الطبيعة المُنْعِمَة للوحي


يمكن إنكار الإعلان الخاص، أو الوحي، بأكثر من صورة. فبالإضافة إلى إنكاره كليًا، أو بجعله يقتصر على المفاهيم أو المعاني فقط دون الألفاظ، هناك أيضًا محاولات بإعادة تعريفه بحيث يتم توسيع مفهوم الوحي ليشمل الكثير مما كتبه الآباء الأقدمون. والسبب في ذلك هو أن الكثير من كتابات الآباء متضاربة، بل ومنها ما خرج عن قويم الإيمان. أن تقوم بتوسيع مفهوم الوحي ليشمل كل هذه الكتابات، هو أن تقول ضمنًا أنه لا شكل معين للمسيحية، وأنه لا يوجد عقيدة قويمة. ويبدو أن هذا هو ما يسعى إليه من يدعون بذلك.

السؤال هنا: ما الفرق بين الادعاء بأن الوحي يشمل كتابات الآباء، وبين ادعاء الناقد التاريخي للكتاب المقدس والتر باور، بأنه كان هناك أكثر من مسيحية واحدة، أو أكثر من نسخة للمسيحية. أي أن المسيحية لم تكن مقصورة على الكتابات القويمة (الأسفار القانونية للعهد الجديد)، بل شملت الكتابات الغنوصية بدورها أيضًا. طالما أن الوحي ليس مقصورًا على الستة والستين سفرًا، بل يشمل ما كتبه الآباء، فلماذا لا يشمل أيضًا الكتابات الغنوصية، في القرون الأولى، إن كان معيارنا هو القرب التاريخي من الحدث؟

لكن في صميم هذه الادعاءات إنكارًا لطبيعة النعمة في الإعلان الخاص وبدلاً من ذلك اعتبار الوحي شيء خاضع للاجتهاد أو الاستحسان البشري. إلا أن الوحي كإعلان الله الخاص هو نعمة وليس اجتهاد. لسنا نحن من نقرر ماهية الوحي (أو الأسفار القانونية) بل هو كذلك في ذاته. ولسنا نحن الذين نصل إلى إعلان الله الخاص، بل هو الذي تنازل ووصل إلينا ووجدننا.

وهنا يأتي الدور الخطير الذي تقوم النظرة المتمركزة حول الله ونعمته فيما يتعلق بمسألة الإعلان الخاص. على سبيل المثال، يقول التطوريون، ومعهم الليبراليين، أن الكون جاء عن طرق الإنفجار الكبير والتطور، وليس الخلق بالنعمة من العدم في ستة أيام حرفية. وأن الإنسان يخلص بأعماله وجهاده، وليس بالعمل الكفاري الذي عُمِلَ من أجله على الصليب. وأنه أيضًا، أي الإنسان، يصل إلى معرفة الله بالعقل والاجتهاد والبحث، وليس بالإعلان الخاص المُعْطَىَ له بالنعمة.

الإنسان الطبيعي يريد أن ينسب كل شيء لمجهوده ويُخْضِعُ كل شيء لاستحسانه. لكن الوحي مثله مثل كل عاطايا الله أتانا من قبيل نعمته المحضة. الوحي عطية من الله لا نخلقها نحن ولا نقرر ماهيتها، لكننا فقط نتعرف عليها، ثم نعترف بها ونخضع لها. الوحي ليس ما نستحسنه نحن، بل ما هو حسن بالفعل في ذاته. لكن لماذا نقول أن الوحي، كإعلان خاص، هو عطية من عطايا النعمة علينا فقط أن نقبلها؟

إن كل إعلانات الله عن نفسه هي نعمة. صحيح أن الله عرفوه بالعقل، من خلال الإعلان العام. إلا أنه رغم ذلك تنازل الله وأعلن لنا عن نفسه من خلال هذا الإعلان. والذي لولا تنازله وإعلانه عن نفسه، ما كان لنا أن نعرفه حتى من خلال الإعلان العام. وصحيح أن كل شيء يصنعه الله لابد وأن يعكس طبيعته بصورة تلقائية، إلا أن الله من نعمته أعطانا في عقولنا وقلوبنا ما يمكننا من إدراك بصمته التي تركها على خليقته. إذًا فالإعلان العام الذي يخاطب العقل مؤسس على عمل نعمة الله في أنه شاء فتنازل ليعلن عن نفسه من خلال الطبيعة.

نحن لم نجعل الطبيعة إعلان الله العام عن نفسه، بل هي كذلك في ذاتها، ودورنا فقط هو الإدراك ثم الإعتراف. لو لم يتنازل ويعطنا الله في عقولنا وقلوبنا ما يمكننا من استقبال إعلانه العام في الخليقة، ما كنا سنصل نحن إليه من تلقاء أنفسنا.

إن هذه النعمة تزداد وضوحًا في تنازل الابن الأزلي، الكلمة المتجسد، ليتخذ له طبيعة بشرية. إنها نعمة متفاضلة أن يعلن الله لنا عن نفسه بأن يأخذ لنفسه طبيعة بشرية كاملة. لسنا نحن الذين أنزلنا المسيح من السماء، ولسنا نحن الذين صعدنا إليه. بل هو الذي أخلى نفسه صائرًا في شبه الناس فجاء إلينا متحدًا بطبيعة الضعف والمحدودية. الذي يحل فيه كل ملء اللاهوت جسديًا دون أن يشوب مجد اللاهوت أية شائبة. نحن لم نجعل الكلمة المتجسد إعلانًا عن الله، بل هو الإعلان المطلق عن الله سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه. إننا فقط نرى بالإيمان ألوهيته فنعترف بها.

الكلمة المكتوبة كإعلان خاص بدورها ليست شيئًا نصل إليه بالاجتهاد، وليست ما نقرر نحن أنه وحي، بل أُعْطِيت لنا بالنعمة.

إن محدودية الفهم واللغة البشريين من ناحية، ولا محدودية الحق الإلهي من ناحية أخرى، يستلزمان الاعتقاد بوجود ما يمكن أن نسميه بـ "التكييف" accommodation ، أو "التنازل" أو "الضبط" للإعلان المكتوب. فالله قام بتكييف حقه وضبطه ومواءمته للغة والفهم البشريين في تنازل من اللامحدود إلى المحدود، بحيث لا يخلّ بجودة الإعلان، ودون حدوث أية خسارة فيه. على أن هذا التكييف أو الضبط أو التنازل ليس من حيث الجودة، بل من حيث الأسلوب.

وكما تنازل الابن الأزلي في نعمته واتحد الإلهي بالبشري في رحم العذراء، فَوُلِدَ الإنسان-الإله يسوع المسيح، هكذا أيضًا تنازل روح الله في نعمته، وأوحى لكتبة الوحي برسالته في عقولهم، فكتبوا لنا وحيًا اتحد فيه الإلهي بالبشري. لو لم يتنازل الله ليعلن لنا عن ذاته في صفحات الوحي، وبلغة بشرية نفهمها، ما كنا سنصل نحن بعقولنا أو بمجهوداتنا إلى الحق المدون فيه. إنها نعمة أن يكون بيد أيدينا إعلان الله عن نفسه. إنه لتنازل عجيب من طرفه أن يكلمنا عن الحقائق الأزلية المتعلقة بشخصه في لغة بشرية محدودة.

على أنه ليس هناك شخص كفؤ للقيام بهذه المهمة سوى الله نفسه. بما أن أمور الله لا يعرفها أحد سوى روح الله (١ كو ٢ : ١١)، وبما أن التعبير عن الحقائق السرمدية التي تخص الله في لغة بشرية محدودة يحتاج نعمة وقدرة فائقتان، إذًا، فلا يمكن أن يكون وحي إلا ذاك المكتوب بواسطة الله نفسه. بكلمات أخرى، من يستطيع أن يخبرنا عن الله سوى الله نفسه الذي يعرف ذاته جيدًا؟ ومن يستطيع أن يخبر بشر محدودون، بحقائق أزلية غير محدودة عن الله، إلا أن كان يمتلك القدرة التي يَعْبُرُ بها من اللامحدود إلى المحدود، ومن الأزلى إلى الزمني؟

إن ضرورة أن يكون الله هو المعلن لنفسه، وأنه هو الذي يكتب إعلانه الخاص بنفسه، تصبح أكثر إلحاحًا في ظل الخطية الأصلية. عندما سقط آدم وأورث لنسله الفساد، صار كل شيء في الإنسان تحت تأثيرات ذلك الفساد، بما في ذلك العقل. وهذا ما يسمى في التعليم المصلح بـ "التأثيرات الفكرية للخطية الأصلية". تطبيقًا لهذا، فإنه لا يمكن أن يكون أمر معرفة الله أو اكتشاف حقه متروكًا للمجهودات البشرية النابعة من عقل ملوث بالخطية الأصلية. إن هذا يعني أن الإنسان سيخلق إلهًا على صورة فساده الداخلي. وما الأديان كلها، فيما عدا الديانة الكتابية المُعْلَنَة، سوى نتاج خيالات بشرية ملوثة بالخطية الأصلية؟

إعلانات الله جمعيها، إذًا، بالنعمة، في كل من الخلق والتجسد والوحي. الله وحده هو الذي يستطيع أن يعلن عن نفسه لأنه وحده الذي يعرف ذاته، ولأنه وحده الذي يستطيع أن يعبّر عن حقه اللامحدود في لغة محدودة، ولأن الإنسان فاسد جذريًا لا يمكن أن يؤتمن على مهمة اكتشاف الله بنفسه. لسنا نحن إذًا من نقرر ماهية الإعلان، عامًا كان أو خاصًا. بل الإعلان هو كذلك في ذاته.

إن التضمين الخطير لكل ما سبق هو أنه لابد أن يكون الوحي شيء يُعْطَى لنا بالنعمة، وليس شيئًا نقرر نحن ماهيته. الكنيسة الأولى لم تقرر ما هي الأسفار الموحى بها، بل وجدت الأسفار الموحى بها إلهية، لما لها من جمال واتساق وقوة وحياه في ذاتها، فاعترفت بها. ليس قرار بالقانونية بل إقرار لما هو قانوني بالفعل وفي ذاته. كما أننا لا نستطيع أن نقصر الوحي على المعنى أو المفهوم فقط، لأن هذا بمثابة العبث بإعلان الله الخاص عن نفسه، عن طريق اقحام مفاهيم أو أفكار خارجية عليه. إن اضافة أو إقحام الأفكار الخارجية على الوحي تشبه إضافة الاستحقاق إلى النعمة. رد الفعل الوحيد والسليم تجاه الوحي الكتابي، في الستة والستين سفرًا، إذًا، هو أن نقبله كنعمة، كما هو، ونعترف بإلهيتيه، وندعه يتكلم إلينا كما يريد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس