لماذا ندافع عن تاريخية الإصحاحات الإحدي عشر الأولي من سفر التكوين؟



نحيا الآن في عالم وصل إلي حالة من النفور العقيدي، فقد عبرت عليه الكثير من الفلسفات الدوجماتية في الثلاثة قرون الأخيرة، مما عمل علي هذا الميل الشديد إلي كل ما هو ذاتي أو شخصاني. حتي وجدنا هذه الحركة تتخلل الكنيسة نفسها. فأضحي المسيحيون أيضا يعافون التعليم الكتابي، ويجعلون من أنفسهم سلطة أعلي من سلطة الكتاب المقدس في تقرير ما هو حق فيه، فتجدهم يرفضون هذا بحجة أنه أسطوري، ويلقون بتلك متعللين بكونها لا تخص مسيحيي القرن الواحد والعشرين. وهكذا ينتقون ما يروق لهم من الحق الكتابي صانعين لأنفسهم عروشا من الشخصانية التي تشخصن الحق الكتابي علي مقاس أهواءهم. ومع صعود الفلسفة الطبعانية التي تنادي بأن الطبيعة هي كل ما هو موجود وأنه ينبغي تفسير كل شئ في إطارها حيث لا يتاح المجال إلي الأمور المتيافيزقية زادت حدة الهجوم علي سفر التكوين لكونه يتعارض مع هذا الفكر المادي الدارويني. إذ أن سفر التكوين يعلمنا بأن الإنسان خُلق علي صورة الله ومثاله في البر وقداسة الحق، بينما تعلم الداروينية بأن البقاء للأقوي وأن الوجود الإنساني ما هو إلا صراعا من أجل البقاء، وأن هذا الأخير (الإنسان) أتي من الطبيعة المجردة التي لا خير فيها ولا شر ومن ثم يصير الحق للبشر أن يشرعوا الأخلاقيات التي تتلاءم مع أطوارهم. ولما كان لذلك تبعات شديدة الخطورة من الناحية الأخلاقية، وجب علينا أن ندافع عن تاريخية وصدق الأصحاحات الأولي من سفر التكوين، لأنها تحوي أساسات كل من الإنجيل المسيحي والقيم الأخلاقية المرتبطة بالأسرة والمجتمع. ناهيك طبعا عن أن ذلك يمس مصداقية شخص المسيح المبارك نفسه لأنه اقتبس من الأصحاحات الإحدي عشر الأولي من سفر التكوين بإعتبارها تأريخا محضا. وهذه بعض الأسباب التي تجعلنا ندافع عن الأصحاحات الأولي من سفر التكوين التي ينكر البعض اليوم تاريخيتها وصدقها.

1- الكتاب المقدس يسقط كله أو يقوم كله لكون مصدره واحد. ليس من المعقول أن يكون جزء من الكتاب المقدس – ولا سيما إصحاحاته الأولي – أسطوري وباقيه تاريخي. لأنه لو كانت البداية أسطورية فماذا نتوقع من باقي الأحداث الكتابية أن تكون؟ كما أنه من غير اللائق منطقيا أن  تكون هناك آيات بعينها وردت في صلب كمة الله أن تحوي أشياء غير دقيقة تاريخيا أو علميا. لأن ذلك يشكك في المصدر الأصلي الذي جاءت منه كلمة الله. فلو لم يستطع الروح القدس أن يعصم كتبة الوحي من الخطأ بخصوص الحقائق العلمية والتاريخية، فما الذي يضمن لنا عصمة الوحي فيما يتعلق بالأمور الروحية الإيمانية؟ وكتبة الوحي أنفسهم يشهدون بذلك، فمثلا يقول داود "ناموس الرب كامل" (مز 19 : 7) فلو لم يكن الكتاب المقدس دقيق علميا أو تاريخيا لما كان كاملا. ويقول أيضا سفر المزامير "أعمال يديه أمانة وحق. كل وصاياه أمينة" ، ولفظة "وصايا" في هذه الآية الأخيرة والتي تنطق (piqqûd) ترد دائما في صيغة الجمع في الأصل العبري، وهي تشير إلي كلمة الله في مجموعها. أما عن قوله أنها "أمينة" فقد جاءت في الأصل العبري "أمين" وجاءت هذه اللفظة في ترجمة الملك جيمز (Sure). ونفس هذه الكلمة أيضا جاءت في الأصل العبري لتعني "يتحقق" (تك 42 : 20 ، 1 مل 8 : 26 ، 2 أخ 6 : 17)، فإذا فالمعني أيضا يشتمل علي كون "الوصايا" أمورا حقيقية وليست أسطورية أو مصطنعة. وبولس الرسول يشهد بذلك إذ يقول "كل الكتاب هو موحي به من الله"، ولو كانت هناك بعض آياته أو اصحاحاته غير موحي بها فهذا يشكك في مصداقية العهد الجديد، أما لو كانت موحي بها ولكنها خائطة في بعض أجزاءها فالله يصبح غير أمين وغير صادق.

وبطرس الرسول أيضا يصرح "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت الذين تفعلون حسنا إن انتبهتم إليها كما إلي سراج منير في موضع مظلم إلي أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم. عالمين هذا أولا أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسين مسوقين بالروح القدس" (2 بط 1 : 21). وليس فقط أن القول بغير ذلك يطعن في مصداقية مصدر الوحي بل يطعن أيضا في مصداقية الناقلين له. لأن كل كتبة الوحي واليهود الذين حفظوا ونسخوه عبر الأجيال قد "أستأمنوا عليه" (رو 3 : 2)، فلم لو يكن كتبة الوحي يصدقون كل ما يكتبونه علي أنه أحداث تاريخية وأمور حقيقية فهم غير صادقين فيما كتبوه ومن ثم يطعن ذلك في مصداقية كل ما كتبوه. والدليل علي صدق ما نقول، هو أن اليهود أنفسهم كانوا يؤمنون بالخليقة التي تمت في ستة أيام حرفية كأيام الأسبوع وأنهم يقدسون يوم السبت لأن الرب استراح فيه من جميع عمل الخليقة الذي عمله.

2- والسبب الثاني الذي يجعلنا ندافع عن تاريخية الأصحاحات الإحدي عشر الأولي من التكوين هو أن التعاليم الكتابية كلها نسيجا واحدا مع التاريخ. فالعهد الجديد يعلمنا أن المسيح هو آدم الثاني الذي جاء لكي يحقق ما أخفق فيه آدم الأول، ويعيد إليه علاقته مع الله، ويرد إليه صورة الله التي خلق عليها، وينقذه من الموت الذي حل به به بسبب خطيته. فإن كان العهد الجديد هنا يضع عمل المسيح كحدث تاريخي في المقابلة مع حدث تاريخي آخر ألا وهو سقوط آدم وفقدانه لحالة الشركة وتشوه صورة الله فيه واستحقاقه للموت والدينونة، فكيف لنا إذا أن نشكك في تاريخية الأصحاحات الأولي من سفر التكوين؟ فعمل المسيح هو الله مقتحما التاريخ البشري ليعالج به أمرا تاريخيا حقيقيا حدث للبشرية عند سقوطها في آدم. مثال آخر علي كون العقيدة مرتبطة بالتاريخ تمام الإرتباط: عندما نقول أن المسيح مات فهذا هو التاريخ، أما العقيدة فهي أن المسيح مات لأجلنا لكي يحمل عنا خطايانا ويبررنا أمام الله. وعندما كان الرب يسوع المسيح يناقش اليهود كان يلجأ إلي سفر التكوين لكي يؤسس عليه عقائده: فمثلا قوله أن الزواج رباط أبدي بين رجل واحد وإمرأة واحدة يرجع إلي كونهما خُلقا علي هذه الحالة، أي رجلا واحدا لإمرأة واحدة مدي الحياة "لأنه من البدء خلقهما ذكرا وأنثي". وفي رده ايضا علي اليهود الذين جاءوا ليجربوه سائلين إياه إذا كان يحق أن يُعطي جزية لقيصر قال لهم الرب يسوع "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" فصورة قيصر علي العملة لأنه صانعها، وصورة الله في البشر لأنه خالقهم. وليس ذلك فقط بل إن الوصايا الأدبية والأخلاقية تؤسس أيضا علي التاريخ الكتابي، فعندما جاع تلاميذ المسيح وابتدوأ يقطفون سنابل ويأكلونها في يوم السبت، فاعترض الفريسيون علي انتهاك التلاميذ للسبت، فقال لهم الرب يسوع "أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه؟ كيف دخل إلي بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين معه بل للكهنة فقط" (مت 12 : 3)، فقد قام الرب هنا بتبرير أخلاقيات معينة بناء علي تاريخ حقيقي حدث بالفعل. إذا فحتي الوصايا الأدبية تجد أساسها في التاريخ الكتابي.

3- إلي جوار ذلك يتحتم علينا الوقوف إلي جوار الحق الكتابي ولا سيما تاريخية سفر التكوين لإرتباط ذلك بمصداقية شخص المسيح نفسه – له كل المجد. الرب يسوع المسيح كان دائم الرجوع للعهد القديم والإقتباس منه. ومن بين الكثير من الإقتبساسات من الإحدي عشر أصحاحا الأولي من سفر التكوين يرد حوالي ستة عشر منها علي لسان الرب يسوع المسيح. فقد تكلم عن الخلق بإعتباره حدثا تاريخيا حقيقيا كما رأينا أعلاه (مت 19 : 4). وتكلم عن قتل هابيل الصديق بإعتباره أمرا حدث بالفعل وضعه إياه جوار حدث تاريخي آخر  "لكي يطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء المهرق منذ إنشاء العالم، من دم هابيل إلي دم زكريا. الذي أهلك بين المذبح والبيت" (لو 11 : 50 – 51). وقد جاء ذكر زكريا في (2أخ 24: 21). وسفر أخبار الأيام الثاني كان يعد السفر الأخير بحسب الترتيب اليهودي لأسفار العهد القديم. وبذلك يكون الرب قد وضع سفر التكوين، السفر التاريخي الأول في مضاهاة مع سفر أخبار أيام الثاني وهو السفر التاريخي الأخير في العهد القديم، فالإثنان سفران تاريخيان أشخاصهما جميعا بنفس التاريخية. أيضا في مت (24 : 37 – 39) يعمل الرب مقارنة بين الحالة الروحية والأدبية لجيل نوح المتمثلة في انغماس الناس في الأمور الأرضية وانصرافهم عن الأمور السماوية وعدم تصديق تحذيرات الدينونة، وبين تلك الحالة التي سيكون عليها الجيل الذي سيشهد مجئيه "وكما كانت أيام نوح كذلك يكون أيضا مجئ ابن الإنسان. لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون، إلي اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتي جاء الطوفان، كذلك يكون أيضا مجئ ابن الإنسان" (مت 24 : 37 -39). والرب هنا يشير إلي: أولا تاريخية نوح عن طريق القول "أيام نوح" بإعتبارها أياما محددة شهدتها الأرض. ثانيا عالمية الطوفان بقياس عالمية الدينونة عليه، لأنه لو كان الطوفان محليا واستطاعة المخلوقات أن تنجو من مكان الدينونة عن طريق الهروب إلي مكان آخر ليس به طوفان فهذا ما يستطيع فعله الأشرار أيضا في آخر اليوم والهروب من الدينونة المحلية للمسيح. ولو كانت قصة نوح أسطورية فكيف يقيس الرب حدث مجيئه الحقيقي علي طوفان نوح الأسطوري؟ وهل يمكن للأسطورة أن تستخدم للتحذير من الدينونة الأكيدة الآتية علي العالم؟ لاشك أن كلام المسيح يفقد جديته ومصداقيته ومنطقيته لو كان الطوفان مجرد خرافة، لأنه لو كان أسطوريا لكان مجئ الرب للدينونة أيضا أسطوريا.

4- وأخيرا وليس آخرا لأن السلطة في تحديد الحق هي كلمة الله نفسها وليس أن الإنسان يحدد ما هو حق فيها مما هو أسطوري. لو تركنا البشر يحددون ما هو حقيقي وما هو أسطوري في كلمة الله، سيكون من المنطقي لهم أيضا تبعا لذلك تقرير ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي بخصوص الأخلاقيات. ولا سيما أن الأصحاحات الأولي من سفر التكوين تمس جزءا خطيرا من التعاليم الخاصة ببعض الوصايا الأدبية، مثل الزواج من ذكر واحد لأنثي واحد مدي الحياة. فالنتيجة المنطقية لخلق الله أنثي واحدة لذكر واحد يلتصقان إلي الأبد ببعضهما البعض، هو أن الطلاق شئ مرفوض، وأن تعدد الزوجات أو الأزواج شئ ليس بحسب مشيئة الله، والزواج بين رجلين أو إمرأتين هو شذوذ يدينه الرب. أما لو اعتبرنا الأصحاحات الإحدي عشر الأولي أساطيرا وليست تاريخا لضاع الأساس الذي تؤسس عليه الأسرة كما أرادها الله أن تكون. بل والترتيب الكنسي أيضا يجد جذوره في سفر التكوين. فعندما علم بولس عدم إمكانية تعليم المرأة في الكنيسة رد ذلك إلي حدثي الخليقة والسقوط، فآدم خلق أولا ثم حواء، وحواء أغويت أولا، وهكذا ينبغي أن لا تعلم المرأة الرجل في الكنيسة (1 تي 2 : 14). وهذا ما يحارب من أجله الملحدين، فهم يتذرعون بالعلم لرفض الله لكي يبرروا لأنفسهم الفساد الأخلاقي من شذوذ جنسي وعلاقات جنسية متعددة وزواج يسهل إنحلاله بالطلاق لأي سبب. فالتعاليم الكتابية لا يتم إنكارها إلا من أجل إباحة شئ بعينه. فمثلا يقول كاتب المزامير "قال الجاهل في قلبه ليس إله" ثم في الكلمات التالية لذلك يخبرنا بأن هؤلاء الجهال "فسدوا ورجسوا بأفعالهم. ليس من يعمل صلاحا" (مز 14 : 1). وعلي مر الوقت فإن إنكار التاريخ الفدائي والإلهي دائما وأبدا ما يتبعه فسادا أخلاقيا، إذ يقول سفر الخروج أنه عندما أبطئ موسي علي الجبل ولم يعلم بني إسرائيل ماذا أصابه عمل هارون لهم عجلا مسبوكا ثم "قالوا هذه الهتك يا اسرائيل التي اصعدتك من ارض مصر" فهذا هو التاريخ الذي أنكروه، أما الغرض من إنكارهم للتاريخ واستبدالهم عبادة يهوة بعبادة العجل المصري هو أنهم أرادوا أن يفعلوا مثل رجاسات المصرين، فنقرأ في الأعداد التالية "وجلس الشعب للاكل والشرب ثم قاموا للعب"، فالمقصود بالأكل هو النهم فيه، والمقصود بالشرب هو السكر والعربدة، أما اللعب فهو النجاسات الجنسية التي انغمسوا فيها، فكلمة لعب العبرية هي نفس اللفظة التي استخدمت في قول إمرأة فوطيفار عن يوسف "أتيت إلينا برجل عبراني ليداعبنا".

لا شك أنه توجد أسباب أخري تجعلنا ندافع عن تاريخية الاصحاحات الإحدي عشر الأولي من التكوين، مثل شهادة العهد الجديد في مواضع كثيرة منه لذلك، وإيمان الكنيسة عبر العصور بتاريخية سفر التكوين بأكمله. إلا أننا سنتوقف عند ما أوردناه هنا لأنه فيه كل الكفاية لمن له آذان للسمع.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس