أسبقية التوحيد على تعدد الآلهة

 

ينادي التطوريون بأن الإنسان تطور في تدينه، فبدأ بالأرواحية أو حيوية المادة (عبادة الجماد ونسبة الروح له)، مرورًا بكل من تعدد الآلهة، والهينوثية (إله واحد لكل أمة أو قبيلة يختص بكل شيء)، ثم وصولاً إلى التوحيد. أن تقول أن الإنسان تطور في تدينه هو بمثابة القول أن الدين (الحقيقي) لم يأتي بإعلان من الله، وأن الإيمان بفكرة الإله الواحد هو نتيجة تطورات حضارية وثقافية معينة، والتطبيق المنطقي لذلك هو أنه آن الأوان للتطور والتخلص من فكرة الإله والتوحيد كلية.

ولكن طبقًا للكتاب المقدس، فإننا نؤمن أن العكس حدث. أي أن الإنسان بدأ بالتوحيد، وقد ظل هذا التوحيد موجودًا لدى الآباء إلى ما بعد نوح ثم شتات الأمم في برج بابل. وبينما تشتت البشر في أنحاء الأرض، بعد ثورتهم وعصيانهم على الرب في برج بابل، أخذوا في تعديد الآلهة وعبادة الطبيعة. وهذا ما يؤكده المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجي.

وقبل أن نستعرض هذه الأقوال ثمة ملاحظة واجبة هنا، وهي أنه ليس من الضروري أن التوحيد لدى القدماء، في كل صوره، وأوقاته، كان توحيدًا بالمعنى الكتابي. إذ بعيدًا عن الأتقياء الذين عبدوا الرب مثل شيث وأخنوخ ونوح وعائلته، لربما كانت فكرة التوحيد لدى القدماء غير دقيقة أو مشوهة. إلا أنه يظل أن التوحيد أسبق من تعدد الإلهة بناء على هذا المنظور. وهذا في حد ذاته يكفي لدحض الفكرة التطورية بأن الإنسان بدأ بالأرواحية ثم تعدد الآلهة ثم الهينوثية إلى أن وصل للتوحيد.

في الفصل الثاني من كتاب "الأحجار تتكلم" يسعى الدكتور جون إلدر لإثبات أسبقية الاعتقاد بالإله الواحد على الاعتقاد بتعدد الآلهة، وهذا على عكس الفكرة التي بدأت في الانتشار بدءًا من تشارلس دارون ويوليوس ويلهاوزن في القرن التاسع عشر، بأن البشرية بدأت بالاعتقاد بتعدد الآلهة ثم تطورت في اعتقادها هذا إلى أن وصلت لعبادة الإله الواحد الذي نراه في عبادة العبرانيين. وعلاوة على قوله بأن علماء الآثار قد أثبتوا أن حركة تطور الحضارة في تاريخ الممالك والشعوب القديمة ليست حركة آلية منتظمة، بل هناك فترات كثيرة من الانتكاس والرجوع إلى الوراء، فإنه إلى جوار ذلك يؤكد أن البشرية بدأت بالاعتقاد بالإله الواحد ثم إنحدرت وعددت الآلهة، وأن الآباء والأنبياء العبرانيين نادوا بالعودة لعبادة الإله الواحد. [1]

أَوْرَدَ إلدر الكثير من أقوال العلماء التي تثبت أقدمية التوحيد على تعدد الآلهة. وكمثال من بين تلك الأمثلة التي تثبت أقدمية التوحيد على التعددية يقول عالم الآثار وأستاذ العلوم الأشورية بجامعة أكسفورد ستيفين هربرت:

"إنني أؤكد بثقة أن عقيدة الوحدانية، في الديانات السامية، والسومرية، قد سبقت الإيمان بتعدد الآلهة، والاعتقاد بالأرواح الخيرة والشريرة. فكل الديانات السامية قد بدأت بالإيمان بإله واحد للقبيلة، قام بخلق أفرادها، ويسهر على حفظهم ورعايتهم. وتاريخ الديانات في المجتمع الإنساني، ليس سوى تاريخ سقوط الإنسان وارتداده" (وهذه العبارة الأخيرة وحدها تؤكد تاريخية أحداث الخلق والسقوط).

ويطالعنا أيضًا إلدر على ما قاله العالم النمساوي شميدت في كتابه "تطور الديانات" في هذا الصدد، إذ يقول: "إن الذي يدرس الآثار القديمة في مختلف أنحاء العالم، يستطيع أن يدرك أنه بين القبائل البدائية، كانت تسود المعتقدات بإله واحد، وبأن حياة خالدة قادمة لا محالة ... ". [2]

يذكر أيضًا أستاذ التحليل النفسي بجامعة نيويورك بول فيتز في كتابه "إيمان من لا أب لهم: سيكولوجية الإلحاد" كيف أن الاعتقاد بأن الأديان تطورت من التعددية إلى التوحيد لا أصل له من الصحة، وكيف كان هذا الاعتقاد سببًا في إلحاده قبلما يتحول إلى المسيحية في نهاية الثلاثينات من عمره.

يخبرنا فيتز عن ملابسات عن هذا الانحدار من التوحيد إلى التعددية:

"أما بخصوص تعدد الآلهة فلم ينشأ إلا عندما بدأت الثقافات أو القبائل البدائية القديمة الإختلاط أو الامتزاج فيما بينها بسبب غزو بعضها للبعض الآخر. وعندما تحولت تلك الثقافات إلى إمبراطوريات، إما عن طريق الغزوات أو اتفاقيات السلام المشتركة، ضُمَّتْ الآلهة الكثيرة إلى بعضها. ومن خلال هذا المنظور فإن التغييرات التي طرأت على فكرة الألوهية ليست تطورًا بل رجوعًا أو تأخرًا حيث بدأت تلك الثقافات من الوحدانية إلى بعض الآلهة القليلة ثم آلهة كثيرة إلى أن وصلنا في عصرنا هذا حيث يكون كل واحد إله. وبهذا فقد كانت اليهودية عودة لعبادة الإله الواحد التي لفظتها المجتمعات الأحدث نسبيًا من المجتمعات البدائية الأولى. وهكذا فلم تكن أسباب إلحادي مؤسسة على العقل أو المنطق ولكنها فقط اجتماعية ونفسية". [3]

وبالمناسبة فإن الدكتور فيتز يذكر في نفس الكتاب أيضًا أنه كان داروينيًا ملحدًا، وأن الداروينية فُرِضَتْ على الوسط الأكاديمي الذي كان يعمل فيه أستاذًا للتحليل النفسي، كنوع من الثقافة التي لابد أن يعتقنها الأكاديميون لِيُقْبَلُوا في هذا الوسط، إلى أن افتقدته نعمة الله فنبذ الداروينية وأصبح مسيحيًا يؤمن بتعليم الخلق التاريخي.

ويذهب اللاهوتي آر. سي. سبرول أبعد من ذلك بالقول ليس فقط بأسبقية التوحيد على التعددية، بل إنه إلى جوار تعديد الآلهة ظل الاعتقاد بالتوحيد موجودًا بين القبائل البدائية القديمة التي كانت تعبد الجماد:

"أحد الأدلة على وجود التوحيد في القديم: يقول علماء الأنثروبولوجي أنه على الرغم من سيادة مذهب الأرواحية في القبائل البدائية القديمة في العالم إلا أن الناس عادة ما تكلموا عن إله على الجانب الآخر من الجبل، وأنه مجهولاً ومنفصلاً عنهم بعيدًا. وهذا يتطابق مع حديث بولس في أريوس باغوس عن الإله المجهول الذي خلق كل شيء". [4]

أخيرًا وليس أخرًا، طبقًا لموسوعة الأديان، فإن تعدد الإلهة كان إنحطاطًا أو إنحدارًا عن فكرة التوحيد:

"على قدر غموض ينابيع التوحيد، إلا أنه يمكن تمييزها في أقدم مستويات الحياة الثقافية البشرية المعروفة، في الإله الأعلى البدائي للصيادين القدماء. إن نظرية أورمونوثيسموس Urmonotheismus ("التوحيد الأصلي") كما طرحها ويلهلم شميدت Wilhelm Schmidt وآخرون، قد رأت أن التوحيد البدائي كان أقدم أشكال الإدراك البشري للإله، وأن تعددية الآلهة والأرواح الموجودة في معظم الأديان البدائية كانت انحطاطًا عن هذا التصور الأصلي. على الرغم من أن هذه النظرية لا يمكن إثباتها في تاريخ الأديان، فقد أوضحت الأبحاث في السنوات الأخيرة أن العديد من الشعوب البدائية، أو القديمة، لديها تصورات عن الإله السامي الذي هو خالق العالم، وله سلطة عُليا على الآلهة والأرواح الأخرى، ويرأس الأخلاق الإنسانية. بعض الشعوب الأكثر عراقة، مثل مجموعات معينة في أفريقيا، والسكان الأصليين الأستراليين، والصيادين الرّحل في تييرا ديل فويجو، لديهم تصورات محددة عن إله أعلى مرتبط بالسماء لا يتغير، غير مرئي، وكلي القدرة والذي يعطي الأخلاق. الإله الأعلى السماوي يتميز بكونه إله بعيد (deus otiosus)، بعيد جدًا، كلي القدرة ، صالح، وعادل لدرجة أنه لا يحتاج إلى العبادة أو الانخراط الحميم في الوجود العادي؛ هناك آلهة وأرواح أقل يلعبون دورًا أكثر نشاطًا في حياة الناس". [5]

تأسيسًا على كل ما سبق، فإن الأدلة التاريخية ليست فقط تنفي النموذج التطوري للأديان، بل تؤكد العكس. مُثْبِةً بذلك صحة الكتاب المقدس في أن الإنسان بدأ بالتوحيد، لكونه مخلوقًا على صورة الله ومثاله، وأن جزء من هذه الصورة هو ما أسماه جون كالفن بـ "الإحساس بالإلهي" (الحق المعلن في قلبه عن الخالق)، لكن مع الوقت تشوهت هذه الفطرة، إن جاز لنا التعبير، فعبد الإنسان المخلوق دون الخالق. تطبيقًا لذلك، فإن القول ان قدماء المصريين هم أول من عرف الله وآمن باليوم الآخر، لا يخدم الحق الكتابي، بل يثبت النظرة التطورية الإلحادية، بأن الإنسان توصل إلى التوحيد كنوع من التطور. إذ أنه من المعروف أن الفراعنة عبدوا آلهة كثيرة قبل أن يكون لديهم أي مفهوم عن التوحيد. مع ملاحظة أن التوحيد لدى إخناتون لم يكن توحيدًا بالمعنى الكتابي، بل يظل توحيدًا وثنيًا. راجع مقال آخر بعنوان "تعليق على مقال التدين الشكلي والتشوه النفسي للدكتور ماهر صموئيل".


[1] جون إلدر – الأحجار تتكلم – عزت زكي – دار النشر الأسقفية - ص. 29-34
[2] Ibid
[3] Vitz, Paul C., Faith of the Fatherless : The Psychology of Atheism, San Francisco: Ignatius Press, 2013, p. 133
[4] Sproul, R C., What Is the Trinity?, 2019, p.18
[5] Jones, Lindsay, Encyclopedia of Religion, McMillan Reference USA, p.6409

تعليقات

  1. الرب يبارك قلمك، أصلى ان حضور الروح القدس يوجه خدمتك المؤثرة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس