هادمين ظنونا (10)

العلماء المسيحيون .. أعمدة العلم التجريبي الحديث

رأينا في المقال السابق كيف أن العلم نشأ في بيئة مسيحية، وأن القفزة التي حققها العلم التجريبي مؤخرا في الثلاثة قرون الأخيرة هي ثمرة من ثمار الإصلاحي البروتستانتي العظيم بترجمته للكتاب المقدس وصعود التفسيرالحرفي له، ورأينا أيضا أن الآباء المؤسسين للعلم التجريبي الحديث كانوا مؤمنين بالله ومسيحيين. ولكن سرعان ما قفزت العلمانية علي النهضة العلمية الحادثة ونسبتها إلي نفسها. فحدث إنشقاق بين الدين والعلم وصار معظم العلماء متشككين في وقت قصير. ولنعزز ما نقول بالأمثلة فقد اخترنا بعض النماذج لعلماء مسيحيين من مختلف أفرع العلم التجريبي، كانوا بمثابة الأعمدة للعلم التجريبي الحديث. لم يكونوا مجرد مؤمنين بالله، لكنهم كانوا مسيحيين أتقياء، وكان بعضهم رجال دين كما سنري.

وقبل أن نشرع في تقديم المثال الأول نود التنويه علي أن  هذه الأمثلة تم إختيارها من كتاب "رجال العلم رجال الله" (1) للبروفيسير هنري م. موريس. فقد قدم العالم الدكتور هنري م. موريس في كتابه عشرات الأمثلة لعلماء من عصري النهضة والتنوير، ما قبل نيوتن وما بعده ، وأنهم صدقوا أحداث الخلق بحسب سفر التكوين ورفضوا فرضية داروين. والدكتور موريس كان أستاذا لقسم الهندسة المدنية بجامعة لويزيانا ثم أصبح رئيسيا لقسم الهندسة المدنية بفريجينيا تك، ومن أشد المدافعين عن التفسر الحرفي لسفر التكوين، وهو واحدا من أهم العلماء والباحثين الكتابيين الذين إنبروا في خدمة الدفاع عن تعليم الخليقة الحرفي في السنوات الأخيرة ، ويلقب بأبو حركة علم الخليقة الحديث. والآن لنبدأ بمجال الفضاء:

يوهانس كيبلر
 Johannes Kepler


يعتبر مؤسس كل من علمي الفيزياء الفضائية وميكانيكا الأجرام السماوية، حيث يرجع إليه الفضل في اكتشاف قوانين حركة الكواكب. وبالإضافة إلي كل ذلك كان مسيحيا جادا حيث درس لمدة سنتين في كلية لاهوت ولم يغادرها إلا رغما عنه لمتابعة دراساته العلمية في مجال الفضاء. وفي خضم أبحاثه واستكشافاته العلمية صرح قائلا أنه في عمله هذا ليس إلا "أنه يفكر أفكار الله علي مثاله" أي أنه انشغل بخليقة الله كما أنشغل بها الله نفسه. وقد كان هذا أيضا شعار كثيرين من العلماء من بعده. ودراساته الفضائية قادته إلي دراسات تأريخية كتابية حيث توصل إلي أن العالم خُلق من حوالي ستة آلاف سنة مضت. وقد ذكر في أحد كتبه "بما أننا نحن علماء الفضاء كهنة لله العلي بالنسبة إلي كتاب الطبيعة، فإنه يليق بنا لا أن نضع نصب أعيننا مجد عقولنا بل قبل كل شئ آخر مجد الله".

وماذا عن الرياضيات؟

بليز باسكال
Blaise Pascal


كان عالما في الرياضيات وهو أبو فرع من العلوم يقال له الهيدروستاتيكا وواحد من الآباء المؤسسين للهيدروديناميكا. واسهاماته العلمية الرياضية لا تحصي من حيث عددها مثل تطوير الباروميتر. وكان فيلسوفا أيضا، ومن اسهاماته الفلسفية اللاهوتية ما يسمي ببرهان باسكال Pascal’s Wager وكان مضمونه هو أن المسيحي لا يمكن أن يخسر في نهاية المطاف. فإذا مات المسيحي وتبين له في النهاية أنه لا يوجد إله وأن إيمانه كان عبثا فهو لم يخسر شيئا ، بل علي العكس فقد ربح حياة أكثر سعادة من غير المؤمنين علي الأرض. أما إذا كان هناك إله وسماء وجحيم فسيكون بذلك الصديق المسيحي قد ربح السماء أما الغير مؤمنين فسيخسرون كل شئ في الجحيم. وبالإضافة إلي ذلك كان له اسهاماته الدينية أيضا مثل كتابه "خواطر". كان عميقا في روحانيته وقائدا لمجموعة تعرف بالينسينية Jansenism وهي طائفة كالفينية شبه بروتستانتية داخل الكنيسة الكاثوليكية.

وهل للكمياء أب مؤسس مسيحي؟

روبرت بويل
Robert Boyle


يعتبر أبو الكيمياء الحديثة، وهو فيزيائي ومخترع أيضا، وإذا ذكر اسمه فإنه غالبا ما يكون بالإرتباط باكتشافه للقوانين الأساسية للعلاقة بين ضغط الغاز وبين كل من درجة الحرارة والحجم (ديناميكا الغازات)، ناهيك عن ما حققه في مجال الطب. كانت انجازاته العلمية والفيزيائية عظيمة من حيث العدد حتي أنه اعتبر أعظم فيزيائي في عصره. وقد كان فيلسوفا طبيعيا وكاتبا لاهوتيا ومن أبرز مفكري القرن السابع عشر. أما بويل المؤمن بالله فكان مسيحيا متواضعا، شاهدا نشطا، ودارسا مجتهدا للكتاب المقدس. كان مهتما بصفة خاصة بالعمل المرسلي وكرس الكثير من ماله لترجمة الكتاب المقدس والكرازة بالإنجيل. كان مدافعا فذا وصنديدا عن المسيحية وكانت "محاضرات بويل" هي ثمار هذا العمل الدفاعي لإثبات صحة الديانة المسيحية.

وماذا عن فرع الأحياء؟

لويس باستير
Louis Pasteur


لا شك أنه من ألمع الأسماء علي الإطلاق في تاريخ العلوم بصفة عامة والطب بصفة رئيسية، وذلك بسبب تأسيسه لنظرية جرثومية المرض وهدمه للمفهوم التطوري الذي كان سائدا في وقتها "التوالد التلقائي". كان أول من فسر الأساس العضوي والتحكم في عملية التخمر وقادته أبحاثه إلي المزيد في مجال البكتريولوجي، فقام بعزل عدد من الكائنات المنتجة للأمراض وطور لها أمصال للقضاء عليها مثل داء الكلب والدفتريا والجمرة الخبيثة جنبا إلي جنب مع أشياء أخري مثل البسترة والتعقيم. فلا يوجد من أسهم أكثر منه بحفظ الحياة الإنسانية حتي أن كثيرون يلقبونه بحق أعظم علماء الأحياء علي الإطلاق.

إلا أنه تعرض أثناء حياته إلي مقاومة شديدة بواسطة المؤسسة البيولوجية بكاملها تقريبا بسبب رفضه لنظرية التولد التلقائي والداروينية. ولكن الفضل لمثابرته واجراءاته الصحيحة اختباريا وتحليليا التي أخيرا أجبرت معظم علماء البيولوجي والطب أن يتخلوا عن قناعاتهم بالأصل الطبيعي للحياة وتعاملهم مع المرض بناء علي هذا المفهوم. كان شديد التدين حتي في شيخوخته وعندما سأل عن إيمانه قال "كلما عرفت أكثر كلما كانت حاجتي إلي الإيمان أكثر".

جريجور مندل
Gregor Mendel


كانت تجاربه الدقيقة التي أجراها علي البسلة في الدير أثناء نسكه شكلت الأساس لفهم توارث الصفات، وهو يلقب بحق أبو علم الجينات. كان راهبا مسيحيا ومؤمنا بتعليم الخليقة في الكتاب المقدس وكان علي دراية تامة بنظرية داروين ولكنه رفضها.

الكثيرين لقبوا إسحق نيوتن بأعظم العلماء علي مر العصور، ماذا عن انجازاته وإيمانه بالله؟

إسحق نيوتن
Isaac Newton


يلقب بحق أعظم العلماء علي مر العصور، انجازاته الضخمة شكلت أساسا صلبا لحدوث الثورة الصناعية والعلمية في القرن الثامن عشر. ومنها اكتشافه للقانون العام للجاذبية الأرضية، صياغة قوانين الحركة الثلاثة التي جعلت الديناميكا وفروعها ممكنة، وتطويره للتفاضل والتكامل إلي أن أصبحا فرعا متكاملا من الرياضيات ولا غني عنه لأي علم آخر. توقع أيضا القانون العظيم لحفظ الطاقة، طور نظرية الذرة لإنتشار الضوء، وكرجل فضاء قام ببناء أول تلسكوب عاكس.

وعن إيمانه فقد كان مسيحيا حقيقيا جادا ومؤمنا مكرسا لكلمة الله. له دراسات كتابية كثيرة حتي أنه يقال أنها فاقت مثيلتها العلمية، وخاصة في موضوع النبوة. وكتب أيضا كتابا مدافعا فيه عن تأريخ الأسقف جيمز أشر بأن عمر الأرض ستة آلاف سنة. وعمل أيضا أبحاثا قوية ضحد فيها الإلحاد ودافع عن تعليم الخليقة في الكتاب المقدس. واعتقد أن معظم الظواهر الجيلوجية ترجع إلي طوفان نوح العالمي، هذا بالإضافة إلي إيمانه بخليقة تمت في ستة أيام حرفية. وقال صراحة "نحن نحسب أن الكتب المقدسة وحدها هي أعظم فلسفة. وأجد الكثير من علامات الصدق الأكيدة في الكتاب المقدس أكثر من أي تاريخ دنيوي آخر"وقال أيضا "هذا النظام الأجمل المكون من الشمس والكواكب والمذنبات لا يمكن إلا وأن يكون ثمار مشورة وسلطان كائن حكيم وقدير .. إنه يبقي للأبد، وهو حاضر في كل مكان، ووجوده الدائم في كل مكان هو أساس الزمان والمكان".

لعل أحدهم يعترض قائلا بأن أولئك العلماء ظهروا قبل نظرية داروين ومن ثم فما كانوا سيظلوا علي إيمانهم هكذا؟

هذا الادعاء عار من الصحة لأن الداروينية (كفكرة) ليست حديثة النشأة بل ترجع جذورها إلي الحضارات المصرية والبابلية واليونانية القديمة كما رأينا، ولكنها فقط لم تُبعث ويصير لها الرواج إلا بعد داروين بسبب المناخ الفكري الذي كان سائدا في أوروبا وقتها. وقد كان هناك من العلماء الغربيين في عصري النهضة والتنوير من تحدث عن التطور كما رأينا، وبالتالي فهؤلاء العلماء كانوا علي دراية جيدة بنظرية التطور حتي قبل أن تظهر في ثوبها الحديث علي يد داروين. ورأينا أيضا علي وجه التحديد أن هناك من العلماء المسيحيين من ضحد فرضية التطور ودافع عن تعليم الخليقة في الكتاب المقدس مثل لويس باستير وجريجور مندل.

ومع أن تلك النماذج العلمية تتحدث عن نفسها بوضوح إلا أننا نستطيع أن ندرج هنا شهادة واحد من العلماء الملحدين فيما يختص بالعلماء المؤمنين بالله:

توماس نيجل الفيلسوف الأمريكي والأستاذ بجامعة نيويورك يقول: من واقع تجربتي، وكوني خاضعًا بشدة لهذا الخوف أقول: أريد أن يكون الإلحاد صحيحا، وأشعر بالقلق من حقيقة أن بعضًا من أكثر الأشخاص، الذين أعرفهم، ذكاءً وعلمًا هم مؤمنون متدينون. ليس فقط أنني لا أؤمن بالله، بل وبصورة طبيعية، آمل أن أكون على صواب في إيماني. هذا ما آمله: ألا يكون هناك إله! لا أريد أن يكون هناك إله، ولا أريد لِلْكَوْن أن يكون كذلك. إن تخميني هو أن مشكلة السلطة الكونية هذه ليست حالة نادرة وأنها مسؤولة عن الكثير من العَلْمَوِيَّة [الاعتقاد بأن العلم يجيب عن كل الأسئلة] والاختزالية في عصرنا. أحد الميول التي يدعمها ذلك هو الإفراط السخيف في استخدام علم الأحياء التطورية لتفسير كل شيء عن الحياة البشرية، بما في ذلك كل شيء عن العقل البشري .... إن هذا وضعا مثيرا للسخرية إلى حد ما .... إنه أمرا غير منطقيا أن يكون المرء متأثرا في معتقداته بأمنية عدم وجود الله كما في أمنية أن الله موجود. (2)

ويعوزنا الوقت للحديث عن كثيرون آخرون من المؤمنين بالله من الآباء المؤسسين للعلم الحديث مثل إسحق بارو وكارلوس لينيوس ولايبنتز وفاراداي وجيمز كلارك ماكسويل. لم يكن هؤلاء مجرد باحثون في مجالات مختلفة من العلم، ولكنهم مكتشفون ومخترعون وواضعوا نظريات وأصحاب فلسفات ومؤسيسين للعلم الحديث. ومن ثم فالظن الذي نريد هدمه هنا هو أنه لكي تكون عالما فعليك أن تنبذ الكتاب المقدس وتضعه جانبا. ولكن كما رأينا فمن أرسي أسس العلم الحديث هم علماء مسيحيين إنطلاقا من إيمانهم بإله الكتاب المقدس. ليس فقط أن مبادئ العلم التجريبي الحديث وفروع العلم المختلفة نبتت من ثمرة الإيمان وتررعت في بيئة إيمانية كتابية بل أيضا أن من قام بالبحث العلمي وأرسي مبادئه وطوره هم الكثير من العلماء المسيحيين الذين صدقوا ودافعوا عن تعليم الخليقة في الكتاب المقدس.



(1) Men of God Men of Science by Dr. Henry M. Morris
(2) 
Nagel, Thomas, The Last Word, pp. 130–131, Oxford University Press, 1997




تعليقات

  1. مقالة روعة بجد يا حبيبي سامي، وسهلة وسلسة جدا، برافو عليك.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس