الإيمان المُخَلِّص ‏طبقًا للاهوت المصلح


العقيدة الإنجيلية المصلحة تُلَخَّصُ من خلال مبدأين هامين: الكتاب وحده هو السلطة الوحيدة المعصومة، والإيمان وحده هو الذي يبررنا أمام الله. في هذه السطور سنركز على المبدأ الثاني (الإيمان وحده) والذي يُعْرَف بالمبدأ الجوهري للإصلاح البروتستانتي. إن مبدأ التبرير بالإيمان وحده قال عنه لوثر أنه التعليم الذي تقوم أو تسقط عليه الكنيسة. ووصفه كالفن بأنه المحور الذي تدور عليه المسيحية. من الهام إذًا أن نقضي بعض الوقت في تعريف، ووضع الحدود، حول هذا التعليم الخطير الذي تتوقف عليه مصائرنا الأبدية وعلاقتنا بالله.

الإيمان وحده

مبدأ سولا فيديه أو "الإيمان وحده" يعني أن الإنسان يتبرر أمام الله، لا بأعماله، طقسية كانت أو أخلاقية، ولا بإضافة الإيمان إلى الأعمال، وكأننا نساهم بجزء والله يساهم بالباقي، ولا بمزج النعمة مع الاستحقاق، بل بالإيمان والإيمان وحده. وهذا المبدأ يفترض الفساد الجذري للإنسان. الإنسان، بسبب فساده الموروث، غير قادر على طاعة الناموس كله. لهذا يهب الله بره للخاطيء مجانًا، بدون أعمال، وبدون أي استحقاق، بمجرد الإيمان بعمل المسيح من أجله. في التبرير لا تُغفر فقط خطايانا التي ارتكبناها، بل يُحسب لنا بر المسيح نفسه منذ مولده إلى قيامته. المسيح ليس فقط بديلاً عنا في احتمال العقاب الذي كنا نستحقه، بل أيضًا بديلاً عنا في طاعة الناموس الذي كنا مُطَالَبُون بطاعته. عندما نؤمن بالمسيح، يأخذ هو ما لنا، أي العقاب واللعنة والموت، ليعطينا ما له، أي بره وكماله نتيجة طاعته للناموس.

الإيمان لا يوجد وحده

لكن قد يقول قائل أن مبدأ "الإيمان وحده" يؤدي إلى الفوضوية وعدم السلوك بقداسة. إلا أن "الإيمان وحده" لا يعني أن المنهج البروتسانتي ضد الأعمال، بل على العكس من ذلك كما سنرى. إنه يعني فقط أن الإيمان وحده هو الذي يبرر. لكن هناك أشياء أخرى لها دور في تقديسنا. هذه الأشياء نسميها وسائط النعمة. فريضتا المعمودية وعشاء الرب، والعبادة الجماعية، وشركة القديسين، وأعمال البر، هذه كلها وسائط للنعمة تعمل على تغييرنا فتقترب يومًا فيومًا حالتنا الحاضرة من مركزنا الذي نلناه عند التبرير.

إن كانت سولا فيديه (الإيمان وحده) قد صِيغت للرد على الناموسية Legalism ، أي أن الخلاص يكون بأعمال الناموس، أو حتى بمزج الإيمان بالأعمال الصالحة، فإن هذا المبدأ (الإيمان لا يوجد وحده) قد صِيغَ لحماية العقيدة الإنجيلية من الضدناموسية Antinomianism . الضدناموسية تعني أن الإنسان يتبرر لكن غير مطلوب منه طاعة الناموس. بكلمات أخرى، المؤمن يقبل المسيح كمخلص وليس كرب. والتبرير منفصل عن التلمذة. لكن هذا غير صحيح. وقد علّم المصلحون بأننا نتبرر بالإيمان وحده إلا أن الإيمان لا يمكن أن يبقى وحده. الإيمان هو الجذور والأعمال هي الثمار التي تدل على أن الجذور حية وليست ميتة.

ويمكننا القول بأن سوء فهم المبدأ المصلح بالتبرير بـ "الإيمان وحده" ناتج عن خلط بعض المفاهيم معًا. مثل خلط التبرير بالتقديس، أو عدم التمييز بين التبرير والخلاص. التبرير والتقديس متلازمان ولكن متمايزان، وكلاهما جانبان مهمان في الخلاص. والتبرير جانب من جوانب الخلاص، وكلاهما متداخلان وليس متطابقان، مع ملاحظة أن التبرير جزء من الخلاص. الخلاص يشمل كل من التبرير، وهو الخلاص من دينونة الخطية، والتقديس، وهو الخلاص المستمر من فعالية الخطية، إلى أن نصل للخلاص من سكنى الخطية فينا والذي هو التمجيد أو فداء الأجساد. عندما نقول، إذًأ، أن التبرير بالإيمان وحده نقصد أننا نخلص من دينونة الخطية وعقابها الأبدي، بدون أية أعمال أو مساهمة من طرفنا.

الإيمان: معرفة وتصديق وثقة

الإيمان يشمل ثلاثة عناصر. أولاً المحتوى المعرفي (رسالة الإنجيل)، وثانيًا تصديق هذا المحتوى المعرفي، ثم ثالثًا الإتكال القلبي الشخصي على عمل الإنجيل. الإيمان إذًأ لا يمكن أن يوجد بدون معرفة واعية بعمل المسيح. أي أنه ليس مجرد اختبار منفصل عن الحق النظري للإنجيل. وليس اختبار عبر ديني يمكن أن يوجد خارج المسيحية كما يقول الليبراليون والمتصوفة والشموليون. ولا يمكن أن يكون هناك إيمان ضمني Implicit Faith أي أن الشخص يستطيع أن يكون له إيمان خفي، أو ضمني، بالمسيح، دون أن يكون له معرفة به، من خلال تصديق وطاعة الكنيسة التي تعرف كل شيء عن المسيح. من ناحية أخرى، فإن الإيمان ليس مجرد القبول العقلي لحق الإنجيل بدون الإتكال القلبي الشخصي على شخص المسيح وعمله.

تعريف الإيمان بهذا الشكل يكون، من ناحية، للحماية ضد التعليم الكاذب بـ عالمية الخلاص والذي يشمل الادعاء بأن الإختبار الديني واحد في كل الأديان وأن الجميع في النهاية، أو على الأقل ذوي التقوى من مختلف الديانات، سيخلصون. وهو، من ناحية أخرى، للحماية من الضدناموسية التي تجعل التبرير مجرد قبول عقلي لرسالة الإنجيل وليس ثقة وإتكال يولّدان الطاعة.

الإيمان عطية الله

وهذا معناه أنه يحدث بعد التجديد، ويُولد من النعمة. إننا لا نتجدد لأننا آمنا، بل آمنا لأننا تجددنا. بكلمات أخرى، هل النعمة تأتينا كنتيجة لإيماننا، أم أن الإيمان يأتينا كنتيجة لعمل النعمة فينا؟ أيهما سبب والآخر نتيجة؟ الإيمان، طبقًا للتعليم المصلح المتمركز حول الكتاب المقدس، يُعطى لنا كهبة. نحن نحصل على النعمة من خلال الإيمان، بينما الإيمان نفسه هو عمل النعمة. كلاهما يغذيان ويصبان في أحدهما الآخر. إلا أن النعمة تظل هي الأساس. ذلك لأننا أموات بالذنوب والخطايا لا نستطيع (ولا نريد) الإيمان بل نحتاج إلى القيامة الروحية والتجديد أولاً لكي نكون قادرين على الإيمان. لهذا يقول بولس أن الإيمان، جنبًا إلى جنب مع الخلاص، هو عطية الله "لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان، وذلك (تعود على كل ما سبق) ليس منكم هو عطية الله" (أف ٢ : ٨)، وأنه "وُهِبَ" لنا لا أن نؤمن فقط بل أن نتألم أيضًا من أجله (في ١ : ٢٩).

الإيمان وسيلة

قد يثور سؤال، حتى وإن كان التبرير بالإيمان وحده، فهذا في حد ذاته لا ينفي كون الإيمان عمل، فلما لا نعتبر الإيمان عمل؟ الإيمان عمل بالفعل، لكنه عمل الله فينا (كما رأينا في الفكرة السابقة). وذلك ليكون الواسطة التي ننال بها التبرير. الإيمان لا يمكن أن يكون عملنا، لأنه عطية الله. لذلك فهو الواسطة التي بها نتبرر أمام الله. إن القول أن الإيمان مجرد واسطة لنوال التبرير يحفظنا من الوقوع في خطأ اعتبار الإيمان في حد ذاته عملاً. مرة أخرى، إنه عمل الله فينا ليكون الواسطة التي ننال بها نعمته المبررة.

إن هذا لا يتعارض مع ما قصده الرب يسوع في إجابته على سؤال اليهود "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله"، بقوله "هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله" (يو ٦ : ٢٨ - ٢٩). لاحظ أن اليهود يسألون عن "أعمال" (صيغة الجمع)، لكن الرب يجيبهم بأن هناك عمل واحد "العمل" (صيغة المفرد)، وهو أن يؤمنوا بالذي أرسله. وكأن الرب يقول لهم بكلمات أخرى، لا يوجد أعمال، لكن إيمان فقط، إيمان بالعمل الواحد والوحيد الذي سأعمله أنا المسيا مخلص اليهود والعالم.

الإيمان سلبي

وهذا معناه، تأسيسًا على النقطة السابقة، أن الإيمان الذي يبرر لا يفعل شيء بل يستقبل فقط عمل المسيح لأجله. الإيمان المخلص يقبل ما عُمِلَ من أجله بالفعل. وإن أثار لديك هذا الأمر الاعتراض المعتاد بأن هذا يؤدي إلى الضدناموسية، فإننا نكرر الإجابة التي قلناها سابقًا: الإيمان وحده هو الذي يبررنا، لكن الإيمان لا يمكن أن يبقى وحده، بل يثمر بالأعمال الصالحة. إننا لا ننال فقط التبرير، بل التقديس (التغيير) أيضًا. نحن لا نتحد فقط بالمسيح الذي يبررنا، ولكننا نتحد به كمن يقدسنا ويغيرنا أيضًا. إن لم نتغير، فهذا معناه أننا لم نتبرر. ورغم كل ذلك، يظل الإيمان المُخَلِّص سلبيًا بمعنى أنه لا يفعل شيء، بل يستقبل ثمار العمل الكفاري الكامل للمسيح.

خاتمة

تلخيصًا لما سبق فإن التبرير، إذًا، يكون بالإيمان وحده، لكن الإيمان لا يمكن أن يبقى وحده بل يثمر بالصلاح. الإيمان يعني أن نعرف محتوى رسالة الإنجيل، ونصدقها، ثم نتكل عليها شخصيًا لخلاصنا. الإيمان هبة تأتينا بعد التجديد، ولذلك فهو الوسيلة نخلص بها عندما نتكل على ما عُمِلَ بالفعل من أجلنا. الإيمان إذًا سلبي لا يفعل شيء ولكن يستقبل عمل كامل بالفعل. وهذا المبدأ، بتعريفه والتحفظات عليه، يحفظ تعليم النعمة. ويضمن ضرورة وحتمية ذبيحة المسيح الكفارية. لأنه إن كان الخلاص بالأعمال، أو حتى بمزيج من الإيمان والأعمال، إذًأ، فعمل المسيح غير ضروري، طالما أن الإنسان قادر على نوال القبول من الله بمجهوداته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس