هل موت الصليب هزيمة والقيامة انتصارًا؟


موت الصليب والقيامة جانبان رئيسيان في عمل الفداء الواحد والمتكامل. هو ذات العمل الفدائي ذو الطبيعة الواحدة. إلا أن العلاقة بين جوانب هذا الحق الفدائي الواحد، ولا سيما العلاقة بين الصلب والقيامة، قد يحدث لغطًا في فهمها. فقد يُنظر إلى الصليب نظرة سلبية بينما تُرى القيامة على أنها الجانب الإيجابي من عمل الفداء.

سوء فهم وتشويه متعمد حول علاقة موت الصليب بالقيامة

عادة ما ننظر إلى الصليب على أنه هزيمة والقيامة على أنها نصرة. فالموت يظل هزيمة في أذهاننا حتى ولو كان هو موت المسيح. كما أن هذه النظرة السلبية إلى الصليب على أنه هزيمة يدعمها من ناحية أخرى سوء فهم لقول بولس "إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم" (١ كو ١٥ : ١٤ ، ١٧). فضلاً عن ذلك، فإن هذه الظنون يستغلها أصحاب ذوي الأجندات غير الكتابية، مثل الليبراليون ودعاة الأرثوذكسية الشرقية، الذين يهمهم التعظيم من القيامة على حساب الصليب. والسبب في اعطائهم للقيامة مركزية على حساب الصليب هو أن ينأوا بالفداء عن الجانب القضائي منه. أي أن الغرض من الفداء هو التأله والاشتراك في طبيعة القيامة، أكثر منه بدلية المسيح في تحمل عقوبة الموت عنا. على أن هذه النظرة السلبية للصليب على حساب القيامة لا تدعمها النصوص الكتابية أو اللاهوت الكتابي العام.

الموت والقيامة كل منهما انتصارًا

إن قول بولس "إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم" لا يلغي كون الصليب في حد ذاته نصرة وقوة. بل يفترض عدم إنفصال الموت عن القيامة. أي أن الصليب لا يؤخذ وحده بمعزل عن القيامة. إلا أن الصليب في حد ذاته غلبة. إن كل من الموت والقيامة نصرة ولكن من أوجه مختلفة. فبالموت أباد الموت كما تقول كل من رسالتا كولوسي والعبرانيين. وبالقيامة أيضًا غلب الموت. وكأن الموت هُزم هزيمة مضاعفة. أو أن المسيح سحق الموت مرتين؛ مرة بموته وأخرى بقيامته.

أو كما يقول جيريمي تريت عن كون كل من موت الصليب والقيامة انتصارًا: "إن موت يسوع ليس هزيمة تحتاج تصحيحها بالقيامة، بل انتصار يحتاج للإعلان عنه وتفعيله في القيامة". مشكلة أهل كورنثوس إذًا كانت هي الإسخاطولوجي فوق المتحقق over-realized eschatology . أي أنهم اعتبروا أنهم في الملكوت المتحقق كليًا ولم يعودوا يتطلعوا إلى مجئ المسيح المقام. لهذا احتاج بولس أن يذكرهم بقيامة المسيح التي هي أساس وباكورة قيامتنا العتيدة. كان فكرهم اللاهوتي غير متوازن حول العلاقة بين "ما حدث بالفعل وما هو قيد الاكتمال" already and not yet. اعطاء للقيامة مركزية على حساب تهميش الصليب، واعتبار موت الصليب هزيمة والقيامة فقط هي النصرة، جميع هذه تصورات غير متوازنة حول عمل الفداء.

على أن الذين يعطون للقيامة مركزية على حساب موت الصليب، محتجين بقول بولس في ١ كو ١٥ : ١٤ ، ١٧، يغفلون أن بولس نفسه تحدث في ذات السياق عن الصليب كقوة الله (١ كو ١ : ١٨، ٢٣ ، ٢٤) وحكمته (١ كو ١ : ١٧ – ٢٤).

موت الصليب نصرة بسبب طبيعة شخص المسيح

رغم أن الموت في حد ذاته هزيمة، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة للمسيح. فحقيقة شخص المسيح غيرت من طبيعة موته تمامًا. إن الاتحاد الهيبوستاتي للطبيعتين، وخلو بشرية المسيح من الخطية، جعلا موته مختلفًا عن موت الخطاة. إنه موت حقيقي كالذي يختبره البشر جميعًا. إلا أن موت المسيح لا يضاهيه موت آخر في كونه إنتصار وليس هزيمة. كل إنسان خاطئ يموت مهزومًا من الموت ومجبرًا عليه بسبب الخطية. إلا أن المسيح وضع نفسه ولم تؤخذ منه. كان بلا خطية من حيث الطبيعة والفعل فلم يستحق أن يموت. بل كان بارًا يستحق المكافأة على بره. إن حقيقة أن من وضع نفسه هو المسيح تصنع اختلافًا جذريًا في طبيعة هذا الموت.

مات المسيح كملك منتصر

إن من مات على الصليب هو ملك الملوك ورب الأرباب. والرب يسوع المسيح ملك لا يُهزم. فصليبه في ظاهره هزيمة لكن في حقيقته غلبة. وهكذا يصفه الكتاب المقدس (كما سنرى). إن المسيح لم يمت كأسير حرب، بل كملك منتصر. صحيح أنه مات كالخادم أو العبد المتألم. إلا أن هذا لا يلغي أنه تألم ومات أيضًا كالمسيا الغالب. يظل المَلِك الإلهي وإن تألم ومات. يظل رئيس الحياة (أع ٣ : ١٥) وإن كان قد خضع طواعية لِمَلِك الأهوال. إنه مِلِك غير مهزوم في مولده وحياته وموته وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب. كل شئ فعله الرب يسوع المسيح في تجسده هو عمل مسياني؛ أي مَلَكِي. أن تقول أن موت المسيح هزيمة هو أن تقول أن الله هُزِمَ. ذلك لأنه الله وإنسان معًا. صحيح أن اللاهوت لا يموت، إلا أن من مات هو الله الإنسان يسوع المسيح. موت الصليب في ظاهره هزيمة لكن في باطنه إنتصارًا. في ظاهره ضعف لكي في حقيقته قوة الله. لعنة وخزي إلا أن هذا لا ينفي أنه في عمقه مجد وكرامة.

إن العهد الجديد يشير إلى كون من مات على الصيب هو المَلك. ولا نجد أية إشارة فيه إلى أنه مَلك مهزوم أو تم إخضاعه بواسطة قوة أخرى. إن الإشارات الكتابية إلى موت المسيح كمَلك تتخلل أحداث الصلب:

دخوله المَلَكِي الإنتصاري أورشليم قبيل صلبه "هوذا مَلِكُكِ يأتيك وديعًا" (مت ٢١ : ٥).
المسيح ليس مجرد مُعَلِّم له إثني عشر تلميذًا، بل ملك لديه إثني عشر جيشًا من الملائكة (مت ٢٦ : ٥٣).
اعترف بيلاطس أنه ملك اليهود "هوذا ملككم ... أأصلب ملككم" (يو ١٩ : ١٤ – ١٥).
مملكة المسيح ليست من هذا العالم (يو ٢٨ : ٣٦).
كان مَلِكًا مكللاً وإن كان إكليله من الشوك "وضفروا إكليلاً من شوك ووضعوه عليه" (مر ١٥ : ١٧).
وكان له الثوب المَلَكِي القرمزي وإن فعلوا ذلك بغرض السخرية "فعروه ألبسوه رداءً قرمزيًا (مت ٢٧ : ٢٨).
كتبوا فوقه علة صلبه "مَلِك اليهود" (يو ١٩ : ١٩ – ٢١).
آمن اللص وأدرك أن المسيح هو المَلِك وأنه سيأتي في ملكوته "أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك" (لو ٢٣ : ٤٢).

بموته هزم الموت والخطية والشيطان

مات المسيح كمَلك منتصر محققًا بذلك إنتصارًا على كل من الموت والخطية والشيطان. يقول كاتب العبرانيين "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت، ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب ٢ : ١٤). هنا نجد العلاقة بين الموت والشيطان. ويوجد علاقة بينهما وبين الخطية وإن لم يخبرنا عنها النص صراحة. الشيطان له سلطان الموت لأنه يخدع بالخطية التي تؤدي إلى الموت. فهو صاحب الخديعة الأولى التي أدخلت الموت إلى البشرية. ولأنه المشتكي الذي يطالب بمعاقبة الخطاة مشيرًا إلى ذنوبهم. ولأنه هو الذي يملك بالموت على سباياه البشر من خلال الخطية (مت ١٢ : ٢٩). ولأنه يستعبد البشر تحت عبودية الخوف من الموت. هو القتال الذي منذ البدء (يو ٨ : ٤٤)، والمشتكي، والمضل والكاذب، والسَّجَّان القوي للبشر كمن له الحق عليهم بسبب خطاياهم. في نص آخر يعلمنا بولس أن الخطية هي العامل المشترك في الأمور السابقة جميعها "شوكة الموت هي الخطية، وقوة الخطية هي الناموس" (١ كو ١٥ : ٥٦). إن الشيطان يمارس سلطته من خلال الخطية. فهو يقتل بالخطية، ويخدع بالخطية، ويميت بالخطية، ويستعبد بالخطية، ويشتكي على فعل الخطية.

ينبغي أن نلحظ هنا أن الانتصار الذي حققه المسيح هو بالموت "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت". في نص آخر يشير بولس صراحة إلى العلاقة بين الشيطان والموت والخطية مضيفًا إليهم دينونة الله "وإذ كنتم أمواتًا في الخطايا وغلف جسدكم، أحياكم معه، مسامحًا لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدًا لنا، وقد رفعه مسمرًا إياه بالصليب، إذ جَرَّدَ الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو ٢ : ١٣ – ١٥). كلمة "الصك" (خايروجرافون) مكونة من مقطعين: "يد"، و"كتابة". والمقطعان معا يكونان كلمة واحدة تعني "شئ مكتوب بخط باليد". البعض يرى أنه الناموس الموسوى المنقوش باليد على الألواح الحجرية. وآخرون يرون أن الصك يعني إقرار بالمديونية مكتوب بخط اليد كما كان يفعل القدماء. وسواء هذا أو ذاك، فهو في الحالتين وثيقة مضادة لنا لأنها تديننا. إننا مدانون تحت حكم الناموس بسبب خطايانا "قوة الخطية هي الناموس".

العلاقة إذًا هي أن الرب يسوع المسيح هزم الشيطان بموته على الصليب عندما أخذ عقوبة الخطايا ودينونتها. من خلال إيفاء مطالب عدل الله لم يعد للشيطان أية أحقية على كل من يؤمن بالمسيح. ولم يعد له ما يشتكي به عليه. إنه يشتكي لكن شكايته غير فعالة. المسيح أخذ عنا الدينونة، ونزع قوة الخطية، وجرد الرياسات، وأبطل الموت، بالموت. كل هذا تم عندما أخذ المسيح أجرة الخطية "لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رو ٦ : ٢٣).

صور أخرى عن كون الصليب انتصار وليس هزيمة

يتحدث العهد الجديد عن كون موت الصليب نصرة بأكثر من صورة. فالصليب هو تمجيد للمسيح "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان" (يو ١٢ : ٢٣، ١٧ : ١). ومن يحق له أن يمتجد سوى الملك المنتصر؟ وتعيلق المسيح على الصليب كان في حقيقته ارتفاعًا كما يرتقي الملك على عرشه "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو ١٢ : ٣٢). من الجدير بالذكر أن إشعياء يستعمل لغة يربط بها بين السيد الذي رآه "جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع (رام ونيسا)" (إش ٦ : ١)، وبين الخادم المتألم الذي "يعقل، يتعالى ويرتقي (يرام ونيسا) ويتسامى جدًا" (إش ٥٢ : ١٣). إن العبد المتألم في إش ٥٢ - ٥٣ هو ذاته الملك المرتفع في إش ٦ وإن كان في صورة اتضاعه على الصليب. إنه ملك منتصر، مرتفع وعالٍ، حتى في ظل آلامه.

كما أن موت الصليب هو إظهار لعدله المَلَكِي، إذ يمكن للفجار الآن أن يتبرروا ويظل الله بارًا أي عادلاً في حكمه "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيحن الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره، من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله. لإظهار بره في الزمان الحاضر، ليكون بارًا ويبرر مَنْ هو مِنَ الإيمان بيسوع" (رو ٣ : ٢٤ – ٢٦).

تطبيق

إن عمل المسيح الكفاري متداخل بحيث أننا لا نستطيع أن نجتزئه أو نُقْصِرُ ثماره على إحدى مراحله كالقيامة مثلاً. المثال على ذلك هو التبرير. فالتبرير تم بسلوك المسيح، وبصلبه، وبقيامته. فبحياته وسلوكه أطاع وصايا الناموس نيابة عنا. وبصلبه وموته أطاع حكم الناموس فينا. وبقيامته تبرهن على براءته وفعالية عمله لأجلنا. بررنا المسيح بحياته، وبموته، وبقيامته، بل وبصعوده ودخوله للأقداس أيضًا. الصليب إذًا هو مركزًا في سلسلة من الإنتصارات التي حققها المسيح بدءًا من حياته وطاعته ووصولاً إلى عرش الله في السماء. إن عمل المسيح بأكمله، منذ أن تجسد، إلى وقت جلوسه عن يمين الآب، هو انتصارًا لا يوجد فيه أية هزائم بما في ذلك الصليب. بل وعلى رأس تلك الإنتصارات يأتي الصليب. ولسنا نعطي الصليب مركزية على حساب القيامة. بل كلاهما انتصاران مركزيًان في عمل المسيح الفدائي.

ختامًا

ليس الغرض هنا هو التهوين أو الإقلال من شأن الألم والخزي وعقوبة الموت اللذين تحملهم الرب يسوع. إطلاقًا. فقد تحمل لعنة الناموس بأكملها. وتجرع كأس غضب الله إلى الثمالة. واحتمل أهوال دينونة الموت بكل رعبه. إلا أنه فعل هذه وهو منتصرًا وليس مهزومًا. انتصر على الموت رغمًا عنه ومن خلاله. فبالموت أباد الموت. وبالموت جَرَّد الرياسات. وبالموت نزع شوكة الخطية. وبالموت تمم حكم الناموس آخذًا لعنته. الصليب، إذًا، رغم كونه خزيًا ولعنة ودينونة، إلا أنه غلبة. موت الصليب والقيامة كلاهما إنتصارًا ولكنهما أَنْجَزَا الإنتصار بطريقتين مختلفتين. بالموت هزم الموت، وبالقيامة تم الإعلان والإثبات والتمجيد والتفعيل لتلك النصرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس