هل ينبغي أن ننزعج من بعض التشابهات بين الكتاب المقدس والأساطير القديمة؟


يخرج علينا أحد دعاة الليبرالية اللاهوتية في مصر بين الحين والآخر ليبرز التشابهات بين بعض ما ورد في العهد القديم من ناحية، وبين ثقافة وأساطير شرق أدنى (ولا سيما العراق ومصر) من ناحية أخرى، على أنها "اقتباسات العهد القديم من الأساطير". همه الأول والأخير هو القول أن هناك أشياء مشتركة بين العهد القديم والأساطير. لكن أن تقول أنها اقتباسات لكي تثبت بذلك أن الديانات كلها في جوهرها شيء واحد ولكن تم التعبير عنه بصور مختلفة تبعًا لكل ثقافة وزمان هو أن تقترف خطئًا جوهريًا في حق الكتاب المقدس والمسيحية. هي محاولة مستترة للطعن في تميز الكتاب المقدس ومصداقيته.

وللرد على هذا اللغط حول العلاقة بين العهد القديم وأساطير شرق أدنى، والذي يتم استغلاله للطعن في تميز وأصالة الكتاب المقدس، علينا أن نميز بين نوعين من التشابهات. تلك التي اِقْتَبَسَت فيها الأساطير من أحداث الكتاب المقدس، كالخلق والطوفان، وقامت بالإضافة إليها وزخرفتها. ونوع آخر من التشابهات استخدم فيه كتبة العهد القديم لبعض المصطلحات وأنماط التفكير من ثقافة شرق أدنى بغرض تحدي الآلهة الوثنية وفضحها وفي نفس الوقت إظهار تميز وسلطان الرب المطلق.

في كلتا الحالتين، فإن التشابه بين العهد القديم من ناحية وبين ثقافات شرق أدنى من ناحية أخرى، هو مثل تشابه العملة الأصلية مع عملة أخرى مزيفة. بالطبع النص الكتابي هو الأصل لأنه الحق والأسطورة هي العملة المزيفة. فالشيطان قلد الكثير من الأشياء التي عملها الله عبر التاريخ الفدائي. كما أن الإنسان نفسه استبدل الحق المعلن له بديانة طبيعية يخدر بها ضميره ويشبع بها الأبدية التي جلعها الله في قلبه (أو إحساسه بالإلهي كما أسماه كالفن).

ثم شتان الفرق بين القول أنها إقتباسات والقول أنها تشابهات. الإقتباسات تدل على الإعتمادية، أي أن مادة الكتاب المقدس ليست أصيلة، بل استعار أو اقتبس مادته من الأساطير. هل تريد مثلاً أن تعتبر قول المرنم "ليس إله" اقتباسًا؟ في الحقيقة إن المرنم هنا يرد على المتشكك الذي يقول أنه ليس هناك إله "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز ١٤ : ١). إن هذا ما يفعله الكتاب المقدس حتى وإن لم يقل لنا صراحة أنه يفعل ذلك. وإن كان هناك حالات، كما سنرى، استعار (أو بالحري استخدم) فيها العهد القديم مصطلحات وأنماط فكر من حضارات شرق أدنى، إلا أنه ليس اقتباس الاعتمادية، بل إستخدام لغتهم ومصطلحاتهم لتحدي آلهتهم ومن ثم إثبات زيفها. إن الأمر أشبه بداود عندما قام بضرب جليات بمقلاعه ثم إستخدام سيفه لقتله به. إن العهد القديم يستخدم ذات سيف الآله الوثنية ليقتلها به.

التشابهات، إذًا، لها تفسير آخر. ألا وهو أن النصوص المقدسة لا تحاول الإقتباس ولكن المواجهة، والتحدي، والمسايقة التاريخية، وتقديم إجابات على الأسئلة الشعبية السائدة حينها بتجريد الأسطورة من الزخارف لتقديم الحقيقة. وبتجريد الآلهة الوثنية من أي قوة مزعومة لها من خلال استعمال لغة مشابهة وأنماط فكر لتلك التي يستعملها الوثنيون مع آلهتهم. أي إظهار الزيف من خلال إعلان الحق ووضع العملة الحقيقية إلى جوار المزيفة لفضحها.

وبينما كُتبت التوراة في زمن الخروج ١٤٤٥ ق. م. إلا أن الأحداث التي جاءت في الأصحاحات الإحدى عشر الأولى منها (الخلق والسقوط والطوفان وبرج بابل ثم دعوة إبراهيم) سابقة عليها. لقد كان هناك تقليد آبائي عن هذه الحقائق ولا سيما أن الآباء عاشوا أعمارًا طويلة. فآدم عاش أكثر من تسعمائة عام وكان له خمسون ابن وابنة (طبقًا ليوسيفوس). كما أنه عاصر أخنوخ ولامك ومهللئيل (وآخرون). وهذين الأخيرين بدورهما عاصرا نوح. وسام ابن نوح عاصر إبراهيم، وهكذا. كل هذا يؤكد أنه كان هناك حق متعلق بالأحداث الكونية الأولى تم تناقله بواسطة الآباء إلا أن الوثنيون، بعد شتات برج بابل وتفريق الأمم، قاموا بتشويهه.

إن ما أسعى لقوله هنا هو عكس ما ادعاه بولتمان.

يقول بولتمان، أحد رواد منهج النقد التاريخي، أن المعجزات في العهد الجديد هي أشياء أسطورية. ولا يمكن أن يكون العهد الجديد ذي موضوع وارتباط بالإنسان المعاصر في زمن العلم، سوى بتجريده من العنصر الخرافي (المعجزات) Demythologization ، ومن خلال إزالة تلك القشرة الأسطورية من العهد الجديد يستطيع بذلك مخاطبة البشر جميعًا.

فضلاً عن أن بولتمان مخطئ هنا بصفة جوهرية بادعاءه إمكانية فصل العقيدة عن التاريخ المعجزي في العهد الجديد، فهو أخفق أيضًا في ملاحظة أن الكتاب المقدس هو الذي قام بعملية تجريد الخرافات الوثنية وفضح الآلهة الوثنية عن طريق الحق المقدم في التاريخ الفوقطبيعي (المعجزي). النص الكتابي هو الذي تحدى الأسطورة والخرافة والوثنية عن طريق تقديم الحقيقة بلغة وفي إطار يسمحان بالتسييق التاريخي في عصر الأساطير القديمة. وما ينطبق على العهد الجديد ينطبق على العهد القديم أيضًا.

The Biblical text demythologizes ancient myths, not the other way around.

وهذه بعض الملاحظات التي يمكن أن نأخذها في الإعتبار عند مناقشة هذه المسألة.

أولاً النصوص التي تبدو متشابهة مع الأساطير هي إجابات وليست اقتباسات

لم تكن الميثولوجيا القديمة قصص للتسلية. ولم تكن مجرد ثقافة شعبية شائعة أو نوع من الفولكلور. بل ديانات اعتنقها القدماء تتناول الميتافيزيقا. بكلمات أخرى، كانت منظورًا كونيًا رَأَىَ من خلاله القدماء أصل الحياة والأخلاقيات والمصير بعد الموت. أو كما يقول المؤرخون، أن الميثولوجيا كانت هي الفلسفة التي اعتنقها القدماء في صورتها الأولية. وأن الفلسفة اليونانية الكلاسيكية وُلِدَت من تلك الميثولوجيا البدائية.

وهذا من شأنه يقود إلى استنتاج هام حول علاقة الكتاب المقدس بالميثولوجيا. إن كان الحق الإلهي الذي تناقله الآباء حول التاريخ الكوني (تك ١ - ١١) قد تم تشويهه في أساطير شرق أدنى (مثل إنوما إليش وجلجامش) بإضافة الزخارف الأسطورية إليه، فإن الكتاب المقدس أراد أن يتحدى ويواجه تلك الخرافات الوثنية التي امتلأت بتعدد الآلهة والجنس والدموية والصراعات، من خلال إعلان النسخة الأصلية من الحق (التوراة وباقي الكتاب المقدس).

إن القدماء أدركوا جيدًا أن الكتاب المقدس كان يتحدى الأساطير والوثنية وإن لم يقل ذلك صراحة. فقد كانت هذه بيئة القدماء وثقافتهم ولم يحتاجوا إلى أن يخبرهم أحد صراحة بخطة الكتاب المقدس أو منهجه في التعامل مع الوثنية. كان واضحًا لدى القدماء أن النص الكتابي يقوم بفضح وتعرية تلك الأكاذيب الوثنية من خلال تقديم الحقيقة. لقد اشتبك النص الكتابي مع الآلهة الوثنية في هدوء في الخلفية دون القول صراحة أنه يتحداها وأحد الأسباب لذلك ببساطة هو أن كتبة الوحي أدركوا أن هذا كان سيتم فهمه بواسطة من كتبت إليهم نصوص العهد القديم (إسرائيل). المشكلة هي أنه عندما جاء أصحاب النقد التاريخي ظنوا أن النص المقدس استعار أو اقتبس أو تبنى الخرافة القديمة.

الملاحظة الثانية هي أننا ننزعج بحق لو لم يواجه الكتاب المقدس الثقافة الشعبية السائدة آنذاك وما تعتنقه من ميثولوجيا دينية

لقد جاءت النصوص الكتابية في سياق تاريخي معين فكان عليها أن تقوم بالمسايقة التاريخية والثقافية. وهنا يثور سؤال منطقي؛ هل كان ممكنًا للنصوص الكتابية أن تتجاهل الخرافات الوثنية دون تعريتها وفضحها وتقديم إجابات عليها؟ قطعًا لا. وإلا لجاءت النصوص الكتابية، التي وُجِّهت في الأصل للقدماء، منعزلة عن السياق التاريخي الثقافي لها. كان ذلك سيكون إخفاقًا من طرف النص الكتابي ألا يتحدى الخرافات وألا يخاطب أولئك القدماء. على سبيل المثال، رجال الدفاعيات يردون على الهجمات والهرطقات المعاصرة لهم لأنهم يعيشون في ذلك السياق. نفس الأمر بالنسبة لكتبة الوحي ولكن مع الفارق بأن كتبة الوحي كانوا يكتبون وحيًا معصومًا.

إن قمنا بالبناء على النقطة السابقة، وهي أن كتبة الوحي كانوا لابد أن يُسَيِّقوا نصوصهم الكتابية من خلال مخاطبة السياق الثقافي الديني المعاصر لهم، يتضح لنا أنه كان سيكون هناك مشكلة في النصوص الكتابية لو لم تفعل ذلك. وهي أنها كانت ستأتي منعزلة ومجردة عن السياق التاريخي الديني الثقافي الذي جاءت به. وكانت ستترك بذلك أسئلة غير مجاب عنها. وكانت بذلك ستأتي بدون أن تعبر عن موقفها من الآلهة الوثنية المعاصرة. وهذا هو الأمر المزعج بحق. ليس هناك أي شيء يزعج في إجابات النصوص الكتابية على الخرافات الوثنية. بل المزعج أنها لو لم تقدم إجابات عليها متجاهلة إياها. وعليه فهي نقطة قوة في الكتاب المقدس أنه يتحدى الخرافات الوثنية.

ثالثًا، هناك أساطير سببها أنها تأريخ إلهي أو حقيقة إلهية تحولت إلى تأريخًا مزخرفًا

الكثير من الأساطير جاءت بسبب إضافات للحقيقة، ولا سيما تلك المتعلقة بأحداث الخلق والسقوط والطوفان وبرج بابل. السبب في أننا نجد الكثير من الأساطير الوثنية تتعرض لهذه الأحداث بطريقتها الأسطورية، هو أن تلك الأحداث، في الأصل، هي أحداثًا تاريخية بالحق، كما دونها سفر التكوين. وبعدما تفرق البشر في أحداث برج بابل، ثم تناقلت الأجيال تلك الأحداث التاريخية، تم إضافة الزخارف الأسطورية إليها.

لذلك عندما كتب موسى توراته في عام ١٤٤٥ ق. م. أراد أن يقدم الحقيقة بخصوص الخلق والسقوط والطوفان والإنتشار الأولي للبشرية في الأرض في مقابل ما كان شائعًا لدى الوثنيين. من منظور ما يمكننا القول أن أسطورة إنوما إليش للخلق، وملحمة جلجامش للطوفان، هما تأريخًا لتلك الأحداث الكونية (كما دونها موسى لاحقًا)، ثم تم تشويهه بإضافة زخارف أسطورية إليه فتحول مع الوقت إلى ميثولوجيا بعيدة كل البعد عن الحق الكتابي. هو أمر أشبه بلعبة الهمس في الآذان حتى تصل الكلمة مختلفة تمامًا عن الكلمة الأصلية.

رابعًا وأخيرًا، العهد القديم استعمل بعض مصطلحات وأنماط فكر ثقافات شرق أدنى لتحدي الآلهة الوثنية

يقول باحث العهد القديم الدكتور جون كيرد John Currid والمتخصص في علاقة العهد القديم بثقافة شرق أدنى ومصر، أن التشابهات بين ما جاء في العهد القديم وبين ثقافات شرق أدنى مرجعها الطبيعة الجدلية للعهد القديم. أو كما يسمهيا كيرد "اللاهوت الجدلي" Polemical theology. والمقصود بذلك هو أن العهد القديم كُتب بصورة تتحدى آلهة الوثنيين وكأنه يسدد ضربات موجعة إليها. فالعهد القديم استعار، أو بالحري استخدم، أنماط فكر، وصور، لكي يتحدى الآلهة الوثنية، وفي نفس الوقت ليعلن تميز وتفرد وسلطان يهوه المطلق، من خلال ذلك الأسلوب الجدلي. وطبقًا لكلمات كيرد:

"اللاهوت الجدلي هو استخدام كتبة الكتاب المقدس لأشكال الفكر والقصص التي كانت شائعة في ثقافة اشرق أدنى القديمة، بينما ملأوها بمعنى جديد جذريًا. يأخذ مؤلفو الكتاب المقدس تعابير ومواضيع مشهورة من بيئة الشرق الأدنى القديمة ويطبقونها على شخص وعمل يهوه، وليس على آلهة العالم القديم الأخرى. يرفض اللاهوت الجدلي أي إقحام للآلهة الزائفة على العقائد القويمة. هناك عدم تساهل مطلق تجاه تعدد الآلهة (الشرك). اللاهوت الجدلي هو لاهوت وحدانية حتى الصميم". (Currid, Against the Gods)

يقدم كيرد أمثلة عديدة على هذا الاستعمال الكتابي لثقافة شرق أدنى لتسديد ضربات للآلهة الوثنية وإظهار تميز وتفرد يهوه عليهم. فمثلاً المرات التي ذُكر فيها أن الرب يخلص شعبه من فرعون بذراع قديرة أو ممدودة (خر ٣ : ١٩ - ٢٠ ، ٦ : ١، ٧ : ١٤ ، ١٥ : ٦)، هو في الحقيقة مصطلح مصري استخدم عن مواجهة فرعون لأعداءه بيد قوية. عبارة "هكذا يقول الرب ... " (خر ٥ : ١ ، ١٠) استعملت عن آلهة مصر "هكذا يقول أتوم". أيضًا قول إشعياء "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجه الرب، ويزول قلب مصر داخلها" (إش ١٩ : ١)، اِسْتُعْمِلَ في الثقافة الأوغاريتية عن البعل. هذه وأمثلة أخرى أوردها كيرد ليقول أن استعمال العهد القديم لتلك العبارات عن الآلهة الوثنية وتطبيقها على الرب، كان الغرض منه هو إظهار أن يهوه هو الإله الحقيقي والباقون آلهة مزيفة. فالذراع القوية الحقيقية هي ذراع يهوه التي سحقت آلهة المصريين وليست ذراع فرعون. والقول الحقيقي والنهائي هو قول يهوه الذي يخلق من العدم ويأمر فيكون "هكذا قال الرب" وليس قول آلهة مصر. وصاحب السلطان على الطبيعة والكون بأكمله ليس البعل بل يهوه. إن استعمال العهد القديم لهذه المصطلحات كان لإظهار سلطان الرب وزيف الآلهة الوثنية من ناحية، وكنوع من التهكم أو السخرية ضد تلك الآلهة من ناحية أخرى، من خلال استعمال نفس المصطلحات التي يستخدمها عابدوها في نسبة القوة إليها.

بناء على كل ما سبق، فإن التشابهات بين الكتاب المقدس، ولا سيما العهد القديم، وبين ثقافات وديانات شرق أدنى، هي إجابات من ناحية، وتحديات من ناحية أخرى للخرافة الوثنية. إننا لا نكون قد بالغنا إن قلنا أن الكتاب المقدس بطبعه كتابًا جدليًا polemical . وليس المقصود بذلك هو أن الكتاب المقدس مثير للجدل، أو أن غرضه هو السفسفطة أو الجدل الفارغ، حاشا. ولكن المقصود بذلك هو أنه يشتبك مع الخرافة والزيف ليجادلهما ويواجههما ويتحداهما ويكشفهما. فالرب يسوع المسيح نفسه تحدى التفسيرات الخاطئة للكتاب المقدس في أيامه "سمعتم أنه قيل (التفسير الخاطيء) ... أما أنا فأقول (التفسير الصحيح)". كما أن الكثير من كتابات بولس جاءت كتفنيد لأكاذيب المعلمين الكذبة. إن هذا بالضبط ما يفعله الكتاب المقدس مع الخرافات الوثنية التي شوهت الإحساس بالإلهي (الحق الإلهي المعلن في قلب الإنسان) والتقليد الآبائي الذي تناقله الآباء الأولون من آدم إلى موسى عن الأحداث الكونية.

تعليقات

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
    الردود
    1. يباركك الرب ، هولاء معلمون كذبة كل همهم نشر تعاليم إبليس لافساد جسد الرب، فهذا المدعو يقوم بهدم العهد القديم فى كلية اللاهوت المشيخية وزميله معلم اليونانية يقوم بهدم العهد الجديد لرواد الكلية فى مصر من السذج والبسطاء. فليرحمنا الرب!

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس