أريد فاطهر


انتفض من مكانه .. ثم أخذ يلملم ثيابه الرثيثة التي ثقل وزنها علي جسده الهزيل .. وبعد أن وضع إصبعيه في أذنيه أطلق ساقيه للريح .. متجها صوب المدينة .. فارتفعت الصيحات .. عُد يا مجنون .. عُد أدراجك .. سيضربونك بالعصي .. سيقتونلك .. وسيرفضك النبي ويخرجك خارجا .. ولكنه لم يسمع أي من هذه .. لم يستطع أن يركض كثيرا .. لأنه كان منهك القوي .. فقد أذله المرض وقضي علي البقية الباقية منه .. ولكن لحسن الحظ فقد كانت المسافة التي ابتعدها عنهم كافية لمواراة أصواتهم عن مسامعه .. كان يرسل إلتفاته من عينيه الذابلتين خلفه بين الحين والآخر .. فيلقي عليهم نظرة .. لعلها تكون نظرة الوداع .. إنتصف الطريق بين رفاقه السقماء وبين المحلة .. أخذ يظهر شبح المحلة في الأفق رويدا رويدا .. صار يسير بخطي ثقيلة .. ما هذه الجموع المزدحمة عند سفح الجبل وكأنهم منتظرون حدث ما؟ أطفال وشيوخ ونساء .. البعض محمولون علي أسرة .. ومن هذا الشخص النازل من علي الجبل وبصحبته نفر قليل من الرجال؟ هل هو النبي الذي يصنع المعجزات؟ .. حملت الريح ضجيجهم المتناثر في كل الإتجاهات إلي أذنيه .. أخذ يحدق بهم من بعيد .. بدا منظرهم مرعبا .. ثيابهم نظيفة .. بعض رجالهم أطلقوا لحاهم .. لا يغطون وجوههم .. فاهتزت فيه رباطة جأشه أمام صورهم وأصواتهم .. ليس الأمر سهلا كما كان يظن .. فقد مضي عليه سنين هذا عددها ولم ير أو يسمع شخص غير أبرص .. لم يعتد علي رؤية الأصحاء أو سماعهم منذ زمن بعيد .. علي الجانب الآخر من الجبل تسكن زوجته وأولاده .. هل سيعود ويراهم؟ .. تباطئ سعيه الحثيث .. بدت الجموع أمام ناظريه كأخيلة .. أخيلة الموت .. وصخبهم كعواء مرعب مزق أوصال أذنيه .. لاح منظر السيد وهو ينزل من علي الجبل مثل إطلالة الشمس في كبد السماء .. مهيبا .. قدوسا .. قد انفصل عمن حوله لأنه أعلي منهم .. تحوطه هالات من النور.. وتحيط به جموع البائسين الراغبين في الشفاء .. هل يقترب منه؟  شيئا ما كان يمده بالقوة .. يدفعه رغم تقاعس قدميه .. يحمله رغم تثاقل بدنه .. هل هي الكلمات التي كانت ترن أصداءها "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"؟ أم ملامح النعمة التي ارتسمت علي محياه المنير؟ لم يعد له سيطرة علي جسده الآن .. تدفعه الآمال قُدُمَا .. وتقذفه المخاوف بعيدا كما تقذف الأمواج الجِيَف  .. مع كل خطوة يخطوها نحوه كان وميض الضياء المنبعث منه يزداد شيئا فشيئا .. لم يعد بينه وبين الجمع إلا بضعة أمتار قليلة .. أخذ يجمع في أشلاء نفسه المبعثرة .. وفي ثيابه البالية .. فاستجمع قواه وراح يصرخ .. نجس .. نجس .. أبرص .. أفسحوا له الطريق وابتعدوا عنه .. نَظَرَهُ المخلص .. إنتظره .. ولكنه وقف بعيدا .. غير مستحق .. لم يرد أن يقترب قيد أنملة واحدة .. وهكذا كان شعور الجميع نحوه .. إلا شخص واحد  .. خر علي قدميه لأنه أدرك أن في حضرة الملك المهيب .. ولأن قواة قد خارت .. اللحظات القادمة ستحدد مصيره .. فأقترب منه المخلص .. وانتظره يقول شيئا .. إزداد خفقان قلبه .. وتلعثمت شفتاه المريضتان .. فنطق قائلا "يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني" .. مضت لحظات خيم عليها السكون .. الجميع يراقبونه .. لم يراهم ولكنه كان يشعر بهم .. يحدقون به .. إخترقت نظراتهم الثاقبة جسده العليل .. ولكن عيناه كانتا مثبتتان علي المخلص وحده .. لحيظات عبرت.. ولكنها كانت بطيئة جدا .. إمتزجت فيها المشاعر .. وبدت فيها كل الأشياء بلون واحد .. لون برصه .. شق الصوت العذب مرارة السكون ..  فمد يسوع يده ولمسه قائلا "أريد فأطهر" .. سرت في جسده قشعريرة .. تغير لون جلده .. بل ولون كل شئ من حوله .. سقط منه شيئا .. لم يدر ما هو .. ولم يبصره .. ولكنه شعر به يفارقه .. تركه بلا رجعة .. صرخ صرخة مدوية .. لقد طهرت .. لقد شفيت .. أجهش بالبكاء .. ثم إنحني ليقبل قدمي المخلص .. بللهما بدموعه التي سالت علي وجنتيه المتوردين ..وأخذ يهمهم بصوت جهوري .. لم يفهم أحد ماذا يقول من شدة بكاءه وشهيقه .. ولكن علي ما يبدو أنه كان يشكر المخلص .. نهض من مكانه عائدا .. لا من حيث جاء .. ولكن إلي داخل أسوار المدينة ..إلي أورشليم .. إلي الهيكل ..


"ولما نزل من الجبل تبعته جموع كثيرة. وإذا أبرص قد جاء وسجد له قائلا: يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني. فمد يسوع يده ولمسه قائلا: أريد فأطهر. وللوقت طهر برصه. فقال له يسوع أنظر أن لا تقول لأحد. بل إذهب أر نفسك للكاهن، وقدم القربان الذي أمر به موسي شهادة لهم".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس