الميول المرقيونية لدى بعض البروتستانت


ما من شك أن هناك صعوبة في فهم العلاقة بين العهدين القديم والجديد، والصورة التي يرسمها كل منهما عن الله. أيًا كانت الاختلافات بين الصورتين، فإن أي مسيحي كتابي لا يستطيع إلا وأن يؤكد على أنهما صورتان لنفس الإله، ذو نفس الجوهر والصفات، ولكن في ظل تدبيرين أو عهدين مختلفين. على أنه يوجد فيما بيننا من يقولون بغير ذلك. وهذا نوع من المرقيونية. وقبل أن نقدم أمثلة على من يضعون الله (وغضبه) في العهد القديم في مواجهة مع يسوع (ومحبته) في العهد الجديد، سنقوم أولاً بتعريف ما هي المرقيونية.

المرقيونية، طبقًا لتعريف أحد القواميس اللاهوتية هي:

"تعاليم مرقيون (المتوفى ١٦٠ م.)، والتي تميزت بالفصل الحاد بين ‘إله الغضب’ للعهد القديم و ‘إله المحبة’ في العهد الجديد، وهي الرأي القائل بأن المسيح لم يتجسد أبدًا. في المرقيونية، تحل المسيحية محل اليهودية. والأسفار القانونية التي تعترف بها (هذه الهرطقة) هي: إنجيل لوقا وعشر رسائل بولس (فقط)". [1]

يُعَرِّفها قاموس لاهوتي آخر على أنها:

"حركة بدأت مع مرقيون في القرن الثاني، والتي رفضت صلاحية شهادة العهد القديم للمسيحيين لأن إله العهد القديم كان يُعتقد أنه لا يتوافق مع الإله المحب الذي أظهره يسوع". [2]

طبقًا للتعريفان السابقان، فإن عنصر أساسي من عناصر المرقيونية هو وضع إله العهد القديم الغضوب في تضاد مع إله العهد الجديد المحب. طبعًا ليس من الضروري أن من يعتنقون المرقيونية من حولنا يعتنقون كل شيء فيها، لكن يكفي أن يكون هناك أحد أهم عناصرها، ألا وهو الفصل الحاد بين يهوه ويسوع. الادعاءات المرقيونية المعاصرة تتنوع فيما بين ميول مرقيونية وما بين مرقيونية كاملة. سأقدم مثالان على ذلك.

المثال الأول هو قول الدكتور ماهر صموئيل في أحد عظاته: "أيهما أكثر إكرامًا لله، أن يتجلى في زلزلة تدك الجبل أم يتجلى في بشر؟ في شخص حنون يفيض بالحنان وبالقوة، يحي الموتى ويشفي المرضى ويهب العميان البصر ويطهر البرص ويجبر القلب الكسير ويعصب النفوس المجروحة ويشبع الجياع ويشفق على المساكين ويطلق المأسورين والمسبيين وينادي لهم بالحرية والعتق".

المشكلة فيما قاله الدكتور ماهر هو أنه يعتبر صورة الله في العهد القديم أكثر إكرامًا لله منها في العهد الجديد. ويمكننا أن نفهم الخطورة في ذلك القول من خلال إعادة صياغته كالآتي: "إن صورة الله في العهد القديم، حيث أعلن الله عن نفسه في زلزلة تدك الجبل، أقل إكرامًا له من صورته في العهد الجديد حيث أعلن الله عن نفسه في شخص حنون يشفى المرضى ويحي الموتى ويجبر المنكسرين ...". وهذا، أقل ما يقال عنه أنه ميل للمرقيونية مصاغ بصورة ماهرة. فضلاً عن أن الدكتور ماهر صموئيل يهمش (بل وينكر) المفاهيم القضائية عن الله مثل قوله عن ‏الجحيم ما معناه أنه مكان للحجر الصحي للخطاة باعتبارهم مرضى يدورون حول ‏أنفسهم (مقال أصل الحكاية على مدونة الدكتور ماهر صموئيل). أي أن الجحيم ليس عقاب، ‏والخطية ليست ذنب وتعدي على الناموس. والخلاص اختبار شخصي أكثر منه ‏تبرير قضائي أمام الله.‏

إن صورتي الله في العهدين القديم والجديد، كلاهما يكرمان الله، بنفس القدر من الإكرام، لكن المشكلة فينا نحن. إن سألتني هل ‏تريد الاقتراب من الله على جبل سيناء؟ سأجيب بـ لا قاطعة، لأنني إنسان خاطيء تحت الدينونة. بل أريد الاقتراب منه وهو على جبل ‏تابور أو تلة الجلجثة. لكن الصورتان تمجدانه بنفس القدر. صورة سيناء تخبرنا عن قداسته وسموه ومطالب ناموسه العادل. صورة تابور أو ‏الجلجثة تخبرنا عن تنازله ورحمته ونعمته. الصورتان غير متضادتان بل تشيران إلى أحدهما الآخر وإن كانت هناك مقابلة بين ‏الاثنين. ليس تناقض ولكن مقابلة، وإلا لكان الله متناقضًا. فالناموس يقودنا إلى النعمة "الناموس كان مؤدبنا إلى المسيح" (غل ٣ : ‏‏٢٤). ونعمة الإنجيل تفترض لعنة الناموس "المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غل ٣ : ١٣). ولكن صورة الله ليست أقل كرامة على ‏جبل سيناء منها على جبل تابور. ففي نهاية المطاف، لقد اختار الله أن يعلن عن نفسه بهذه الطريقة الرهيبة على جبل سيناء فلا يحق ‏لنا أن ننسب لها كرامة أقل.‏

المثال الآخر على المرقيونية المعاصرة لدى بعض البروتستانت، هو ادعاء القس سامح موريس: "أي حقيقة عن الله، تسمعها أو تقرأها أو حتى تفهمها من أي نص كتابي، تختلف عن حقيقة يسوع التي رأيناها في المسيح يسوع، هي حق باطل، فالمسيح هو كلمة الله وصورته. قال الرب يسوع: من رآني فقد رأى الآب".

وخطورة ما يصرح به القس سامح موريس هو أنه يجعل الصورة المختزلة التي كونها عن يسوع معيارًا لكل النصوص الكتابية. ليس هناك مشكلة إطلاقًا في أن يكون يسوع معيارًا لكل فهمنا عن الله، إن كنا نؤمن بيسوع كاملاً. إلا أن من يقولون ذلك غالبًا، إن لم يكن في كل الحالات، يقصدون صورة يسوع اللطيف والكيوت الذي لا يغضب ولا يعاقب ولا يدين. وكون هذا ما قصده القس سامح موريس يتأكد لنا من تصريحاته الكثيرة التي ينكر فيها الخطية الأصلية والبدلية العقابية. سبق وقال عن غضب الله: "في فرق بين أن الرب غضبان (من) أفعال الناس أو (على) الناس، الرب مابيغضبش مننا". وله تصريحات أخرى مثل "الله ليس جبار منتقم، معاه عصاية من حديد وسيخ محمي عايز يدخله في صرصور ودنك. ده إبليس. أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة، وإله كل تعزية، فاتح إيده، مجرد تجري عليه هو يجري عليك ...".

طعبًا يستخدم هنا القس سامح موريس صورة كاريكاتورية عن الله ليبرر بها رفضه للتعاليم الكتابية السامية عن غضب الله. إنه يضعك أمام مأزق مفتعل، الصورة الهزلية عن غضب الله من ناحية، ورفض غضب الله كليةً من ناحية أخرى، وعليك أن تختار. وهذا يدفعنا للقول أن رفض ما يعلمه الكتاب المقدس عن غضب الله ودينونته النهائية سببه أن هناك صور مغلوطة عن غضب الله من خلال قياسه على غضب الإنسان أو بتشبيهه بصور ميثولوجية (خرافية) مستوحاه من الأساطير اليونانية عن غضب الآلهة الوثنية.

قمت باستعراض وتفنيد الصور المغلوطة عن غضب الله في مقال مستقل بعنوان "الصورة الكتابية لغضب الله". لكن سأكتفي هنا بالتأكيد بأن الله في العهد القديم ليس غاضبًا بلا محبة، ولا هو محبًا بلا غضب في العهد الجديد. إن أقسى مشاهد الدينونة والغضب في العهد القديم تخللتها رحمة الله. أنظر مقال آخر "هل إله العهد القديم غاضبًا بلا محبة، وإله العهد القديم محبًا بلا غضب". كما أن يسوع في العهد الجديد ليس يسوع اللطيف فقط كما يصوره المرقيونيون.

صادق الرب يسوع المسيح على دينونة الطوفان وشبه مجيئه الثاني بها (مت ٢٤ : ٣٨). وأقر بدينونة سدوم وعموره (مت ١٠ : ١٥، مر ٦ : ١١). وهو الذي أهلك اليهود الذين لم يؤمنوا به في البرية طبقًا لأكثر المخطوطات موثوقية "يسوع بعدما خلص الشعب من أرض مصر، أهلك أيضًا الذين لم يؤمنوا" (يهـ ٥). ونطق بالدينونة على الهيكل وأروشليم (مت ٢٣ : ٣٧ – ٣٨). وهو الفارس والمحارب الذي سيدوس معصرة غضب الله في سفر الرؤيا (رؤ ١٩ : ١٥). وهو رئيس جند الرب الذي ظهر ليشوع "وسيفه مسلول" ليباركه ويعلمه بإنتصاره الوشيك على أريحا (يش ٥ : ١٣ - ١٥، ٦ : ٢). وهو أكثر من حَذَّرَ من الجحيم في العهد الجديد، بل وأكثر الصور هولاً عن الجحيم أتت من فمه المبارك.

المرقيونية إذًأ، إختزالية، وتسيء فهم الله في العهد القديم، وتشوه صورة يسوع في العهد الجديد. لكن علينا رصدها أينما قيلت، ومهما كانت الصورة الجذابة التي تقال بها، ثم مواجهتها بالحق الكتابي الكامل عن الله.

 

[1] Mckim, Donald K. 2014. The Westminster Dictionary of Theological Terms. Louisville, Kentucky: Westminster John Knox Press.

[2] Grenz, Stanley J, David Guretzki, and Cherith Fee Nordling. 2000. The Hodder Pocket Dictionary of Theological Terms. London: Hodder & Stoughton.








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس