إجابات علي كتاب "أسئلة في العهد القديم" (15)


إِجابة 15:

معنى "البدء" الذي قصده الرب يسوع المسيح في تعليمه عن الطلاق




يذكر د.أ. في متن كتابه (ص 109) أن لفظة "من البدء" التي ذكرها الرب في قرينة حديثه عن الطلاق (مت 19 : 4 ، مر 10 : 6) لا تشير بالضرورة إلى زمن تاريخي بل إلى الفطرة التي كان عليها آدم وحواء قبل سقوطهما. أي أنه يقصد بها حالتهم الأولى قبل السقوط. ويضيف إلى ذلك قوله في حاشية الكتاب في نفس الصفحة أن البدء يشير إلى الصورة الإلهية التي خلق الله الإنسان عليها والتي لا تظهر إلا في يسوع المسيح وفي أبناء الملكوت الذين يتصور فيهم شخص المسيح. وطبعا بإدعائه هذا فإنه ينكر المعنى البسيط والمباشر من قول الرب يسوع أنه من بدء الخليقة كان هناك زوجا بشريا واحدا مكونا من ذكرا بشريا واحدا وأنثى بشرية واحدة: "ولكن من بدء الخليقة، ذكرا وأنثي خلقهما الله" (مر 10 : 6). وذلك لأن قول الرب يدحض فرضية التطور التي تقول أن الإنسان جاء في المليون الأخير منذ نشأة الكون والتي حدثت من حوالي أربعة عشر مليار سنة. أي أن الفارق الزمني – طبقا للداروينية – بين ظهور الكون ومجيء الإنسان هو مليارات السنين. ومن ثم فلا بديل أمام د.أ. سوى تأويل كلام الرب يسوع المسيح لاستيعاب فرضية داروين وملايين السنين. ولكن مرة أخرى نجد د. أ. هنا يلوي عنق النص والقرينة الكتابية لكي يقحم على كلمات الرب يسوع المسيح فكرة الأزمنة السحيقة وبالتالي التطور. وللرد على ذلك نقول:

أولا: الحديث هنا ليس عن حالة الإنسان قبل السقوط، ولا عن الصورة الإلهية التي فيه، ولكن الأمر يخص الخطة الأصلية التي قصدها الله عند الخلق، بخلقه ذكرا واحد لأنثى واحدة لا ينبغي أن يفرقهما شيء، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان. إن كلام الرب يسوع المسيح يشير إلى النظام الذي أرساه الله في خليقته عند خلقها. وبينما نجد أن الله خلق ذكور وإناث في مملكة الحيوان، إلا أننا نجده يخلق ذكرا واحدا، ثم يخلق له أنثى واحدة.
ثانيا كان المسيح يستند في حجته على فهم اليهود وقراءتهم للعهد القديم. ولا يمكن أن يكون اليهود الذين كانوا يقدسون كل حرف في الناموس قد اعتقدوا شيئا غير المعنى الحرفي المباشر الذي تشير إليه رواية الخلق في سفر التكوين بأن الله خلق آدم من التراب حرفيا وخلق له حواء زوجته من ضلوعه حرفيا لتكون شريكته مدي العمر. والدليل على ذلك أنه يخاطب فيهم هذا الفهم بقوله "أما قرأتم". بمعنى أنه كان ينبغي لهم أن يكونوا فاهمين هذا الكلام ومؤمنين به فهو حقا أوليا متعلقا بتأسيس الخليقة. يقول تفسير بنسون لإنجيل متى (19 : 4): "يعتقد البعض أن الغرض الرئيسي للفريسيين في طرح السؤال المذكور سابقا على ربنا، هو جعله يتناقض مع موسى. وإذا كان الأمر كذلك، فقد شعروا بخيبة أمل كبيرة، لأنه بدلاً من مناقضته لموسى، فقد فَنَّدَهُمْ بذات كلمات موسى". ويرى هنري أيرونسايد في تفسيره لإنجيل متى نفس الشيء أيضا: "إن السؤال الذي طرحه الفريسيون كان يُقصد به, بشكل واضح, وضع يسوع في موقف تعارض مع ناموس موسى، ولكن في إجابته عليهم أعاد التشريع السينائي أو اللاوي إلى الناموس الأصلي للزواج, والذي كان يجب أن يكون القانون لتلاميذه في المستقبل".

ثالثا: تعبير "منذ بدء الخليقة" يرد في الأصل اليوناني apo de archēs ktiseōs وقد استخدم نفس هذا التعبير في موضعين آخرين من العهد الجديد ليعني "بدء الخليقة". مثل قول المسيح "لأنه يكون في تلك الأيام ضيق لم يكن مثله منذ ابتداء الخليقة التي خلقها الله إلى الآن ولن يكون" (مر 13 : 19)، وأيضا "وقائلين أين هو موعد مجيئه؟ لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باق هكذا من بدء الخليقة" (2 بط 3 : 4). وهذا لا يدل سوى على أن بدء الخليقة تعني البدء المطلق لها وليس الحالة أو الصورة الأصلية التي تظهر في يسوع المسيح طبقا لإدعاء د. أ.

رابعا: لو فرضنا أن لفظة "بدء" تعني "فطرة"، فماذا نفعل بحرف الجر apo المترجم "مِن" والذي يعني في اليونانية "مُنْذُ"؟ الجدير بالذكر أن حرف الجر هذا ترجم في مواضع كثيرة من العهد الجديد بمعنى "منذ"، ونذكر منها على سبيل المثال "لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون" (مت 24 : 21). يقول قاموس LSJ للغة اليونانية القديمة أن كلمة arche اليونانية تأتي بمعني "منذ البدء" في الاستخدام الظرفي مع حروف الجر. وهذا ينطبق على آيتنا هنا. أنظر أيضا نفس هذا التركيب في هذه الآيات (لو 1 : 2  ، أع 26 : 4).

خامسا قول آخر للرب يسوع المسيح يدل على أنه استعمل كلمة "البدء" بمعنى بداية الخليقة التاريخية: وهو أن قتل هابيل كان منذ بدء الخليقة، مما يعني أنه لم ينقضي ملايين السنين أو حتى الآلاف بين مقتل هابيل (الذي كان حادثة تاريخية صرف) وبين تأسيس العالم وخلقه "لكي يطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء المهرق منذ إنشاء العالم. من دم هابيل إلى دم زكريا الذي أهلك بين المذبح والبيت. نعم أقول لكم: إنه يطلب من هذا الجيل" (لو 11 : 50 - 51). مع ملاحظة أن كلمة "عَالَم" جاءت في الأصل اليوناني kosmos وهي تعني "الكون"، مما يثبت أن قتل هابيل كان منذ تأسيس العالم وليس بينهما ملايين السنين كما يدعي مسيحيوا داروين.

سادسا: الاستخدام التاريخي للفظة "آركيه" لا يؤيد صحة كلام د.أ. فلا يوجد في قواميس اللغة اليونانية مثل LSJ أو فهارس الاتفاق Concordance مثل سترونج وثاير ما يدل على أنها استخدمت بمعنى فطرة أو حالة براءة أصلية لدى قدماء اليونان. بل إن قاموس ثاير يقول أن لفة "آركيه" استخدمت منذ هومر فما بعده لتعني "البدء".

وبناء على كل ما سبق فلا قرينة النص ولا المعنى البسيط المباشر ولا استخدام العهد الجديد أو حتى الاستخدام التاريخي لها يمكن أن تشير من قريب أو من بعيد إلى المعنى الذي حاول د.أ. إقحامه على النص. ولهذا فإن قول الرب يسوع المسيح هنا "من البدء خلقهما ذكرا وأنثى" وحده كافيا لتفنيد تلك الفجوة المزعومة بين ظهور الكون منذ 14 مليار سنة تقريبا وبين ظهور الإنسان منذ مليون أو مليوني سنة مضت. وإما تكون نظرية التطور خاطئة، وهي كذلك فعلا، وإما أن يكون الرب يسوع المسيح مخطئا في قوله "من البدء خلقهما ذكرا وأنثى"، وحاشا له أن يكون كذلك. وإن كان الرب يسوع المسيح مخطئا في زعمه عن نشأة الكون (الأرضيات)، فكيف نصدقه فيما يتعلق بالخلاص (السماويات)؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس