أنا ذاهب لأتصيد

كان سبعتهم قد افترشوا الأرض واتخذوها مجلسا لهم .. تتوسطهم طبلية مستديرة منخفضة .. تعلوها بضعة خبزات لم تمسسها يد .. ولا يسمع بينهم صوتا سوي النعيق المتناثر لبعض صغار الغربان التي عششت إحدي الأشجار القريبة من المنزل .. وقد انزوي زعميهم المقدام في أحد الأركان المظلمة من الدار واضعا رأسه بين ركبتيه متحاميا الأنظار .. فلم يزل مكلوم الفؤاد منذ تلك الليلة المشؤومة .. لم تضمد جراحه بعد .. ولا جف ينبوع دموعه من حينها .. وكثيرا ما انتابته نوبات عاتية من النحيب استفاق علي إثرها أهل بيته في منتصف الليل.. فهذه كانت طبيعته .. شديد التأنيب لنفسه ولا يسلي سقطاته بسهولة .. تتقاذفه الأفكار كما تتقاذف اللجج قاربه الصغير في ليلة غير مقمرة   ..كان النسيم الذي يمر من خصاص النوافذ بين الفينة والفينة يحمل إلي منخريه رائحة ملوحة البحر .. مذكرا إياه بماضيه كصياد سمك .. فقد مضي عليه ثلاثة سنين ونيف لم يلق بشبكة في الماء .. ولكن الحال قد تغير الآن .. فلم يعد متيقنا من الوعد القديم أنه سيكون صيادا للناس .. أضحت تخامره الشكوك في هويته ودعوته .. وما زاد الطين بلة هو أن صورته قد اهتزت أمام رفاقه منذ أن أنكر السيد .. فلعله من الأفضل له الآن أن يعود إلي البحر كصياد للسمك .. حتي أنه إذا أخفق في صيد السمك لكان في إستطاعته أن يلوم الأمواج الهائجة أو الريح المضطربة أو الشباك المتخرقة أو حتي السمك نفسه .. كما أنه ليس في حاجة أن يدخل في مواجهة مع السمك عن إنتماءاته العقيدية بخصوص يسوع .. ارتفعت هامته من بين ركبتيه قليلا وأخذ يصارع فكرة الذهاب لصيد السمك .. ولكن قدميه لم تطاوعانه للنهوض .. لأنه أحب اصطياد الناس أكثر جدا من اصطياد السمك .. وجد فيه هويته الحقيقية .. أخفض رأسه ثانية في يأس من أمره .. ظلت رأسه علي هذا الحال صعودا وهبوطا بين ركبتيه في محاولة لتقرير المصير.. لم يطل أمد الصراع طويلا .. فقد حسم عند أول صياح للديك .. فقام من مكانه علي غير رضاه وكأن هناك ما يشده إلي الأرض وقال وهو ممتعض "أنا ذاهب لأتصيد" ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس