سي إس لويس يُعَلِّم بأن المسيح أخطيء التنبؤ حول مجيئه الثاني

في مقاله المعنون "ليلة العالَم الأخيرة"، يصرح سي إس لويس بأشياء خطيرة عن عصمة المسيح كإنسان وذلك فيما يتعلق بمصداقية ومدى تحقق نبوته "لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله". فضلاً عن أني قرئت هذا الفصل مرتين، واستمعت له مقروءً مرتين، سأضع تصريحات لويس الخطيرة في السياق الذي جائت فيه حتى لا أُتَّهَمُ بأني أقتطعها من سياقها.

يقول لويس عدة أشياء إيجابية وصحيحة لاهوتيًا في هذا الفصل. فهو يرى أن عقيدة المجيء الثاني للمسيح لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه. وأن لها أهمية عملية في حياتنا كمسيحيين. وبينما يناقش لويس تصريحات المسيح حول مجيئه الثاني في ضوء كتابات أبوكاليبسية (نهاية العالم) معاصرة للمسيح، مثل "رؤيا باروخ"، و"سفر أخنوخ"، و"صعود إشعياء"، إلا أنه يؤكد على عدم إمكانية وضع هذه الكتابات على قدم المساواة مع الأسفار القانونية. ليس ذلك فقط، بل تَشَكَّكَ لويس أيضًا في التطور الدارويني واضعًا المسيح في تضاد مع داروين. ففي حين تدعو الداروينية إلى تطور أو تقدم البشرية، فإن تعليم المجيء الثاني يعني أنه سَيُسْدل الستار فجأة على التاريخ العالمي في مشهد أبوكاليبسي. فضلاً عن ذلك، أكد لويس على ألوهية المسيح، وعلى الاتحاد الهيبوستاتي للطبيعتين الإلهية والبشرية في شخصه الواحد. وأن إيماننا بألوهية المسيح يفرض علينا اعطاء اهتمام لمجيئه الثاني بما أنه سيأتي ليدين الأحياء والأموات كما يقول الإعلان الكتابي. إلا أن تأكيد لويس على ألوهية المسيح، وعلى اتحاد الطبيعتين، لم يمنعه من الاعتقاد بأن بشرية المسيح لم تكن معصومة، الأمر الذي ظهر في تقدير يسوع الخاطيء حول توقيت أحداث النهاية.

يرى لويس أن هناك حالة معاصرة من عدم الاهتمام بتعليم المجيء الثاني تصل إلى حد الإحراج من هذا التعليم. وهذا الإحراج له أساسان، الأول نظري، والآخر عملي. الجزء الذي يدعي فيه لويس بأن المسيح أخطيء في تعليمه حول مجيئه الثاني هو الجزء النظري. لهذا سنركز عليه.

سبب رئيسي من أسباب إحراج المسيحيين من عقيدة المجيء الثاني للمسيح، كما يرى لويس، هو أن ذلك الإحراج يأتي كرد فعل تجاه النقد التاريخي والليبرالي الذي وُجِّه إلى تلك العقيدة. اِدَّعَىَ الناقد الليبرالي ألبرت شفايتزر بأن محور رسالة المسيح كان هو الأبوكاليبس أو نهاية العالم المصحوبة بأحداثًا درامية. ومن هذا المركز تفرعت باقي التعاليم المسيحية. والأخلاقيات المسيحية التي حض عليها المسيح كانت مؤسسة في جوهرها على افتراضه بنهاية قريبة جدًا للعالم. ورغم أن لويس يختلف مع شفايتزر حول إعطاء المجيء الثاني الوشيك مكانة مركزية في المسيحية، إلا أنه يرى أن رد الفعل المسيحي المعاصر تجاه ذلك بإعفال المجيء الثاني هو تطرف مضاد.

طبقًا للنقد التاريخي، فإن اهتمام المسيح بأحداث النهاية الوشيكة (الأبوكاليبس)، لهو في تمام الاتساق مع الاهتمام المعاصر لأهل ذلك الوقت بتلك الأحداث الأبوكاليبسية. فإن المسيح بتركيزه على النهاية الدرامية للعالم كان متسقًا ومتشابهًا تمامًا مع بني جيله. ورغم أن هذا الاتهام قد يُقال بصورة فجة بواسطة الملحد، كالادعاء بأن يسوع كان محتالاً مثل باقي محتالين جيله. إلا أنه عادة ما يُوَجَّهُ هذا النقد بصورة أكثر مكرًا وخفاءً. مثل القول أن كل رجل عظيم ينتمي جزئيًا إلى عصره وينتمي جزئيًا إلى جميع الأوقات. ما يهم في عمله دائمًا هو ما يتجاوز عصره، وليس ما شاركه مع آلاف المغمورين المعاصرين له. ويسوع كان جزء من عصره في الاهتمام بالنهاية الوشيكة للعالم، لكنه كان يتميز عن فلاحي فلسطين في القرن الأول بتعاليمه الأخلاقية والاجتماعية. هذا ما يقوله المنهج الليبرالي للنقد التاريخي.

يدافع لويس عن اهتمام المسيح بأحداث النهاية مثل بني جيله، بالقول أن هذا الاتهام يفترض أن الاهتمام الذي أبداه أبناء القرن الأول هو أمر خاطيء. كما أن الادعاء بأننا علينا أن نأخذ ما يتجاوز الزمان من تعاليم المسيح يفترض أن أفكارنا صحيحة طالما أننا نطابقها بما يتجاوز كل زمان. أن ترفض اهتمام المسيح بالأحداث الأبوكاليبسية بناء على أنها كانت نفس اهتمام أبناء جيله ليس له ما يبرره إلا إن كان الفكر نفسه حول ذلك خاطئًا. كما أن اعتقادنا بالتجسد، الذي اختير وقته ومكانه من الله بعناية، يجعلنا نرفض الادعاء بأن الاعتقادات الخاطئة لبني جيله أثرت على فكره. إلى هذا الحد يبدو كلام لويس معقولاً وسليمًا.

إلا أن القصة، طبقًا لـ لويس، تزداد سواءً وذلك عندما نلاحظ أنه ثبت خطأ اعتقاد المسيحيين الأوائل بنهاية العالم الوشيكة. والسبب في ذلك هو أن سيدهم عَلَّمَهم ذلك. إنه شاركهم هذا الوهم بل خلقه لهم. فقد قال حرفيًا "لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله" (مت ٢٤ : ٣٤). وقد ثبت خطأه وعدم معرفته عن أحداث النهاية أكثر من بني جيله. ورغم أن لويس يأخذ على عاتقه الدفاع عن المسيح، إلا أنه في الحقيقة اشترك في الهجوم عليه رغم ادعاءه بالعكس. وتعليقاته الآتية هي أخطر ما في الموضوع.

يقول لويس عن هذا النص الكتابي في (مت ٢٤ : ٣٤): "إنها بكل تأكيد أكثر آية محرجة في الكتاب المقدس. ومع ذلك، كم هو مزعج، أيضًا، أنه في غضون أربع عشرة كلمة من تلك الآية يأتي التصريح الآتي: ‘وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السموات، إلا أبي وحده’. إن ابداء ذلك الخطأ، والاعتراف بذلك الجهل نشأ كلاهما جنبًا إلى جنب". في العبارة الأخيرة يصرح لويس بأن قول المسيح بأن الجيل المعاصر له كان سيشهد مجيئه ثبت خطأه (فهذا الجيل مضى ولم يأتي المسيح)، وهذا الخطأ اقترن في العدد التالي باعترافه بعدم المعرفة (تلك الساعة لا يعلمها أحد). إلا أني لا أجد تفسيرًا لإعفال لويس لهذا التناقض من طرفه، أي أن يكون المسيح أخطيء حول موعد مجيئه من ناحية، وفي نفس الوقت يكون محدود العلم بعدم معرفته لموعد مجيئه من ناحية أخرى. شتان الفرق بين أن يكون المسيح محدود المعرفة في بشريته وبين تصريحه بمعلومة خاطئة. الأول صحيح، ولكن الثاني يطعن في عصمة المسيح ومن ثم كفارته.

والدليل على أن لويس يقصد ما قاله هو ادعاءه بأنه لو لم يكن كاتب هذا النص، متى البشير، أمينًا وأراد توصيل الصورة كما هي، لَمَا سجل هذا النص من الأساس. ولو لم يكن النُّسَّاخ الذين نسخوا النص أمناء لكانوا تغاضوا عنه:



"ما لم يكن كاتب الوحي أمينًا تمامًا، ما كان سيسجل أبدًا اعتراف الجهل على الإطلاق؛ لن يكون لديه دافع للقيام بذلك سوى الرغبة في قول الحقيقة كاملة. وما لم يكن النساخ اللاحقون أمناء على حد سواء، ما كانوا سيحفظون النبوة الخاطئة (ظاهريًا) حول ‘هذا الجيل’ بعدما أثبت مرور الوقت الخطأ (الظاهري)".

ولكن هذا التصريح من لويس غير سليم. فليس فقط أن متى قام بتسجيل الأحداث كما هي، بل ولأنه لا يوجد في تصريحات المسيح ما يشينها (كما سنرى). ذلك لأنه لو كان في كلام المسيح خطأ، فإن هذا يقوض عصمة المسيح ومن ثم يطعن في أهليته للكفارة. إن هذا يهدم الغرض الذي كان متى يكتب من أجله. لو لم يكن المسيح معصومًا، لما كانت بشارة، بل أخبارًا سيئة.

وقد نتوقع من قول لويس أن تلك النبوة "خاطئة ظاهريًا" أنه سيسعى إلى نفي وجود الخطأ من الأساس، وأن النقاد الليبراليون اتهموا المسيح زورًا أو أنهم لم يصلوا إلى التفسير الصحيح للنص. بكلمات أخرى إن لويس يقوم بصد الهجوم هنا ليس من خلال نفي الخطأ عن المسيح، ولكن بإعادة تفسيره أو بالنظر إليه من خلال محدودية بشريته. فالنبوة خاطئة ظاهريًا لكونها تندرج تحت محدودية العلم البشري للمسيح. وهو بذلك يصادق على الاتهام وإن كان يقدم له تفسيرًا آخر. إلا أنه كما سبق وأشرنا، شتان الفرق بين كون المسيح محدود العلم في بشريته، كما بدا فيما قاله مثل "من لمس ثيابي"، "أين وضعتموه (قبر لعازر)"، وبين القول أن يسوع صَرَّحَ بمعلومه خاطئة.

ثم يصل لويس إلى هذه النتيجة الخطيرة: "الحقائق، إذًا، هي: أن يسوع أعلن أنه جاهل (بمعنى ما)، وأثبت في غضون لحظة أنه كان كذلك حقًا". ولكن يبنغي التنويه هنا أن لويس لا يريد الازدراء بالمسيح بوصفه على أنه جاهل ignorant، لكن اللفظة تعني فقط محدودية معرفة المسيح كإنسان، وهي ليس لها نفس هذا الوقع علينا نحن الناطقين بالعربية. أوردتها فقط كما جاءت في كلمات لويس الأصلية للأمانة.

لكن ما هو السبب الذي يجعل لويس يقول أن هذا خطأ ظاهري، وما هو الحل لذلك؟ يقول لويس إن كنا نؤمن بالتجسد، فإن هذا يجعل هناك صعوبة في قبول عدم معرفة المسيح بموعد المجيء الثاني. إلا أنه، في ذات الوقت، يجعل من المؤكد أنه إذا قال المسيح عن نفسه أنه لا يعلم موعد مجيئه، فهو حقًا لا يعلم. أي علينا أن نصدق اعترافه بعدم معرفته لنهاية العالم. "فالإله الذي يمكن أن يكون جاهلاً هو أقل إرباكًا من الإله الذي يقر بالجهل زورًا. إن الإجابة التي يجيبها اللاهوتيين عن هذا الأمر هو أن الله-الإنسان يسوع كان كلي العلم كإله وجاهلاً كإنسان". مرة أخرى لويس لا ريد الإزدراء بوصف المسيح هنا بالجهل، لكن يستعمل الجهل هنا كصفة مضادة لصفة العلم الكلي. وكيف يكون يسوع كالله عليم بكل شيء، وفي نفس الوقت محدود المعرفة كإنسان؟ يجيب لويس عن ذلك بأنه علينا الرضوخ والاعتراف بأننا هنا أمام سر عظيم.

فضلاً عن أن كلام لويس جاء خاليًا تمامًا من أي تأكيد حول عصمة بشرية المسيح، فقد أرجع هذا الخطأ النبوي (الظاهري) إلى بشرية المسيح المحدودة، مساويًا إياه بمحدودية علم المسيح كإنسان. أي أن تبرير لويس لذلك هو بإدراج خطأ النبوة غير المتحققة في الجيل الذي قاله عنه يسوع (كما ادعى الليبراليون)، وتصريحه بعدم معرفة الساعة، كلاهما تحت بند محدودية المسيح كإنسان. لكن هذه لا تساوي تلك كما أكدنا سابقًا. الرب يسوع المسيح محدود العلم من حيث بشريته، إلا أنه لا يخطيء ولا يصريح بمعلومات خاطئة. المعلومات الخاطئة هي أكاذيب. أن تقول أن المسيح صَرَّح بمعلومات خاطئة هو أن تقول أن المسيح تفوه بأكاذيب. ولكن حاشاه فهو القدوس.

وإن كان المسيح قد صرح بنبوة خاطئة، فإن هذا له تضميناته الخطيرة أيضًا على الكتاب المقدس. أي أن الكتاب المقدس به أخطاء. ولكن هذا لا ينبغي أن يفاجئنا في ضوء المنهج العام للويس. فلويس لا يؤمن بالعصمة اللفظية للوحي بل ويرى أن أسفارًا مثل أستير وأيوب ويونان ليست تاريخية. واللعنات أو الدينونات الواردة بسفر المزامير دعت لويس للقول بأن هذا السفر به أجزاء حقيرة وشيطانية.

الإجابة على الاتهام بأن يسوع أخطأ التنبؤ هي أبسط مما فعله لويس. فلسنا في حاجة إلى كل هذه الفلسفات والتأويلات التي قوضت عصمة المسيح. إن قصد المسيح من قوله "لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله" ليس المقصود به هو الجيل المعاصر للمسيح، بل الجيل الذي سيشهد بداية أحداث النهاية. نستطيع إذًا أن نعيد صياغة تلك الآية بهذه الطريقة: "الجيل الذي سيشهد بداية تلك الأحداث لن يمضي قبل استعلان المسيح". فإن أحداث النهاية ستكون سريعة ومتلاحقة بحيث أنها ستبدأ وسنتتهي في نفس الجيل الذي سيشهد مجيء المسيح.

خلاصة القول، إذًأ، هي أن سي إس لويس أكثر إرباكًا وتناقضًا من النقاد الليبراليين أنفسهم. وهو يبدو أنه يدافع عن المسيح إلا أنه في حقيقة الأمر قوض عصمته بإرجاع الخطأ إلى محدودية الإنسان يسوع، وليس نفيه من الأساس. ولكن في النهاية، يثور السؤال: إن كان لويس لم يهتم بنفي الخطأ عن المسيح من الأساس بل أرجعه إلى محدوديته، وفي ضوء أن عدم الاعتقاد بعصمة المسيح يقوض الكفارة من جذورها، هل من علاقة إذًأ بين عدم اعتقاد لويس بعصمة المسيح وعدم اعتقاده بالبدلية العقابية؟



Lewis, C S. 2017. The World’s Last Night, and Other Essays. San Francisco: Harperone.

https://archive.org/details/worldslastnighta012859mbp/page/n111/mode/2up?view=theater

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس