الكنيسة كواسطة للنعمة


إحدى نقاط الضعف الخطيرة في البروتستانتية الشرقية المعاصرة هو عدم وجود عقيدة إنجيلية صلبة عن الكنيسة (إكليزيولوجي مُصْلَح)، الأمر الذي يؤثر بصورة حرجة على أهمية الكنيسة لدى الفرد البروتستانتي المعاصر. في المقابلة مع ذلك، علّم المصلحون بحيوية الدور الذي تقوم به الكنيسة في الخلاص (الكرازة) والتقديس.

وبينما اختلف المصلحون فيما بينهم حول طريقة إدارة الكنيسة، وحول ما ينبغي أن تتضمنه العبادة (المبدأ التنظيمي في مقابل المبدأ المعياري)، إلا أنهم اتفقوا فيما بينهم على مركزية الكنيسة كواسطة للنعمة في حياة الفرد المسيحي.

لطالما علّمت الكنيسة التاريخية بأنه "لا خلاص خارج الكنيسة". الآباء علّموا بذلك، والمصلحون من بعدهم وعلى منهجهم. طبعًا ما يُقْصد بذلك ليس ما تقصده الكنيسة الكاثوليكية (والكنائس التقليدية بصفة عامة) أنه لا خلاص خارج الكنيسة لكون الكنيسة هي مانحة النعمة الخلاصية من خلال الأسرار، فالمصلحين هم أول من رفض هذا المعنى. ولا أن الكنيسة تمنح صكوك معينة يحصل الإنسان بموجبها على الخلاص، فهذا الادعاء غير الكتابي كان الشرارة الأولى للإصلاح البروتستانتي وتسمير لوثر لأطروحاته الخمس والتسعون على باب كنيسة فيتنبيرج. لكن المقصود بذلك أمران:

الأول هو أن الكنيسة اِئْتُمِنَت على رسالة الإنجيل المُخَلِّصَة (مت ٢٨ : ١٩ – ٢٠)، تمامًا مثلما اِئْتُمَنَ اليهود على أقوال الله (رو ٣ : ٢، يو ٤ : ٢٢). الأمر الثاني هو أن الكنيسة عُيِّنَت بسلطان الله لا لتكون كارزة بالإنجيل فقط، بل لتكون أيضًا واسطة لتقديس من خلصوا. الكنيسة، بشيوخها وأعضاءها ومواهبها، مُنِحَت من الله سلطان: الوعظ بالكلمة، وممارسة فريضتا المعمودية وعشاء الرب، والتأديب. هذه الأمور الثلاثة التي تمارسها الكنيسة بسلطانها حيوية لتقديس أعضاء الجسد.

يترتب على هذا نتيجتان في غاية الخطورة لما يواجه البروتستانتية الشرقية المعاصرة. الأولى، هي أنه طالما أن الكنيسة مؤتمنة على الكرازة وعلى التقديس، إذًا فلا يمكن أن يوجد إيمان حقيقي بالله، سواء في بدايته أو في استمراريته، خارج الكنيسة. وتصبح بذلك الشمولية وعالمية الخلاص مذاهب خاطئة. النتيجة الثانية هي أن موجة إعلاء اجتماعات البيوت، والإقلال من قيمة الكنائس المحلية، بسبب الفساد الذي يشوبها، في مقابلة الإعلاء من قيمة الفرد (كما يفعل التيار المابعد حداثي)، تصبح بذلك مقاومة لعمل الله.

إلا أن نظرة سريعة على الفكر المصلح، كما علّمه رجال الإصلاح البروتستانتي، ستؤكد لنا أن البروتستانتية الشرقية المعاصرة التي تحتقر الكنيسة المحلية هي بعيدة كل البعد عن المنهج المصلح.

طبقًا للاهوتي العظيم لويس بيركهوف، والذي يُعتبر لاهوته النظامي عملاً كلاسيكيًا في التقليد (التعليم) المصلح، فإن الكنيسة واسطة للنعمة في كونها تجمع المختارين من خلال الكرازة، ثم تقوم بتلمذتهم وبنائهم. يعرِّف بيركهوف الكنيسة كواسطة للنعمة كالآتي:

"يمكن تعريف الكنيسة على أنها الواسطة العظيمة للنعمة التي يستخدمها المسيح، عاملاً بالروح القدس، في جمع المختارين، وبنيان القديسين، وبناء جسده الروحي. والمسيح يؤهلها لهذه المهمة العظيمة من خلال منحها جميع أنواع المواهب الروحية، وبتأسيس الوظائف (الكنسية) لخدمة الكلمة والفريضتان، والتي كلها وسائط لقيادة المختارين إلى مصيرهم الأبدي".

وهذا ما نجده حقًا لدى المصلحون الذين سبقوا بيركهوف فجاء تعريفه كتلخيص كلاسيكي عظيم لما علّموا به.

فلوثر، باعتباره مثلاً الجيل الأول من المصلحين، اهتم جدًا بالدور الخطير الذي تقوم به الكنيسة الحقيقية واضعًا سبع علامات لها: التمسك بالكلمة، ممارسة المعمودية، وعشاء الرب، والتأديب الكنسي، رسامة الخدام الذين يعظون بالكلمة، العبادة، الألم من أجل المسيح رب الكنيسة. فضلاً عن ذلك، علّم لوثر أيضًا بأنه لا يوجد خلاص ولا نمو ولا معرفة عن المسيح إلا من خلال الكنيسة:

"لذلك من يريد أن يجد المسيح يجب أن يجد الكنيسة أولاً. كيف لنا أن نعرف أين كان المسيح والإيمان به، إذا لم نعرف أين يوجد مؤمنوه؟ ومن يريد أن يعرف أي شيء عن المسيح يجب ألا يتكل على ذاته وألا يبني جسرًا إلى السماء من خلال عقله، ولكن عليه أن يذهب إلى الكنيسة ويحضر بها ويسألها. الكنيسة الآن ليست خشبًا وحجرًا، بل شركة المؤمنين. يجب على المرء أن يتمسك بهم، ويرى كيف يؤمنون ويعيشون ويعلّمون، بالتأكيد لديهم المسيح في وسطهم. لأنه خارج الكنيسة المسيحية ليس هناك حق، ولا مسيح، ولا خلاص".

كالفن بدوره أيضًا، وباعتباره الجيل الثاني من المصلحين، أكد على العناصر الثلاثة الضرورية لقيام أي كنيسة: وعظ سليم بالكلمة، ممارسة صحيحة لفريضتا عشاء الرب والمعمودية، والتأديب الكنسي. كالفن، مثل نظيره لوثر والكثير من المصلحين والآباء، علّم بأنه لا يوجد خلاص ولا حياة خارج الكنيسة، وأن من نال الحياة لا سبيل له في النمو فيها بعيدًا عن الكنيسة:

"لمن يكون [الله] لهم أب فإن الكنيسة تكن أيضًا أم ... حيث أنه لا توجد طريقة أخرى للدخول للحياة ما لم تحمل بنا هذه الأم في رحمها، وتلدنا، وتغذينا على صدرها، وأخيرًا، ما لم تحافظ علينا تحت رعايتها وإرشادها إلى أن نخلع الجسد المائت ... إن ضعفنا لا يسمح لنا بأن نتخرج من مدرستها إلا بعد أن نكون قد صرنا تلاميذها طوال حياتنا. علاوة على ذلك، بعيدًا عن حضنها لا يمكن للمرء أن يأمل في أية مغفرة للخطايا أو أي خلاص".

كالفن لا يقول هنا، وكما قد يبدو هذا الكلام للأذن البروتستانتية الشرقية المعاصرة، أن الكنيسة نفسها تخلصنا. إطلاقًا. لكن فقط هي المؤتمنة على الكرازة بالإنجيل الذي يخلصنا. ومؤتمنة أيضًا على الوعظ بالإنجيل الذي يقدسنا. الإنجيل هو الذي يمنحنا الحياة، ويواصل تغذيتنا بهذه الحياة، من خلال خدمة الكنيسة في الكلمة والفريضتان.

ليس فقط أن المصلحون كأفراد أقروا بكون الكنيسة واسطة للنعمة، النعمة التي تخلصنا ثم تظل معنا لتقدسنا، بل أيضًا الكثير من إقرارات الإيمان المصلحة والتي اشترك في كتابتها لاهوتيون عظماء.

على سبيل المثال، يقول دليل أسئلة وأجوبة ويستمينستر المختصر:

السؤال ٨٨: ما هي الوسائط الخارجيّة والعاديّة التي بواسطتها ينقل لنا المسيح فوائد الفداء؟

الجواب: الوسائط الخارجيّة والعاديّة التي بواسطتها ينقل لنا المسيح فوائد الفداء هي فرائضه، والأخص الكلمة، والأسرار المقدّسة (الفريضتان)، والصلاة؛ وهذه جميعها تصير فعّالة للمختارين من أجل الخلاص. (ترجمة خدمات ليجونير)

وإن كانت كلمة كنيسة لم ترد بحصر اللفظ في هذا السؤال من دليل أسئلة وأجوبة ويستمينستر المختصر، إلا أن المفهوم متضمن فيه. ذلك لأن من يقوم بخدمة الفريضتان، والوعظ بالكلمة، هي الكنيسة من خلال خدامها الذين وُهبوا المواهب المعينة لهم بسلطان الروح.

يؤكد إقرار الإيمان البلجيكي نفس الشيء أيضًا بقوله أنه لا يوجد خلاص ولا بنيان خارج الكنيسة:

"بما أن هذه الجماعة المقدَّسة هي اجتماع الذين خلصوا ولا يوجد خلاص خارجها، فنحن نؤمن إذن بأنه ينبغي على أي إنسان مهما كانت مكانته أو حالته ألا ينسحب كي يحيا في حالة منفصلة عنها؛ بل إن الجميع ملزَمون بالانضمام إليها والاتحاد بها، محافظين على وحدة الكنيسة؛ وخاضعين لتعليمها وتأديبها؛ وواضعين أعناقهم تحت نير يسوع المسيح؛ وكأعضاء مشتركين في الجسد الواحد، لا بد أن يخدموا لأجل بنيان الإخوة، حسب المواهب الممنوحة لهم من الله". (ترجمة خدمات ليجونير)

بل إن إقرار الإيمان البلجيكي يذهب أبعد من ذلك بمطالبة المؤمنين بالإنفصال عن غير المنتمين للكنيسة:

"ولأجل تنفيذ هذا على نحو أكثر فاعليَّة، على جميع المؤمنين، بحسب كلمة الله، أن يعزلوا أنفسهم عن أولئك غير المنتمين للكنيسة، وأن ينضموا إلى هذه الجماعة، أينما أسَّسها الله، حتى وإن قاومها الحُكَّام ومراسيم الأمراء؛ بل ولو لزم أن يقاسوا الموت أو أي نوع آخر من العقاب الجسدي. لذلك، فإن جميع من يعزلون أنفسهم عن هذه الجماعة أو مَنْ لا ينضمون إليها هم يخالفون أمر الله". (ترجمات خدمات ليجونير)

يعلّم إقرار إيمان ويستمينستر بدوره أن الكنيسة مؤتمنة على أقوال الله وفرائضه لأجل جَمْع القديسين (الخلاص) وتكميلهم (بناءهم):

"لهذه الكنيسة الجامعة المنظورة قد أعطى المسيح خدمة الله، وأقواله، وفرائضه، لأجل جمع وتكميل القديسين، في هذه الحياة، إلى نهاية العالم: أيضًا، بواسطة حضوره وروحه الخاص، بحسب وعده، يجعل هذه الوسائط فعّالة لذلك". (ترجمة خدمات ليجونير)

وإقرار الإيمان المعمداني لا يختلف عن سابقيه في هذا الأمر. فهو يعلّم بأن الرب دعا إلى نفسه كنيسة من العالم، وأن هذه الكنيسة تجتمع إليه من العالم، كمن يعيشون أمامه في تلك الجماعات المحلية. إن اجتماعات الكنيسة ليست مجرد اجتماع، لكن حياة أو عيشة مقدسة، من أجل البنيان المتبادل:

"في ممارسته للسلطة الموكلة إليه، ومن خلال خدمة كلمته، وبروحه، يدعو الرب يسوع إلى نفسه، وخارج العالم، أولئك الذين أعطاهم له أبيه. إنهم مدعوون ليعيشوا أمامه في جميع طرق الطاعة التي يصفها لهم في كلمته. أولئك المدعوون يأمرهم، الرب يسوع، أن يعيشوا معًا في مجتمعات محلية، أو كنائس، من أجل بنيانهم المتبادل وسلوكهم الملائم للعبادة العامة التي يتطلبها منهم بينما هم في العالم".

ختامًا لكل ما سبق، صحيح أنه لا يوجد كنيسة كاملة تعليميًا وسلوكيًا، إلا أن هذا في حد ذاته لا يمكن أن يكون عذرًا أو مدعاة للإقلال من مركزية الدور الخطير الذي تقوم به الكنيسة، ليس فقط في الكرازة، بل في بناء الفرد المسيحي أيضًا. إن الكنيسة معينة بواسطة سلطان الله أن تكون واسطة للنعمة لكونها مؤتمنة على إنجيل النعمة. فالكنيسة تخدم للعالم إنجيل النعمة لكي يخلصوا به. ثم في اجتماعاتها تغذي الأعضاء بإنجيل النعمة، من خلال الكلمة والفريضتان والتأديب الكنسي، لكي ينموا به.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس