الخطاة.

وفيما يتعلق بالمقارنة بين يونان والسامري الصالح، وكيف أن السامري يتفوق أخلاقيًا على يونان، طبقًا لما يراه كيلر، فإن المغزى من مَثَل السامري الصالح ليس الكرازة بالإنجيل، ولكن التعريف بمن هو القريب الذي ينبغي أن نحبه مثل النفس. أما الرواية التاريخية ليونان فغرضها الأساسي هو الإنذار من الدينونة لأن الله يحب الأمم أيضًا ويريد خلاصهم. صحيح أن محبة القريب مثل النفس في خلفية ذلك السفر، إلا أن هذه ليست الرسالة الأساسية منه. إن الرسالة الأساسية للسفر ليست موقف الإنسان من أخيه الإنسان، بل من موقف الله والإنسان من أحدهما الآخر.

إلا أن الخطأ الأكثر جسامة لكيلر في هذا المقال هو الادعاء بأن توبة أهل نينوى كانت تحولاً اجتماعيًا وليست خلاصًا روحيًا. أو قُل نهضة مجتمعية أدت إلى سلام مجتمعي مؤقت.

يقول كيلر:

"لقد استخلصت هذا الاستنتاج بعد أن درست الإصحاح الثالث فترة طويلة. يفترض كثير من الوعاظ أن ما نادى به يونان كان أكثر من مجرّد عبارة: “بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى”. بل قد ذهب البعض إلى القول أنه ربما قدّم لهم رسالة النعمة. لكن لا النص يقول ذلك، ولا انفعالات يونان في الإصحاح الرابع تؤيّد ذلك. كما أننا نميل إلى الاعتقاد بأن توبة نينوى كانت تحولًا جماعيًا نحو الإله الحقيقيّ. ولكن لا ذكر لاسم “يهوه” الذي يستخدمه الله في علاقاته العهديّة، ولا أي يفيد النص أنهم نبذوا أصنامهم وتبعوا الرب. ولكن ما يؤكد عليه النص هو أنهم توقفوا عن القتل والعنف واستغلال بعضهم البعض. وإذا نظرت إلى كلمات الأنبياء للأمم الوثنيّة في أسفار مثل إشعياء، وعاموس، وحزقيال، لوجدت أنهم تحدثوا معهم بشكلٍ أساسيّ عن قسوتهم وظلمهم تجاه الضعفاء".

ثم يوضح كيلر أكثر طبيعة التغيير الذي حدث لأهل نينوى:

"ما حدث في نينوى إذن هو ما نُسميه الإصلاح الاجتماعيّ، وقد سُرّ به الله بما يكفي ليؤخر دينونته على المدينة لعدة عقود أخرى. من هنا يمكنني أن أقول أن يونان قد كرز بغضب الله، وأن الاستجابة كانت إصلاحًا اجتماعيًا".

يبدو أن إقحام كيلر لأيديولوجية العدالة الاجتماعية جعله يغفل قول الرب يسوع المسيح بأن أهل نينوى سيقومون ليدنونة الجيل الذي رفض المسيح:

"رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان ههنا" (مت ١٢ : ٤١).

أن يقوم أهل نينوى الأمميون ويدينون اليهود الذين سمعوا رسالة النعمة من المسيح ورفضوها فهذا يعني أنهم خلصوا أبديًا. وتابوا توبة روحية حقيقية وليست فقط توبة مجتمعية أو إصلاحًا اجتماعيًا كما يطلق كيلر عليه. لا يعلّم الكتاب المقدس في أي مكان منه أن الأشرار سيشتركون في دينونة الأشرار نظرائهم، بل القديسين فقط. حتى أننا سندين ملائكة. لهذا فإن تفسير كيلر الخاطيء والمدفوع بأيديولجية العدالة الاجتماعية يصطدم مع التفسير المعصوم للرب يسوع المسيح لسفر يونان.

يقول مكارثر تعليقًا على هذا النص:

"كانت النهضة الروحية في نينوى تحت وعظ يونان واحدة من أكثر الأحداث غير العادية التي شهدها العالم على الإطلاق. اقترح بعض المفسرين أن توبة أهل نينوى لم تبلغ درجة الإيمان المُخَلِّص، لأن المدينة عادت في غضون جيل واحد إلى طرقها الوثنية القديمة (راجع نا ٣ : ٧ ، ٨). ولكن من كلمات يسوع هنا، من الواضح أن النهضة تحت تأثير يونان مَثَّلَت توبات خلاصية حقيقية. فقط الأبدية ستكشف عن عدد الأرواح من ذلك الجيل التي أسرعت الدخول إلى الملكوت نتيجة النهضة".

إن عدم ذكر الإسم العهدي للرب، وعدم ذكر النص عن أن أهل نينوى نبذوا أصنامهم، لهو حجة من الصمت. وغياب الدليل ليس دليلاً على الغياب. بل إن ما يدعيه كيلر من غياب الأدلة لهو في تمام التناقض مع وجود دليل قاطع ألا وهو تعليم الرب يسوع بأن أهل نينوى تابوا توبة حقيقية وسيقومون لدينونة الجيل الذي رفض المسيح. إن النص في (مت ١٢ : ٤١) فيه الإجابة التي يبحث عنها القس كيلر، ويوضح لنا بالضبط ما حدث في سفر يونان. فضلاً عن ذلك، إن كيلر يحجر على أي تفسير يقول أن أهل نينوى خلصوا، وفي نفس الوقت يقحم أيديولوجيتة الإنجيل الاجتماعي عليه Eisegesis.

أما تصريح كيلر أن رسالة الأنبياء للأمم كانت أخلاقية فقط، فهو تصريح غير مسؤول ويتعارض مع طبيعة الله. يقول كيلر:

"وإذا نظرت إلى كلمات الأنبياء للأمم الوثنيّة في أسفار مثل إشعياء، وعاموس، وحزقيال، لوجدت أنهم تحدثوا معهم بشكلٍ أساسيّ عن قسوتهم وظلمهم تجاه الضعفاء".

إن اهتمام الرب بالسلام والعدل المجمعيين لدى الأمم بصفة رئيسية يجعل الله مكترثًا بجرائمهم أكثر من مصيرهم الأبدي، وبعلاقتهم ببعضهم البعض أكثر من علاقتهم به هو شخصيًا. إنه يصور الله على أنه يريد هدنة ولا يريد خلاصًا. إن هذا يتعارض تمام التعارض مع ما قاله حزقيال بأن الرب لا يسر بموت الشرير، بل برجوعه عن طرقه فيحيا (أبديًا) (حز ١٨ : ٢٣ ، ٣٣ : ١٢).

كما أنه يتعارض مع الكثير من النصوص التي تدين وثنية الأمم وعبادتهم للأصنام. الأمر الذي يعني ضمنًا رغبة الرب في عودتهم إليه ومن ثم خلاصهم. إن قصة إسرائيل تبدأ بدينونة الأمم الذين يعبدون الأوثان. فضربات مصر جاءت على آلهتها قبل أن تأتي على المصريين أنفسهم. كما أن أريحا وما حولها ارتعبوا من أعمال الرب حتى أن راحاب اعترفت بأن يهوه "هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت" (يش ٢ : ١١). كما أن تحذيرات الرب لشعبه ضد وثنية الأمم الذين طردهم الله وأسكن إسرائيل في أرضهم عوضًا عنهم كانت في صميم العهد معهم (لا ٢٠ : ١ – ٢٣). وقد كان من بين الضربات التي حذر الرب منها شعبه هو وثنية تلك الأمم مثل تقديم الذبائح البشرية لمولك (لا ٢٠ : ٢ – ٦). ونصرة الرب لشعبه على الأمم كانت توبيخًا لآلهتهم (إش ٣٧ : ١٧ – ٢٠). إن الرب وأنبياءه يسخرون من وثنية الأمم الذين يقطعون لأنفسهم الأشجار ويشعلونها للطهي عليها والاستدفاء بنارها ثم أخذ ما تبقى من الخشب ليصنعوا منه صنمًا يسجدون له (إش ٤٤ : ٩ – ٢٠). أنظر أيضًا (إر ١٠ : ٣ - ٥، ١٤ : ٢٢، حب ٢ : ١٨ - ١٩). كما توعد الرب بدينونة آمون وباقي آلهة مصر والمصريين (إر ٤٦ : ٢٥). بل إن ناحوم يخبرنا أن نينوى كانت تكره الرب وشعبه "وحيٌ على نينوى ... مِنْكِ [يا نينوى] خرج المفتكر على الرب شرًا المشير بالهلاك" (ناحوم ١ : ١ ، ١١). إن كل هذا يؤكد أن الرب، قبل أي شيء، لم يهتم فقط بالعدل بين الأمم، بل بعبادتهم الأصنام بدلاً منه. ومن ثم بمصيرهم الأبدي قبل سلامهم الزمني.

يُتابع كيلر:

"هذا جعلني أتساءل: هل من يعمل في مجال الإصلاح الاجتماعيّ يتحدث أيضًا عن غضب الله ودينونته؟ وهل من يعظ عن غضب الله يهتم أيضًا بالعدالة الاجتماعية؟ ربما يكون هناك بعض الاستثناءات، ولكن في الأغلب من يهتم بالواحدة يهمل الأخرى".

هذه محاولة أخرى من كيلر لجعل العدالة الاجتماعية جزء من الإنجيل. وهي ليست كذلك. إن جعل العدالة الاجتماعية جزء من الإنجيل لهو تحويل لرسالة الإنجيل من رسالة مركزها الله إلى رسالة مركزها الإنسان. تحويل الإنسان من مذنب أمام الله إلى ضحية سياسية أو مجتمعية. إن الإنجيل لا يمكن أن يحتوي على رسالة اجتماعية أو مجتمعية إطلاقًا. صحيح أن التغيير الذي يصنعه الإنجيل يثمر بالبر والعدل. إلا أن رسالة الإنجيل ليست مجتمعية أو سياسية. بدون أدنى شك كمسيحيين نحتاج أن نقدم الرحمة للآخرين ونجعل عالمنا أفضل. إلا أن هذا ليس الإنجيل. إن كيلر يرفض الفصل بين الإنجيل والعدالة الاجتماعية لدرجة أنه يرفض تشبيه الإثنين بجناحي الطائرة إذ يراهما "متكاملان". أي يكملان أحدهما الآخر.

إن محاولات كيلر إقحام العدالة الاجتماعية على كل شيء، حتى أن يونان لم يسلم من تلك المحاولات، نجدها في تصريحات أخرى له. وهي تصريحات تخص جوهر الإنجيل.‏ على سبيل المثال، قال كيلر في أحد كتبه: "يسوع لم يتألم عنا فقط بل معنا ... لقد أخذ ‏مكانه طواعية بجانب أولئك الذين كانوا بلا قوة والذين يعانون من الظلم. لكن عندما تألم يسوع معنا كان ‏يَتَّحِدُ مع مُضْطَهَدِي العالم، وليس مع مُضْطَهِدِيهم". إن كيلر يرى في الصليب ليس فقط آلام المسيح من أجل البشر، بل آلامه مع المظلومين ضد من ظلموهم. إنه يضع رسالة اجتماعية سياسية جبنًا إلى جنب مع الرسالة الخلاصية في الصليب.‏

إن الإله الذي ينادي به كيلر في أفضل حالاته هو إله لا يهتم بالمصير الأبدي لمخلوقاته. فقد أرسل يونان لأهل نينوى، لا لخلاصهم الأبدي، بل لكبح جماح الشر من خلال توبة سطحية تثمر فيهم إصلاحًا اجتماعيًا. إنه يغضب لا لقداسته بل لأجل ظلم أحدهم للآخر. ويغضب لا من أجل مصائرهم الأبدية بل من أجل هدنة مجتمعية مؤقتة. ويرسل نبيه يونان ليعظ عن غضب الله ليحدث فيهم، لا تأثيرًا روحيًا، بل اجتماعيًا مؤقتًا. فهل هذا يتسق مع طبيعة الله كما هو معلن في العهدين؟

إن القس تيم كيلر جعل الله مهتمًا بالعدل الاجتماعي أكثر من رغبته في خلاص النفوس، وجعل الإنسان ضحية المجتمع أكثر من كونه مذنبًا أمام الله. إن الصورة التي يرسمها القس كيلر عن الله والإنسان ليست كتابية. صحيح أن يونان ضل طريقه إلى نينوى في بداية الأمر، إلا أن كيلر ضل طريقه إلى التفسير الصحيح للحق الكتابي بإقحامه أيديولوجية العدالة الاجتماعية عليه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس