نقد المنظور المحدث لبولس


المنظور المحدث لبولس ببساطة هو حركة لاهوتية ترى أن المصلحون البروتستانت فهموا بولس بصورة خاطئة. هذا الفهم الخاطىء كان سببه الإحساس بالذنب الذي أثقل كل من أغسطينوس، ثم مارتن لوثر، فأدى إلى هذا الشعور بالذنب إلى قراءة خاطئة لبولس. وهذا الفهم الخاطىء لبولس، بحسب ما يدعيه أنصار م.م.ب (المنظور المحدث لبولس) يتلخص في سوء فهم ثلاثة أمور. الأول متعلق باليهودية التي كانت سائدة في وقت بولس. فهي لم تكن يهودية تعلّم بالخلاص بالأعمال الصالحة، كما توهم المصلحون البروتستانت. بل قائمة على ما أسماه أصحاب هذا المنظور بـ الناموسية العهدية Covnenant Nomism ، والتي تعني أن اليهود دخلوا في علاقة عهدية مع الله، بالنعمة أو اختيار الله المنعم لهم (وفي نفس الوقت إختيار على أساس الأمانة التي سيبديها المختارون)، لكن كان عليهم البقاء في هذا الامتياز بأعمال الناموس. يضع أنصار م.م.ب هذه اليهودية في مقابلة مع اليهودية التي افترض المصلحون أن بولس كان يقاومها لدى خصومه.

سوء الفهم الثاني متعلق بأعمال الناموس. إن كان هذا ما تعلّم به اليهودية في وقت بولس (والتي تُعْرَف بـ يهودية الهيكل الثاني)، فإن أعمال الناموس التي رفضها بولس كإمكانية للتبرير، لم تكن محاولات للتبرير ذاتيًا بصفة عامة، أو الأعمال البشرية الصالحة. بل كانت ما أسماه م.م.ب. بـ "علامات القومية اليهودية". مثل الختان، وحفظ السبت والأعياد، ومبادىء الطهارة الغذائية. بكلمات أخرى، حَصَرَ م.م.ب. أعمال الناموس في الناموس الطقسي فقط، أو في تلك الممارسات التي ميزت اليهود كعرق. وليس في محاولات اليهودي للصلاح بصفة عامة.

الأمر الثالث الذي أُسىءَ فهمه بواسطة المصلحون البروتستانت، كان هو تعليم التبرير الذي ينادي به بولس. وهذه الجزئية تنبع تلقائيًا من النقطتين السابقتين. إن كانت اليهودية في أيام بولس لا تعلّم بالخلاص بالأعمال، بل قائمة على الناموسية العهدية (أو الأمانة العهدية)، وإن كان ما قصده بولس من أعمال الناموس هو تلك الممارسات التي مارسها اليهود فقط فيما يتعلق بهم كجماعة قومية أو إثنية، إذًا، فما قصده بولس من التبرير بالإيمان غير متعلق بالمركز القضائي للفرد أمام الله. وليس هو البر الاحتسابي الذي يُحْسَبُ بمقتضاه بر المسيح وطاعته الشخصية إلى حساب الخاطيء. بل هو إعلان الفرد ضمن جماعة الله العهدية. أي طالما أن التعليم الخاطيء الذي كان يحاربه بولس هو عدم فرض اليهود قوميتهم على الأمم (والمتمثلة في ممارسة في الختان ومبادىء الطهارة الطقسية والسبت) لكي يصبحوا ضمن شعب الله (الكنيسة)، إذًا فالتبرير هو أن يُشْمَلُ الأمم في الجماعة العهدية، وأن تكون تلك الجماعة العهدية واحدة بدون فوارق عرقية.

الكثير من لاهوتيي العهد الجديد في الغرب، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، يقولون أننا نعيش في عصر ما بعد المنظور المحدث لبولس. الأمر الذي يعني أن هذه الحركة لم يعد لها قاعدة شعبية كبيرة في الغرب كما كان الحال سابقًا. إلا أنها لم تزل موجودة. وبإعتباري متابع لوضع البروتستانتية القبطية، أرى أن هذه الحركة تنمو في مصر، وإن كان نجمها قد أخذ في الأفول منذ عقود في الكنيسة الغربية. والسبب في ذلك هو أن هناك الكثير من الحبر الإنجيلي المصلح قد سُكب بواسطة اللاهوتيون المصلحون في الغرب في تفنيد هذه الهرطقة السوتيريولوجية. وقد أخذت على عاتقي أن يكون هذا المقال النقدي محاولة شرقية في تفنيد م.م.ب. بالإستعانة بالقلم الغربي المصلح في هذا المضمار.

ثمة ملاحظتان قبل أن تناول الموضوع بالنقد. الأولى هي أنه رغم إختلاف أنصار م.م.ب. حول مفهومهم للتبرير، إلا أنهم يتفقون فيما بينهم حول مفهوم "الناموسية العهدية". فهي بالحري جوهر فكرهم. وكما رأينا فإن الناموسية العهدية تعني أن إسرائيل، وهكذا مؤمني العهد الجديد، دخلوا في جماعة الله العهدية بالنعمة، أو بالإختيار، لكنهم عليهم ممارسة الصلاح والبر للبقاء في تلك العلاقة العهدية. لهذا فلن نتناول تعريفات أنصار المنظور المحدث للتبرير، فهي مختلفة، ولكن سنركز على هذا المفهوم للناموسية العهدية، وعلى الدفاع عن التبرير القضائي والبر المحتسب، مع أخذ ما قاله إن. تي. رايت عن التبرير كالنموذج الأكثر شيوعًا. الملاحظة الثانية، يُنكر أصحاب م.م.ب. أية قيمة لما يُسمى في اللاهوت المصلح بـ "الطاعة الإيجابية للمسيح" active obedience . وهي أن المسيح أطاع الناموس نيابة عنا، وحُسِبَت لنا طاعته. بالإتساق مع ذلك هم ينكرون أيضًا كل من التبرير القضائي والبر الإحتسابي. أو بالحري يعيدون تعريف هذه الأشياء. وهذا يعني أنه رغم وجود مفاهيم متنوعه للتبرير لدى م.م.ب. إلا أنهم يتفقون فيما بينهم على رفض التبرير القضائي والإحتساب والطاعة الإيجابية للمسيح.

المنظور المحدث لبولس خرق صريح لمبدأي الإصلاح البروتستانتي: التشكيلي والجوهري

ما نقصده بالمبدأ التشكلي هو سولا سكيرتبورا (الكتاب وحده). ويُسمى بالمبدأ التشكيلي لأن كل شىء آخر في حركة الإصلاح البروتستانتي تشكل بواسطة إعلاء الكتاب المقدس كالسلطة الوحيدة المعصومة للحق المسيحي. والمبدأ الجوهري هو سولا فيديه (الإيمان وحده). وسمي بالمبدأ الجوهري لأنه المبدأ الذي يُعتبر جوهر حركة الإصلاح. فالتبرير من خلال وسائطية الإيمان وحده، بالنعمة وحدها، على أساس عمل المسيح وحده، هو المبدأ الذي تقوم أو تسقط عليه الكنيسة كما قال لوثر، وهو المحور الذي يدور عليه الحق المسيحي كما رَأَىَ كالفن.

إلا أن م.م.ب. يضرب بهذين المبدأين عرض الحائط. فالبنسبة للأول، الكتاب وحده، فإن اعتماد م.م.ب. على مصادر خارج كتابية extra-biblical والتي هي كتابات يهودية الهيكل الثاني، بحجة أنها تشكل الخلفية لفهم التبرير لدى بولس (من خلال فهم مَن كان يخاطبهم بولس)، ليس فقط قام بإعلاء مصادر معرفية خارج كتابية على الكتاب المقدس، بل استثنى أيضًا العهد الجديد نفسه كوثيقة تاريخية لفهم يهودية الهيكل الثاني. وبهذا فهو قد وقع في خطئين فيما يتعلق بمنهجيته (الميثودولجي) في معالجة التبرير لدى بولس. الخطأ الأول هو الافتراض الخفي بعدم كفاية ووضوح العهد الجديد لفهم عقيدة التبرير (وإلا فما الحاجة لكتابات يهودية الهيكل الثاني؟). والثاني هو عدم معاملة العهد الجديد حتى كمجرد وثيقة تاريخية مثله في ذلك مثل كتابات يهودية الهيكل الثاني. وهذا يدل على الإجحاف الشديد والتحيز الواضح ضد الكتاب المقدس. ولا عجب في ذلك فالمنظور المحدث لبولس هو وليد حركة النقد التاريخي الشكوكية التي لم يؤمن مؤسسوها بعصمة الكتاب المقدس بل وبعضهم أنكر ألوهية المسيح (مثل جيمز دون)، والبعض تشكك في وجود الله من الأساس (طبقًا لما ذكره د. روبرت كارا)، وبعضهم لم يزل يرفض نسبة سبعة من رسائل بولس إليه.

صحيح أن التفسير يأخذ في الإعتبار كل من هوية الكاتب، والجمهور المُخَاطَب، والوثيقة. إلا أن المركزية، تظل للنص أو الوثيقة. سولا سكريبتورا ليست ضد الإستعانة بمصادر خارجية. لكنها ضد إعلاء أي مصدر خارجي واستخدامه بطريقة ماجيستيرية كالحكم أو القاضي على ما يقوله الكتاب المقدس.

وفيما يتعلق بنشأة م.م.ب.، فقد نشأ في بيئة الشكوك الخصبة للنقد التاريخي، وهو الامتداد المنطقي لمسألة تاريخية آدم، والبحث عن يسوع التاريخي، الأمر الذي استدعى بالضرورة معرفة حقيقة ما قصده بولس. يقول أستاذ العهد الجديد ديفيد فارنيل:

"ينبغي التأكيد على أن المنظور المحدث لبولس هو الثمرة المباشرة لأيديولوجيات النقد التاريخي. نفس الأيديولوجيات التي دمرت وجهات النظر القويمة حول الوحي وموثوقية الكتب المقدسة هي التي تمخضت بالمنظور المحدث لبولس. شكك النقاد التاريخيون أولاً في وحي الأناجيل وسلامتها ثم توجهوا بنفس الغرض نحو رسائل بولس. أدى بحث النقد التاريخي عن 'يسوع التاريخي' إلى 'البحث عن بولس الحقيقي'. على الرغم من أن العديد من النقاد التاريخيين كان لهم إسميًا منظور مصلح لرسائل بولس، إلا أن عملهم كان بمثابة بيئة خصبة لإلتقاء الأيديولوجيات التي ظهرت في النصف الأخير من القرن العشرين مثل المنظور المحدث لبولس. للأسف، لم يقدم النقد التاريخي السبيل الوحيد لإنتاج المفاهيم غير القويمة لـ 'يسوع التاريخي' ولكن أيضًا المفهوم غير القويم لـ 'بولس التاريخي'، وهو بولس لا يربطه بالرسائل التي كتبها إلا القليل. لدى المنظور المحدث لبولس، يسود إقحام أفكار من خارج النص الكتابي عليه، وليس تفسير النص نفسه". [1]

يؤكد هذا الأمر أيضًا أحد كبار نقاد حركة المنظور المحدث لبولس د. روبرت كارا:

"من الشائع أن نقول إنه لا يوجد منظور محدث واحد لبولس، ولكن هناك العديد من المناظير المحدثة لبولس ... لقد كانت دائمًا حركة ‏فضفاضة تحتوي على افتراضات وأهداف وطرق ونتائج شديدة التباين لدى أنصار م.م.ب. على سبيل المثال، يختلف أنصار م.م.ب ‏حول (ما يسمونه بـ ) الأسفار القانونية الثانية لبولس (يتشككون في نسبة بعض الرسائل القانونية لبولس: تسالونيكي الثانية، كولوسي، أفسس، رسالتا تيموثاوس، تيطس)، والوحي الكتابي، و 'بر الله'، والدقة ‏التاريخية للعهد الجديد، والتأكيد على الجانب القضائي أو الجانب الإختباري (من الخلاص)، وأهمية التبرير، واتساق بولس، ومسألة ‏إسرائيل و'السبي'، والتضاد الذي يقصده بولس بين المسيح وقيصر، وهل الله موجود أصلاً (!)، إلخ".‏ [2]

إن عدم الالتزام بالمبدأ التشكيلي للإصلاح البروتستانتي (سولا سكريبتورا) يؤدي في الغالب، إن لم يكن في كل الحالات، إلى تقويض المبدأ الجوهري (سولا فيديه). وهذا بالضبط الحال مع م.م.ب. إن سمة مميزة لأصحاب هذا المذهب هي أنهم اتفقوا على رفضهم للحق الكتابي للتبرير بالإيمان وحده، بينما يختلفون فيما بينهم على ماهية التبرير. يقول أيضًا د. روبرت كارا:

"أخيرًا، ماذا يعني التبرير بالإيمان في الواقع؟ م.م.ب. واضح وموحد بشأن ما لا يعنيه التبرير. ومع ذلك، فإن م.م.ب. غير واضح وغير موحد بشأن ما يعنيه التبرير بالفعل. هل التبرير قضائي؟ هل هو تجديدي؟ هل هو علاقاتي؟ هل هو متعلق بالعهد؟ متى يتم التبرير؟ ما علاقته بـ 'بر الله'؟ هل يتعلق بالانضمام إلى جماعة العهد (عقيدة الخلاص) أم هو تأكيد على أن المرء موجود بالفعل في الجماعة (عقيدة الكنيسة)؟ هل هو مهم؟ هناك العديد من إجابات المختلفة التي يقدمها الـ م.م.ب. على هذه الأسئلة". [3]

بالاتساق مع ذلك، يؤكد مكارثر أيضًا في مقطع صوتي من أحد عظاته غموض أصحاب هذا التعليم:

"لقد كتب إن تي رايت مئات الصفحات. وأنا قرأت ما كتبه. وكتاباتة كتلة من الغموض والتشويش والتناقض والتعتيم. خفة يد أكاديمية. ‏وبعد قراءتي لمئات الصفحات التي كتبها، لا أستطيع أن أخبرك ما يؤمن به. ولكن أستطيع بكل دقة إخبارك بما لا يؤمن به. المرة ‏الوحيدة التي يكون فيها واضحًا هي عندما يؤكد علينا رايت ما لا يؤمن به". ‏

ثم يقتبس له مكارثر نصوص يقول فيها أن البدلية العقابية وثنية. ونصوص أخرى بها هجوم على التبرير القضائي الاحتسابي. وكل ‏هذا لكي يثبت مكارثر أنه واضح جدًا فيما يرفضه، لكن غامض فيما يقصده أو في البديل الذي يقدمه لهذه التعاليم الكتابية والإنجيلية ‏الجوهرية.‏

المنظور المحدث لبولس يخلط بين السوتيريولوجي والإكليزيولوجي

ما من شك أن هناك فائدة يمكن أن نجنيها من أي تعليم غير كتابي. إحداها هو أن التعليم الكاذب يرسلنا إلى كلمة الله من جديد للتعلم منها مرة أخرى لكي نصبح قادرين على مواجهته. كما أن المعلمون الكذبة غالبًا ما يأخذون جوانب ثانوية لإعلاءها فوق الجوانب الجوهرية للحق. هذا التركيز من جانب المعلمين الكذبة على أحد الجوانب الثانوية للحق المسيحي لإختزالها فيها، ممكن أن يفيدنا في اكتشاف جوانب مهملة من الحق. والمنظور المحدث لبولس هو مثال على ذلك. ليس فقط في كونه دفعنا للعودة إلى كلمة الله مرة أخرى، بل في اهتمامه بإبراز مشكلة التهود كعامل سبب الإنشقاق في صفوف الكنيسة. إلا أن علامات القومية اليهودية، كانت فقط بعدًا ثانويًا للقضية المركزية التي كان ينقاشها بولس، ألا وهي التبرير بالإيمان بدون أعمال الناموس. صحيح أن أعمال الناموس تشمل الأعمال الطقسية، إلا أن ما فعله م.م.ب. هو أنهم جعلوا البعد الطقسي هو البعد الوحيد للقضية، أو على الأقل البعد الرئيسي لها. لكن طبقًا لكلمات اللاهوتي دوجلاس موو (نقلاً عن كارسون)، فإن إن تي رايت، كواحد من الزعماء الثلاثة الكبار لحركة المنظور المحدث (وأكثرهم شعبية)، يضع في الخلفية ما يضعه العهد الجديد في الطليعة، ويُحضر إلى الطليعة ما يحيله العهد الجديد إلى الخلفية. أو طبقًا لما قاله مكاثر أيضًا في مقطع صوتي ينقد فيه إن تي رايت، أن هذا الأخير يمارس خفة اليد الأكاديمية.

وهذا الأمر بدوره يثير مسألة مهمة في إطار نقدنا للمنظور المحدث لبولس. ألا وهي أن م.م.ب. خَلَطَ بين السوتيريولوجي والإكليزيولوجي. صحيح أن مشكلة التهود وعدم قبول المسيحيين من خلفية يهودية للمهتدين من الأمم إلا بعد اختتانهم كانت موجودة كعنصر في خلفية الخصومة التي كانت بين بولس والمعلمين الكذبة من المتهودين، إلا أنها لم تكن المشكلة الرئيسية لدى بولس. مشكلة بولس الرئيسية كانت هي محاولة التبرر بالأعمال الصالحة، والتي كان من بينها أعمال الناموس الطقسية والاختتان. طبقًا لكلمات إن تي رايت:

"لم يكن 'التبرير' في القرن الأول يتعلق بكيفية إقامة شخص ما علاقة مع الله. كان الأمر يتعلق بتعريف الله الأخروي (الإسخاطولوجي)، للمستقبل والحاضر، لمن كان، في الواقع ، عضوًا في شعبه. وطبقًا لوصف ساندرز للأمر، لم يكن التبرير متعلقًا بـ 'الدخول' أو في الواقع 'البقاء'، بقدر ما يتعلق بـ 'كيف يمكنك معرفة من كان موجودًا'. طبقًا للغة اللاهوتية المسيحية القياسية، لم يكن الأمر يتعلق بالسوتيريولوجي بقدر ما كان يتعلق بالإكليزيولوجي، أي ليس عن عقيدة الخلاص بقدر ما يتعلق بالتعليم عن الكنيسة". [4]

بحسب إن تي رايت إذًا، التبرير لا يتعلق بالإنجيل، أو الموقف القضائي الفردي لكل إنسان أمام الله، بل بكلمات بسيطة، هو تعليم يخص عضوية الكنيسة، إن جاز لنا أن نستعمل هذا التعبير. من تبرر ليس من أُعْلِنَ بارًا أمام الله بناء على بر المسيح الشخصي المُحْتَسَب له، بل هو من صار عضوًا في الجماعة العهدية للرب. الأمثر المثير للدهشة في أمر م.م.ب. هو أنهم لا يجدون غضاضة في الاعتراف بتحويل عنصر جوهري في الخلاص، والذي هو التبرير، إلى عقيدة الكنيسة (الإكليزيولوجي). إن هذا الاعتراف الصريح من طرفهم بالخلط بين العقيدتين (الخلاص والكنيسة)، لا ينبغي أن يثينيا عن اعتبار هذا خطئًا جوهريًا. كونهم يفعلون شىء كهذا في حد ذاته لا يجعله أمرًا سليمًا. بل هو خطأ فادح.

ذكرت سابقًا أن حركة م.م.ب. تنمو في مصر، وهذا رصدته في ظهور بعض الترجمات أو التفاسير العربية للتعبير البولسي "الإيمان بيسوع المسيح" في (رو ٣ : ٢٢ ، ٢٦، غل ٢ : ١٦ ، ٣ : ٢٢)، وترجمته بدلاً من ذلك إلى "أمانة يسوع" (الشخصية)، بما أن كلمة إيمان هي ذاتها أمانة باللغة اليونانية الأصلية. فضلاً عن ذلك، يمكننا أيضًا أن نرى هذا الترويج لحركة م.م.ب. في مصر في محاولة إدراج الدكتور ماهر صموئيل لتعليم الإختيار تحت تعليم الكنيسة (الإكليزيولوجي)، وليس تحت تعليم الخلاص (السوتيريولوجي). وقد كان هذا نص كلامه في حلقته المعنونة "كيف نفهم الإختيار في ضوء محبة الله":

"الكاليفينة بتحط الإختيار في السوتوريولوجي، أنا عايز أحط الإختيار في الإكليزيولوجي".

وهذا التصريح لماهر صموئيل لا يختلف في رأيي كثيرًا عن إدراج عقيدة التبرير تحت عقيدة الكنيسة بواسطة إن تي رايت وساندرز. كما أن إدراج تعليم الإختيار تحت عقيدة الكنيسة، بواسطة ماهر صموئيل، يشبه إلى حد كبير، قول أنصار م.م.ب. بأن التبرير هو أن يُعْلَنُ الشخص ضمن الجماعة العهدية التي "أُخْتِيرَتْ" بالنعمة (طبقًا لعلم الله المسبق بأمانتهم)، ثم على من تبرر، أي من أُعْلِنَ عضوًا في جماعة الله، أن يحافظ على هذه المكانة بالأعمال. الجدير بالذكر أيضًا أن ماهر صموئيل، في الجزء الثاني من حلقته عن الإختيار، صرّح بما معناه أن الخلاص هو أن يدخل المرء للجماعة، أو الـ category ، بالإيمان لكن يبقى فيها بالجهاد أو الأعمال.

ومعاملة التبرير على أنه يخص الإكليزيولوجي يؤدي منطقيًا إلى النقطة التالية:

المنظور المحدث لبولس يخلط بين التبرير وتطبيقه الرعوي ويحول الإنجيل إلى رسالة مسكونية شمولية ويقلل من بشاعة الخطية

إن كان التبرير لا يتعلق بوضعنا القضائي أمام الله، ولا يتعلق بالخلاص من دينونة الخطية، بل أمر يخص الإنتماء للجماعة العهدية، وما إلى ذلك من وحدة ومحبة وشركة واحتواء، فإن رسالة الإنجيل تصبح الشمولية والإيخاء والمساوة والشركة. صحيح أن هذه كلها مُتَضَمَّنَة في أبعاد التبرير، كتطبقيات رعوية له منعكسة على عقيدة الكنيسة، إلا أن التبرير يخص، بصورة جوهرية، موقفنا القضائي أمام الله. لكن هذا التعليم، فضلاً عن كونه تشويه لرسالة الإنجيل، ويؤدي إلى التخفيف من بشاعة الخطية (وهذان الأمران هما أخطر ما في الموضوع)، فهو يحول المسيحية إلى رسالة مسكونية. يقول إن تي رايت مرة أخرى:

"يدفع تعليم بولس عن التبرير بالإيمان الكنائس، في حالة الإنشقاقات الراهنة التي تعاني منها، إلى المهمة المسكونية. لا يمكن أن يكون صحيحًا أن تُستخدم ذات العقيدة التي تعلن أن كل من يؤمنون بيسوع ينتمون إلى طاولة واحدة (غلاطية ٢) كطريقة للقول إن بعض الذين يعرّفون عقيدة التبرير بشكل مختلف، ينتمون إلى طاولة مختلفة. بكلمات أخرى، فإن عقيدة التبرير ليست مجرد عقيدة يمكن للكاثوليك والبروتستانت أن يتفقوا عليها، كنتيجة لجهد مسكوني شاق. إنها ذاتها عقيدة المسكونية، العقيدة التي توبخ كل شراذمنا الكنسية الصغيرة والتي غالبًا ما تكون مرتبطة بالثقافة، والتي تعلن أن كل من يؤمنون بيسوع ينتمون معًا في عائلة واحدة ... إن عقيدة التبرير هي في الواقع العقيدة المسكونية الكبرى". [5]

صحيح أن الكنيسة يمكن أن تنتفع من هذا التعليم فقط بالإلتفات إلى التطبيقات الرعوية للتبرير، بإعتبار أن عنصر من عناصر المشكلة التي كان بولس يعالجها، هو إلزام الأمم بالتهود لكي يخلصوا ومن ثم يصبحوا جزء من جماعة الرب كنتيجة مترتبة على الخلاص (وكان الرب يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون). إلا أنه لا يمكن بأي حال من الأحول اختزال وتشويه عقيدة التبرير بالإيمان وحده إلى مجرد رسالة مسكونية.

إن إعتبار التبرير هو مَنْ يكونون بالفعل ضمن جماعة الرب (وليس إعلان الفاجر بارًا)، ومن ثم تحويل الإنجيل إلى رسالة مسكونية شمولية، يعني أن الخطية، طبقًا لهذا التعريف، هي الإنشقاقات وعدم القبول والمحبة والمشاركة. إلا أن الخطية كما يعلمنا الكتاب المقدس، وكما يلخصها التقليد المصلح هي: تقصير omission في بلوغ البر الذي يمجد الله، وهي أيضًا التعدي على الناموس الإلهي commission . ويصفها الكتاب المقدس بأوصاف قضائية، مثل أنها دين يُحسب علينا "واغفر لنا ذنوبنا" (مت ٦ : ١٢) أو بالحري "ديوننا" بحسب الأصل اليوناني. ويصفها بأنها خيانة عهدية (عقدية) بالتعدي على العهد مع الله (هو ٨ : ١). وأنها أيضًا صك المذنوبية "محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدًا لنا، وقد رفعه من الوسط، مُسَمِّرًا إياه بالصليب" (كو ٢ : ١٤). ويرى البعض أن الكلمة اليونانية "خايروجرافون" المترجمة "صك"، والتي تعني شئ مكتوب بخط باليد، تشير إلى الناموس الموسوي المنقوش باليد على الألواح الحجرية.

لكن م.م.ب. يعيد تعريف الخطية من خلال إعادة تعريف التبرير. بكلمات أخرى، إن كان التبرير يخص الإكليزيولوجي، فالخطية أيضًا تندرج تحت هذا التعليم. وبدلاً من كونها في الأساس خطية ضد الله، تصبح خطية ضد الجماعة. طبعًا معتنقي م.م.ب. لا يقولون هذا الكلام بالوضوح الذي نتوقعه، إلا أنها النتائج المنطقية لما قالوه بالفعل. إن مسكونية إن تي رايت هنا تذكرنا بمسكونية فون هارناك بأبوة الله لجميع البشر وأخوة جميع البشر لبعضهم كالمبدآن اللذان تتمحور حولهما رسالة المسيحية. وادعاءات رايت وفون هارناك لا يختلفان كثيرًا عن الدعوة التي طنت بها آذاننا بأن نترك الإنشقاقات الطائفية ونتحد جميعًا في وحدة ومحبة كنسية. كل هذه المحاولات السابقة تركز على الجانب العلاقاتي للمسيحي وتغفل الحق الموضوعي المتعلق بالمركز القضائي للإنسان أمام الله.

المنظور المحدث لبولس يتجاهل ما يعلمه العهد الجديد عن يهودية القرن الأول

جاء على لسان الرب يسوع المسيح الكثير من الأقوال التي تدل على أنه رَأَىَ اليهودية المعاصرة له قائمة على أساس التبرير بأعمال الناموس. وينبغي هنا بداية أن نفرّق بين ما يعلّمه العهد الجديد عن الخلاص بالنعمة، وبين اليهودية التي تم تشويهها بواسطة اليهود المعاصرين للمسيح وبولس. إن أول مكان في العهد الجديد نقرأ فيه عن تشويه اليهود لليهودية هو العظة على الجبل في متى ٥ – ٧. لقد شوهوا الناموس بإختزاله وإبخاسه الطاعة الكاملة التي يطلبها من كل إنسان. وهذا يتضح من كلمات الرب يسوع "سمعتم أنه قيل" التي لم يكن يحاول بها أن يضع تعاليمه في خصومة مع تعاليم الناموس، بل بالمقابلة مع التقليد اليهودي الذي شوّه الناموس. إن هذه اليهودية المشوهة التي أبخست المطالب الناموسية أدت إلى الرياء الشديد من طرف اليهود. لهذا واجه الرب يسوع المسيح هذا الرياء الناموسي بأقوال مثل: متى صليت، متى صمت، متى صنعت صدقة (متى ٧). الرياء الديني هو الثمرة الطبيعية للناموسية.

بل والأكثر من ذلك، أن المسيح علّم في مثل العشار والفريسي بأن الأخير أراد أن يتبرر بأعمال الناموس بالامتناع عن الشرور مثل الخطف والظلم والزنا، ومن خلال بعض الأعمال الإيجابية مثل الصوم مرتين في الأسبوع وتعشير كل ما يقتنيه (لاحظ أنه لا يوجد أي من علامات القومية اليهودية في ذلك). وهذا على عكس العشار الذي اعترف بخطيته حتى أنه من وطأة إحساسه بذنوبه لم يشأ أن يرفع عينيه نحو السماء بل قرع على صدره قائلا اللهم إرحمني أنا الخاطىء. فتبرر في الحال، لا بأية أعمالٍ عملها، بل بالنعمة: "الحق أقول لكم، إن هذا نزل إلى بيته مبررًا دون ذاك". إن الرب يسوع المسيح قال هذا المثل خصيصًا في مواجهة البر الذاتي أو التبرير بأعمال الناموس كما نقرأ في تمهيد لوقا لهذا المثل: "وقال لقوم واثقين بأنفسهم أنهم أبرار ويحتقرون الآخرين هذا المثل: إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا ..." (لو ١٨ – ٩ : ١٤).

الشاب الغني الذي جاء إلى الرب يسوع المسيح ليسأله كيف يرث الحياة الأبدية، هو مثال لآخر للتبرير بأعمال الناموس (مت ١٩ : ١٦ – ٢٢). وعندما أجابه الرب بأن "يحفظ الوصايا"، كان رد الشاب الغني عليه بأنه حفظ كل وصايا الناموس منذ حداثته. وعلى الرغم أن إجابة الرب يسوع المسيح له "احفظ الوصايا" يمكن أن توحي بأن المسيح علّم بالبر بأعمال الناموس، إلا أنه أراد أن يكشف حكم الناموس في الشاب في كونه لم يستطع حفظ أولى وصايا الناموس بأن يحب الرب إلهه من كله قلبه إذ أحب المال أكثر من الرب يسوع المسيح. بكلمات أخرى، إن منهجية الرب يسوع المسيح مع الشاب الغني هنا يمكن أن نسميها الإستخدام الثاني للناموس طبقًا لكالفن. الإستخدام الثاني للناموس هو أن الناموس هو المرآة التي تظهر لنا عدم كمالنا ومذنوبيتنا فتجعلنا نرتمي إلى المخلص.

نستدل من النماذج السابقة في تعاليم الرب يسوع المسيح أن اليهود شوهوا اليهودية، وأبخسوا وصايا الناموس بالإقلال من مطالبه، فضلاً عن ريائهم وطقسيتهم الفارغة، بل ومحاولاتهم للتبرير بالأعمال الصالحة. أن تقول أن اليهود، أو يهودية القرن الأول، لم تعلّم بالتبرير بالأعمال، فهذا يمكن أن يعني أن الرب يسوع المسيح كان مخطئًا فيما علّم به. لكن تعليم الرب يسوع المسيح بأن اليهود شوهوا اليهودية، من خلال التخفيف من مطالب الناموس، يدل على أنهم شوهوا النعمة أيضًا. لأن المقصود من صرامة الناموس كان هو لفت النظر إلى النعمة "إذ قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان" (غل ٣ : ٢٤).

المنظور المحدث لبولس يخلط بين اليهودية الكتابية التي تعلّم بالتبرير بالإيمان وبين اليهودية المشوهة التي مزجت الناموس بالنعمة

النقطة السابقة، حول تشويه اليهود لتعاليم العهد القديم، تقودنا للتفريق بين اليهودية الكتابية الحقيقية، التي تعلّم بالتبرير بواسطة الإيمان وحده على أساس النعمة وحدها، وبين اليهودية المشوهة. كانت اليهودية المشوهة في القرن الأول يهودية ناموسية، أو في أضعف حالاتها مزجت الإيمان بالأعمال والناموس بالنعمة. أو بلغة اللاهوت النظامي كانت شبه بيلاجية Semi-pelagianism . لكن بولس نفسه يستخدم نصوص العهد القديم لإثبات أن التبرير في العهد الإبراهيمي، وفي العهد الموسوي، كان دائمًا وأبدًا بالإيمان.

فإبراهيم تبرر قبل أن يُختتن (رو ٤ : ٩ – ١٠). ثم يستنتج بولس من ذلك "فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثًا للعالم، بل ببر الإيمان" (١٣). المثال الآخر الذي يقدمه بولس على التبرير بالإيمان جاء على لسان داود "كما يقول داود أيضًا في تطويب الإنسان الذي يحسب الله له برًا بدون أعمال: طوبى للذين غفرت أثامهم وسترت خطاياهم، طوبى للرجل لا يحسب له الرب خطية" (رو ٤ : ٦ – ٨). ثم يعود بولس إلى مثال إبراهيم مرة أخرى ليؤكد من خلال داود وإبراهيم أن التبرير غير مرتبط بأعمال الناموس. وأعمال الناموس هنا ليست فقط الأعمال الطقسية، بل كل أعمال الناموس، بما في ذلك الأدبي والطقسي. والدليل على ذلك هو أن بولس يقول تعليقًا على تبرير إبراهيم "وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر، فإيمانه يحسب له برًا" (رو ٤ : ٥). الحديث هنا ليس عمن لا يمارس الناموس الطقسي، بل عن الناموس الأدبي بصفة خاصة بدليل قوله "الذي يبرر الفاجر".

يعلق شراينر على ذلك بالقول:

"من المفيد أن نرى في رومية ٣ – ٤ أن بولس ينتقل بسلاسة من فكرة أن البر ليس 'بأعمال الناموس' (رو ٣ : ٢٠، ٢٨) إلى فكرة أن البر ليس 'بالأعمال' (رو ٤ : ٢ ، ٦). يستخدم بولس كلمة أعمال بدلاً من تعبير أعمال الناموس في رومية ٤ : ٢ لأنه يتحدث عن إبراهيم، الذي لم يعش في ظل ناموس سيناء. لا يمكن أن تقتصر 'الأعمال' في حالة إبراهيم على السبت وقوانين الطعام والختان. وبالمثل، فإن الأعمال التي افتقر إليها داود والتي احتاج إلى المغفرة لها (رو ٤ : ٦ – ٨) لم تكن النواميس التي أقامت الحواجز بين اليهود والأمم. من المرجح جدًا أن بولس فهم أن داود يطلب الغفران لخطاياه في الزنا والقتل (٢ صم ١١ – ١٢). لا يوجد دليل مقنع على أن 'الأعمال' في رومية ٤ تركز على جوانب الناموس التي تفصل اليهود عن الأمم". [6]

تأسيسًا على ذلك، استخدم بولس اليهودية الكتابية القويمة، التي تعلّم بالتبرير بالإيمان وحده على أساس النعمة وحدها، في مواجهة اليهودية الناموسية المشوهة التي علّم بها المتهودون في وقته، والتي مزجت بين الإيمان والأعمال، وخلطت أعمال الناموس بهبة النعمة المجانية. إن لاحظنا هذه النقطة الحاسمة لاتضح لنا الخلط الذي يقوم به م.م.ب. هنا. فهم يقولون أن يهودية المتهودين هي ذاتها اليهودية التي علّم بها العهد القديم، أي يهودية تقدم نموذجًا توافقيًا syncretistic يمزج بين الإيمان والأعمال. وربما هنا يثور السؤال المنطقي، إن كانت يهودية العهد القديم تعلّم بالتبرير بالإيمان وحده، فما قيمة الناموس؟ الناموس أعطي، كما يعلّم بولس، وكما أوضح التقليد المصلح، لكي يرى الإنسان حاجته للمسيح. بما أن الله يطالبنا بالكمال، وبما أن الإنسان لا يستطيع حفظ وصايا الناموس بصورة كاملة، إذًأ، فلا أحد يستطيع أن يتبرر بأعمال الناموس. الأمر المتوقع من هذا أن حالة اليأس البشري هذه كان من المفترض أن تقود اليهودي إلى المسيح، أو على الأقل تثير فيه التساؤل عن الحل، بما أنه لا أمل في حفظ الناموس بصورة كاملة بسبب الفساد البشري وإنعدام القدرة على ذلك.

المنظور المحدث يتجاهل النصوص التي تؤكد على أن أعمال الناموس هي أعمال الناموس الأدبية بصفة عامة

يتشكك بعض أنصار م.م.ب. في عدد من رسائل بولس، ويقروا بأصالة البعض الآخر مثل رومية وغلاطية. وهذه الإنتقائية طبعًا تؤخذ عليهم. ذلك لأنهم إن رفضوا نسبة بعض رسائل بولس إليه مثل أفسس وتيطس وتيموثاوس الثانية، كان بالأحرى بهم أن يعاملوها على الأقل كوثائق تاريخية. إلا أنهم رفضوا هذه الرسائل ليس فقط كوحي، بما أن بولس لم يكتبها، بل أيضًا كوثائق تاريخية يمكن التعويل عليها لفهم يهودية الهيكل الثاني.

لكن ليس كل معتنقي م.م.ب. يتنصلون من بعض رسائل بولس، فهذا مثلاً لا ينبطق على إن تي رايت. إلا أن رسالتا رومية وغلاطية اللتان لا يشككون في كتابة بولس لهما، وفي نفس الوقت يقولون أن تعبير أعمال الناموس بهما يشير إلى علامات القومية اليهودية (الناموس الطقسي)، يوجد بهما بعض النصوص التي تثبت أن أعمال الناموس هي أعمال الصلاح الأدبية للتبرير.

حتى لو حصرنا أنفسنا بالرسائل التي يقر بها أنصار م.م.ب. فقط، بل ولو تقيدنا برسالتا رومية وغلاطية باعتبارهما يذكران علامات القومية اليهودية ولا سيما غلاطية، وحتى لو حصرنا أنفسنا بتعبير "أعمال الناموس"، وليس "الأعمال" بصفة عامة، بما أنهم يرون أنهما مختلفان، نظل قادرين على استخراج من هذه النصوص التي تقيدوا بها ما يدل على أن بولس يقصد بـ "أعمال الناموس" التبرير بالأعمال الصالحة. وهذا ليس بأي حال من الأحوال تصديق من طرفنا على رفضهم لأصالة بعض الرسائل البولسية. لكن القصد فقط هو إظهار أنهم يخفقون حتى في ضوء المعايير التي أرسوها هم بأنفسهم. وهذه بعض النصوص التي تؤكد على أن المقصود بأعمال الناموس هو التبرير بأعمال الناموس الأدبي أو الناموس بصفة عامة:

(١) وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ ٱلنَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ ٱللهِ. لِأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لَا يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لِأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ (رو ٣ : ١٩ – ٢٠).

هنا يقصد بولس أعمال الناموس بصفة عامة لأنه يقول كل ذي جسد، بما في ذلك اليهودي واليوناني. ولا سيما أن تصريح بولس هذا يأتي بعد خرق كل من الأمم لناموسهم الطبيعي (الضمير) كما في الأصحاح الأول، وخرق اليهود لناموسهم الموسوي المكتوب كما في الأصحاح الثاني. كما أن هذا النص يسبقه مباشرة الحديث عن خطايا أدبية (سفك الدم، اغتصاب، سحق، وليس خوف الله قدام عيونهم). فضلاً عن ذلك فإن بولس يضع الناموس في علاقة سببية مع معرفة الخطية "لأن بالناموس معرفة الخطية". مما لا شك فيه إذًا أنه يقصد هنا الناموس الأدبي الذي يكشف للإنسان الخاطىء خطيته ومن ثم مذنوبيته. إذًا، النص نفسه، والقرينة المباشرة، والقرينة العامة للرسالة، تثبت جميعًا أن المقصود بأعمال الناموس هو الناموس الأدبي.

يقول كوستنبيرجر تعليقًا على هذا النص:

‏"علاوة على ذلك، يجادل بولس بأنه 'بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه' (رو‏ ٣ : ٢٠‏) من خلال الاستشهاد بمجموعة ‏من نصوص العهد القديم (مز ١٤ : ١ – ٣ ، ٥٣ : ١ – ٣ ، ٥ : ٩ ، ١٤٠ : ٣ ، ١٠ : ٧ ، إش ٥٩ : ٧ – ٨ ؛ مز ٣٦ : ١)، التي تصف فشل ‏اليهود في عمل الصلاح، وكلامهم غير الأمين والدنس، وطرقهم التي بها قتل، وعنفهم، ورفضهم لتمجيد الله. حجة بولس هي أن ‏الخلاص بواسطة الناموس يتطلب الأمانة للوصايا الأدبية للناموس وليس فقط للتعاليم المتعلقة بعلامات القومية اليهودية. ومع ذلك، لم ‏يستوف أحد وصايا الناموس. وبالتالي، فإن التبرير من خلال 'أعمال الناموس'، التي تشمل كلاً من الوصايا الطقسية والأدبية، غير ممكن ‏لأي واحد".‏ [7] كوستنبيرجر إذًا، بقوله أن بولس أساسًا يقتبس من العهد القديم، يستبعد أن النص يتكلم عن الناموس الطقسي، ومن ثم العلاقة بين اليهود والأمم.

(٢) فَمَاذَا نَقُولُ؟ إِنَّ ٱلْأُمَمَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَثَرِ ٱلْبِرِّ أَدْرَكُوا ٱلْبِرَّ، ٱلْبِرَّ ٱلَّذِي بِٱلْإِيمَانِ. وَلَكِنَّ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَسْعَى فِي أَثَرِ نَامُوسِ ٱلْبِرِّ، لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ ٱلْبِرِّ! لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِٱلْإِيمَانِ، بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ (رومية ٩ : ٣٠ – ٣٢).

إن أعمال الناموس هي محاولات إسرائيل في الحصول على البر الذي يأتي بطاعة الناموس. هذا البر الذي يأتي بطاعة الناموس ناله الأمم رغم أنهم لم يسعوا في أثره، وذلك بسبب إختيار النعمة لهم، كما تدل على ذلك قرينة الأصحاح. والسبب في أن إسرائيل لم يدرك البر، رغم سعيه إليه، هو أنه ذهب في الطريق الخطأ، طريق الأعمال الصالحة أو البر بالناموس، وليس طريق الإيمان الذي اتخذه الأمم. ذلك لأنه ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد. إن جوهر حجة بولس هنا هي النعمة. فإسرائيل لم يتبرر على الرغم من أعماله، بل بسببها، لأنها قاصرة وغير كاملة. وليست فقط لا تبرره، بل تدينه. إلا أن الأمم تبرروا رغم عدم سعيهم، لأن النعمة أعطتهم هذا الإمتياز، من خلال الإيمان، ذلك الإمتياز الذي لم يكن متوقفًا على وجود أية أعمال من طرفهم.

(٣) لِأَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لَا يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ". وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِٱلنَّامُوسِ عِنْدَ ٱللهِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ "ٱلْبَارَّ بِٱلْإِيمَانِ يَحْيَا" (غل ٣ : ١٠).

هنا أيضًا أعمال الناموس تشير لا إلى الناموس الطقسي أو علامات القومية اليهودية فقط، بل إلى كل الناموس "جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به". كما أن اللعنة ستكون نتيجة صارمة وقاسية لعدم الثبوت في أو عدم العمل بجميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس، إن كانت أعمال الناموس فقط تشير إلى علامات القومية اليهودية أو الناموس الطقسي. لكن الحديث عن لعنة هنا يشير إلى أن القضية أخطر من مجرد إنشقاق في صف جماعة العهد أو تعكير صفوها أو فرض اليهود قيود على انضمام الأمم للكنيسة. وإن وضعنا اللعنة في مقابلة البار الذي يحيا بالإيمان تكتمل الصورة أمامنا. اللعنة لمن لا يحفظ جميع ما هو مكتوب في الناموس، والبر يكون لمن يؤمن. اللعنة دينونة قضائية، والبر إعلان قضائي بتبرير الذي لم يحفظ الناموس لكن يؤمن، وأعمال الناموس هي محاولات التبرير المنقوصة بحفظ الناموس جزئيًا، الأمر الذي يدينه بولس بكل جوارحه. فإما أن تحفظ الناموس بأكمله، وإما أن تجلب لك تلك الطاعة الجزئية اللعنة. لأن الإخفاق في وصية واحدة هو تقصير في كل أحكام الناموس.

المنظور المحدث لبولس يتجاهل النصوص التي تضع التبرير في مقابلة الدينونة

إن كانت الدينونة عكس التبرير، إذًا، فكلاهما قضائيان. وإلا يلزمك أن تقوم بإعادة تعريف الدينونة بدورها. لكن بولس كثيرًا ما يضع الدينونة كمقابل للتبرير. إن هذا في حد ذاته كفيل بتفنيد حركة م.م.ب. وهذه بعض النصوص البولسية التي تضع التبرير في تضاد مع العقاب أو الدينونة:

(١) وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ ٱلنَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ ٱللهِ. لِأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لَا يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لِأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ (رو ٣ : ١٩ – ٢١).

إن منطق النص السابق بسيط. لا أحد يستطيع أن يتبرر بـ "أعمال الناموس" لأنه لا يوجد من هو قادر على طاعة الناموس بصورة مطلقة. فلماذا الناموس إذًا؟ الناموس جاء لكي يكشف لنا خطيتنا "بالناموس معرفة الخطية"، ومن ثم يدفعنا إلى المسيح الذي يبررنا "مؤدبنا إلى المسيح". معرفة الناموس إذًا تجعلنا تحت دينونة الله وقصاصه. وكل محاولات إرضاء الله من خلال طاعة الناموس هي محاولات قاصرة "لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه". لاحظ هنا أن بولس يضع القصاص في مقابلة مع التبرير. ولاحظ أيضًا الكلمات الكثيرة ذات الطبيعة القضائية: ناموس (قانون)، قصاص، تبرير. كما أن الناموس هنا لا يمكن أن يعني علامات القومية اليهودية لأنه طبقًا للنص فإن كل فم يستد، وكل العالم يصير تحت قصاص، حتى الأمم الذين ليسوا بعد جماعة العهد. من الصعب جدًا، إن لم يكن من المستحيل، القول أن المقصود بالتبرير هنا أمرًا علاقاتيًا، أو أنه مختص بالإنتماء إلى جماعة العهد (الكنيسة)، كما يدعي م.م.ب.

(٢) ٱلَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لِأَجْلِ تَبْرِيرِنَا (رو ٤ : ٢٥).

هذا النص اقتباس من إشعياء ٥٣ طبقًا للسبعينية بعد إعادة صياغته بواسطة بولس نفسه. مما لا شك فيه أن إشعياء يتحدث عن الدينونة والخلاص: "ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا ... والرب وضع عليه إثم جميعنا ... من الضغطة ومن الدينونة أخذ ... ضُرب من أجل ذنب بنت شعبي ... أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن ... إن جعل نفسه ذبيحة إثم". ثم ينتقل إشعياء من الحديث عن الدينونة إلى الحديث عن التبرير الذي يأتي من احتمال المسيا للدينونة عوضًا عن شعبه: "وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها ... وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين". إن قول بولس عن المسيح أنه أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا يأتي في نفس سياق إشعياء في الحديث عن احتمال المسيح لدينونة الخطايا لكي يبرر شعبه. لاحفظ كيف أن حديث إشعياء عن الدينونة والتبرير ليس له علاقة بأي من علامات القومية اليهودية. كما أن الموضوع لم يتعلق بدخول الأمم الإيمان من قريب أو من بعيد. وإن أخذنا نص بولس، بغض النظر عن كونه مقتبسًا من إشعياء، فإن ما يقوله بولس في حد ذاته به مقابلة بين الخطايا وتسليم المسيح، أي موته، من ناحية، وبين قيامة المسيح وتبريرنا من ناحية أخرى.

(٣) وَلَيْسَ كَمَا بِوَاحِدٍ قَدْ أَخْطَأَ هَكَذَا ٱلْعَطِيَّةُ. لِأَنَّ ٱلْحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ، وَأَمَّا ٱلْهِبَةُ فَمِنْ جَرَّى خَطَايَا كَثِيرَةٍ لِلتَّبْرِيرِ (رو ٥ : ١٦).

يتكلم بولس هنا عن الدينونة كشىء مضاد للتبرير. إن كانت معصية آدم الواحدة أدت إلى دينونة الجميع، فإن تبرير المسيح أنقذ المؤمنين به من دينونة الخطايا الكثيرة. إن كانت الدينونة إذًا مفهوم قضائي، فهذا يحتم علينا رؤية التبرير على أنه عمل قضائي بإعلان الفاجر بار أمام الله.

(٤) فَإِذًا كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ ٱلْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ، هَكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ ٱلْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، لِتَبْرِيرِ ٱلْحَيَاةِ (رومية ٥ : ١٨).

في نفس القرينة السابقة يؤكد بولس على أن معصية آدم الواحدة، بالأكل من الثمرة المحرمة، أدت إلى دينونة جميع البشر بلا إستثناء. في المقابلة مع ذلك، فإنه ببر واحد، أي بطاعة المسيح وسلوكه البار، صارت الهبة إلى جميع الناس "لتبرير الحياة". وبولس هنا يستعمل كل من مصطلحي "البر" و"التبرير" بالماقبلة مع الدينونة.

كيف وصل المصلحون إلى تعليمهم عن التبرير القضائي؟ أو على أي أساس علّموا بأن التبرير قضائي؟

يقدم المؤرخ المسيحي المعاصر ناثان بوسنيتز خمسة أسباب يوضح فيها كيف وصل المصلحون إلى النتيجة بأن التبرير هو إعلان قضائي وليس تغيير أو برّ يُغرس في الخاطىء imputed righteousness كما ادعت كاثوليكية القرون الوسطى [8]. هذه الأسباب أيضًا يمكن أن نطبقها على الجدل المتعلق بـ م.م.ب. سأعرض بعجالة إلى أربعة فقط من بين تلك الأسباب الخمسة وسأحيل التفاصيل إلى مقال آخر.

أولاً أسس المصلحون معنى التبرير القضائي على الأصل العبري لكلمة "بر" sādaq ، بحيث أن الصيغ المختلفة لهذه الكلمة تشير إلى اعلان الخاطىء بارًا. وقد رأى المصلح مايكل كيمنتس أن الرسل كانوا حريصين جدًا على الحفاظ على الطبيعة القضائية لمعنى هذا المصلطح في العهد الجديد. المصلحون إذًا، حذوا حذو الرسل في تأسيس مفهوم التبرير القضائي على نصوص العهد القديم.

السبب الثاني طبقًا لبوسنيتز الذي جعل المصلحون يفهمون التبرير قضائيًا هو أنهم أبرزوا النصوص التي يوضع فيها التبرير في مقابلة مع الدينونة، مثل: "من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟" (رو ٨ : ٣٣ – ٣٤).

السبب الثالث الذي دعا المصلحون لفهم التبرير قضائيًا هو أن هناك نصوص في الكتاب المقدس تشير إلى الله على أنه "مُبَرَّرُ". الحل الوحيد لفهم النصوص التي تصف الله كذلك هو أن التبرير هنا لا يشير إلى تغيير، لكونه كامل أدبيًا ولا يعتريه أي تغيير. بل إلى إعلان الله مُبَرَّرًا كإعتراف بما هو عليه في الحقيقة. أو طبقًا لما علّمه المصلحون: "من الواضح أن الله لا يمكن أن ‘يُجْعَلُ بارًا’ لأنه بالفعل كامل أدبيًا. ولكن يمكن أن ‘يُعلن بارًا’ من قبل أولئك الذين يعترفون به ويمدحوه على قداسته المطلقة". المثال على ذلك هو قول بولس عن المسيح: "عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفِعَ في المجد" (١ تي ٣ : ١٦). "لقد فهم كالفن أن النقطة هنا هي أن يسوع قد أُظْهِرَ أو أُعْلِنَ أنه بار، ولم يُجْعَلُ بارًا". المثال الآخر على ذلك هو قول لوقا "وجميع الشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا" (لو ٧ : ٢٩). "يشير كالفن إلى أن العشارون لم يجعلوا الله بارًا، بل أعلنوا بره".

السبب الرابع للفهم القضائي للتبرير لدى المصلحون، هو أن بولس سَيُعْلَنُ بارًا بواسطة الرب نفسه: "وأما أنا فأقل شىء عندي أن يُحكم فيّ منكم، أو من يوم بشر. بل لست أحكم في نفسي أيضًا. فإني لست أشعر بشىء في ذاتي. لكني لست بذلك مبررًا. ولكن الذي يحكم فيّ هو الرب" (١ كو ٤ : ٣ – ٤). استعمال بولس لكلمة التبرير هنا بصورة قضائية يفسر لماذا فهم المصلحون التبرير بهذا المعنى.

إن هذه الأسباب كفيلة بنسف الإفتراض الخاطىء لدى م.م.ب. بأن المصلحون أساءوا قراءة بولس. ذلك لأن نظرتهم كانت أكثر اتساعًا مما كتبه بولس. فقد أخذوا في الاعتبار ما يعلمه العهد القديم عن التبرير، بل والسبعينية أيضًا كان لها دورًا في فهم المصلحون للتبرير بالإيمان. إن الإدعاء بأن لوثر كان له ضميرًا مثقلاً بالإحساس بالذنب وأقحم هذا الإحساس على النصوص البولسية هو ادعاء غير أمين ليس فقط في التعامل مع النصوص الكتابية، بل أيضًا في التعامل مع التاريخ المصلح.

يهودية الهيكل الثاني متنوعة ونموذج الناموسية العهدية لم يكن النموذج الوحيد

أشرت سابقًا إلى أن التبرير بأعمال الناموس كان موجودًا بالفعل في يهودية القرن الأول. وكيف أن الرب يسوع نفسه اهتم بكشف الرياء الفريسي ومحاولات الناموسيين بالتبرير بالأعمال الصالحة. بالإتساق مع ذلك، فإن الدراسات الأكاديمية الحديثة أثبتت أن يهودية الهيكل الثاني لم تقدم الناموسية العهدية كالنموذج الوحيد. بل كان هناك إلى جوار ذلك أنظمة عيقدية أخرى. من بينها هو التبرير بأعمال الناموس. على سبيل المثال، يجادل شراينر، وهو حجة في التفسير والفكر اللاهوتي لبولس، بأن تعبير "أعمال الناموس" ورد في النصوص القمرانية أكثر من مرة ليشير إلى "كل أعمال الناموس" وليس فقط الناموس الطقسي. يرى شراينر أيضًا أن بولس لم يشذ عن هذه القاعدة فيما قصده بتعبير "أعمال الناموس". [9]

اللاهوتي روبرت كارا، وهو أحد النقاد الكبار لحركمة م.م.ب.، استعرض الكثير من كتابات يهودية الهيكل الثاني، في كتابه "زعزعة أساسات المنظور المحدث لبولس"، ليثبت الكثير من محاولات التبرير بأعمال الناموس بالإضافة إلى الإيمان (الشبه بيلاجية). وبعد أن استعرض كارا الكثير من وثائق يهودية الهيكل الثاني يخلص إلى هذه النتيجة:

"وقد خلصت إلى أن كل هذه الوثائق لديها سوتيريولوجي قائم بر بالأعمال الصالحة سواء كانت بيلاجية أو شبه بيلاجية. لأكون واضحًا، أنا لا أقول أن جميع الوثائق في يهودية الهيكل الثاني لديها سوتيريولوجي قائم على أعمال البر بالأعمال الاصلحة. ومع ذلك، أنا أصر على أن الكثير من تلك الوثائق تقدم هذا النموذج السوتيريولوجي". [10]

الأكثر من ذلك هو أن لغة الإحتساب كانت موجودة بدورها أيضًا في اليهودية الرابينية. في رومية ٤ يرد الفعل اليوناني logizomai والذي يعني "يحتسب" على الأقل ١١ مرة في قرينة حديث بولس عن من حُسِبَ لهم الإيمان برًا. يقول كوستنبيرجر تعليقًا على ذلك أن هناك خلفية رابينية وراء استعمال بولس لهذه اللغة الاحتسابية أو المحاسبية:

"الفعل المستخدم لوصف هذا التقييم المنعم الجديد للمؤمن هو logizomai ، وهو مصطلح حسابي ومحاسبي يشير عمومًا إلى احتساب قيمة لصالح شخص (عند استخدامه بشكل إيجابي) crediting أو استدانته charging (عند استخدامه بشكل سلبي). تُظهر اقتباسات بولس من تكوين ١٥ : ٦ ومزمور ٣٢ : ٢ أنه استعار هذا المصطلح من العهد القديم. علاوة على ذلك، ربما كان التعبير مناسبًا بشكل خاص في سياق بولس بسبب وجهة النظر الرابينية الشهيرة للدينونة الإلهية التي صورت الله كمحاسب كلي العلم حافظ على سجل محاسبي ضخم سجل فيه بعناية خطايا الشخص على الجانب المدين من دفتر الحسابات وأعماله الجيدة على جانب الائتمان. في الدينونة، يقوم المحاسب الكبير بتدقيق حساب كل شخص، وتحديد درجة الائتمان النهائية للشخص، وإما أن يحكم على الخاطئ بالعقاب أو مكافأة بره".

ثم يطبق كوستنبيرجر هذه الخلفية الرابينية على فهم المعنى الذي يقصده بولس من الاحتساب القانوني أو القضائي:

"في التبرير، يرفض الله تحميل (المعنى السلبي لـ لوجيزوماي) الخطية إلى الجانب المدين من دفتر حسابات المؤمن (٤ : ٨). ويحسب (المعنى الإيجابي لـ لوجيزوماي) الإيمان كبر في جانب الائتمان (٤ : ٦). وهكذا، بناء على هذا القياس المحاسبي، يُحسب المؤمن بارًا تمامًا على أساس موت المسيح كذبيحة. وهكذا، يحسب الله إيمان الخاطئ إلى حسابه باعتباره البر". [11]

أخيرًا، الوعود باسترداد اسرائيل تدحض فكرة البقاء في العهد بالأعمال

هناك الكثير من الوعود الكتابية التي تشير إلى أن الله سيسترد إسرائيل إلى العلاقة معه رغم عدم أمانتهم الشديددة والمتكررة. وهذا هو فحوى العهد مع إبراهيم. صحيح أنه من منظور ما كانت علاقة الرب بإسرائيل علاقة مشروطة بالطاعة، إلا أن عهد الله مع إسرائيل كان عهدًا بالنعمة بصفة جوهرية. إن القول أن البقاء يكون بالأمانة أو الأعمال الصالحة يستبعد فكرة النعمة من الأساس. لأنه من يستطيع أن يبقى أو أن يكون أمين للعهد؟ ربما يثير هذا السؤال، إن كان بقاء الرب في علاقة شعبه بالنعمة، فلماذا إذًا أرسل الله شعبه للسبي مرتين؟ إن الله لم يدن إسرائيل أو يرفضه كأمة، بل دان فقط الأجيال التي تمردت عليه. إن كانت علاقة الله بإسرائيل، والكنيسة، علاقة مشروطة بالأمانة، فهذا يعني أن مشروع الله، سواء في العهد القديم، أو في الجديد، محتوم بالفشل. والتاريخ خير دليل على فشل كل من إسرائيل والكنيسة في الأمانة لله. لكن مشروع الله وخطته لا يفشلان أبدًا.

أنظر بعض النصوص التي تثبت استرداد الله لشعبه كقومية وخلاصهم روحيًا، الأمر الذي يدل على أنه ليس فقط الدخول في علاقة مع الرب يكون بالنعمة، بل البقاء فيها أيضًا: تث ٣٠ : ١ – ٦، إر ١٦ : ١٤ – ١٥، ٣٠ : ١ – ٣، ٣١ : ٣٥ – ٣٧، حز ٣٦ : ٢٢ – ٣٠، ٣٧ : ٢١ – ٢٩. وفي العهد الجديد: مت ١٩ : ٢٨، لو ٢٢ : ٣٠، مت ٢٣ : ٣٧ – ٣٩، لو ١٣ : ٣٤ – ٣٥، أع ١ : ٦ – ٧، رومية ٩ بأكمله ولا سيما ٢٥ – ٢٦).

يقول اللاهوتي مايكل فلاك، وهو حجة في العلاقة بين إسرائيل والكنيسة والإسخاطولجي:

"توجد أسباب كتابية كثيرة للاعتقاد بخلاص مستقبلي واستعادة أمة إسرائيل. في الواقع ، هذا هو السبب الرئيسي لرفضي للاهوت الاستبدال (الاعتقاد بأنه لا وجود مستقبلي لإسرائيل والكنيسة استبدلتها). أنا أرفض لاهوت الاستبدال بشكل رئيسي لأن العديد من المقاطع الواضحة تتنبأ بالخلاص المستقبلي واستعادة أمة إسرائيل في كل من العهدين القديم والجديد". [12]

في الختام، أليست علامات القومية اليهودية هذه، من ختان، ومبادىء غذائية، وحفظ سبت، هي ما حاول بولس نفسه فعله لكي يتبرر بناء على أعماله الصالحة وامتيازاته، فاكتشف أنها مثل روث البهائم بحسب ما يقول النص اليوناني (سكوبالون) في فيلبي ٣ : ٨؟ "وليس لي بري الذي من الناموس بل الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان" (فيلبي ٣ : ٩). إن كل من تعليم بولس وإختباره أيضًا يفندان أكذوبة المنظور المحدث لبولس.

ثمة تحذير أخير، وهو أن إنكار التبرير القضائي (كما يفعل أنصار المنظور المحدث لبولس) يستلزم إنكار تعاليم أخرى، مثل الخطية الأصلية. ذلك لأن إنكار الجانب القضائي لعمل المسيح، يستدعي بالضرورة نظرة متفائلة حول طبيعة الإنسان. بكلمات أخرى، لماذا نقول نحن أن التبرير هو بالإيمان وحده على أساس النعمة وحدها؟ والإجابة هي لأن الإنسان، بسبب طبيعته الخاضعة للفساد الجذري، غير قادر على عمل الصلاح أمام الله، ومن ثم تبرير نفسه. أي أن التبرير بالإيمان وحده يفترض، ويستلزم بالضرورة، عقيدة الفساد الجذري. الإنسان لا يتبرر بأعماله الصالحة، لأنه غير قادر بسبب طبيعته الفاسدة أن يعمل أعمالاً صالحة، كمًا وكيفًا، مقبولة أمام الله. لهذا، فأن تنكر التبرير القضائي (والبدلية العقابية)، هو أن تقول أن الإنسان قادر على فعل الصلاح. إذًا، في صميم إنكار التبرير القضائي افتراض ضمني بصلاح الإنسان. الأمر الذي يستتبع بالضرورة رؤية النعمة على أنها عامل مساعد إلى جوار مجهودات الإنسان. وهذا عكس التعليم المصلح، بأن الإنسان فاسد جذريًا، والنعمة ليست عامل مساعد، بل العامل الوحيد في الخلاص. النعمة ولا شىء غيرها. في جوهر التبرير القضائي والبدلية العقابية يكمن الخلاف الأغسطيني البيلاجي، واللوثري الإيراسموسي، حول فساد الإنسان الجذري ومن ثم الضرورة المطلقة للنعمة المخلصة. إنكار المنظور المحدث لبولس لتعليم التبرير القضائي يطلب أكثر من ذلك ويؤدي منطقيًا إلى إنكار كفاية النعمة.



[1] TMSJ 16/2 (Fall 2005) 189-243
[2] Cara, Robert J., Cracking the Foundations of the New Perspective on Paul, Oxford ebooks Ltd., p. 25
[3] Cara, Robert J., Cracking the Foundations of the New Perspective on Paul, Oxford ebooks Ltd., p. 23
[4] Wright, N.T., What Saint Paul Really Said, William P. Eerdmans Publishing Company, 1997, p.65
[5] Wright, N.T., What Saint Paul Really Said, William P. Eerdmans Publishing Company, 1997, p. 84
[6] Schreiner, Thomas R., Paul, Apostle of God’s Glory in Christ, InterVarsity Press, 2020, p. 104
[7] KöstenbergerAndreas J, L Scott Kellum, and Charles L Quarles. 2016. The Cradle, the Cross, and the Crown : An Introduction to the New Testament. Nashville, Tennessee: B & H Academic, p.481
[8] Busenitz, Nathan, Logn Before Luther, Tracing the Heart of the Gospel from Christ to the Reformation, Moody Publishers, 2017, p. 36
[9] Schreiner, Thomas R., Paul, Apostle of God’s Glory in Christ, InterVarsity Press, 2020, p. 104
[10] Cara, Robert J., Cracking the Foundations of the New Perspective on Paul, Oxford ebooks Ltd., p.65
[11] KöstenbergerAndreas J, L Scott Kellum, and Charles L Quarles. 2016. The Cradle, the Cross, and the Crown : An Introduction to the New Testament. Nashville, Tennessee: B & H Academic, p. 480
[12] Vlach, Michael J., Has the Church Replaced Israel, A Theological Evaluation, B&H Publishing, 2010, p.159

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس