إله أرسطو وإله الكتاب المقدس


إن ما يسمى باللاهوت الطبيعي هو مسعى باطل، إن كان المقصود بذلك هو أن الإنسان يحتاج إلى براهين فلسفية لإثبات وجود الله. ذلك لأن "معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم" (رو ١ : ١٩)، بدون مجهود أو فلسفة. هي شيء خُلِقَ به الإنسان، وليس شيء يتوصل إليه الفيلسوف.

وأشهر البراهين المستخدمة في اللاهوت الطبيعي هي البراهين الخمس الكلاسيكية على وجود الله لتوما الأكويني والمؤسسة على المتيافيزيا الأرسطية. ورغم أن الأكويني قام بتعديل الإله الذي ينادي به أرسطو لكي يتم توفيقه بإله الكتاب المقدس، إلا أن إله أرسو يظل مختلف جذريًا عن إله الكتاب المقدس. في السطور الآتية سأستعين بتلخيص اللاهوتي المصلح والفيلسوف جون فريم حول إله أرسطو وسأعقب ذلك بتعليق نهائي.

أحد الحجج الخمس الكلاسيكية على وجود الله هو ما يُعرف بـ برهان الحركة. وطبقًا لهذا البرهان، فإن كل ما يتحرك تم تحريكه بقوة أخرى. إن أي جسم يتحرك يتحول من احتمالية الحركة إلى الحركة الواقعية من خلال التأثير عليه بتلك القوة. لكن كل الحركة الموجودة لا يمكن إرجاعها إلى ما لا نهاية. أي لابد أن يكون هناك محرك (أولي) لا يتحرك، ومتحقق بالفعل، أبدأ كل الحركة الموجودة. هذا المحرك الأعظم هو إله أرسطو.

وعلى قدر ما تبدو فكرة المحرك غير المتحرك جذابة، على قدر اختلاف الإله الذي تدعو إليه عن إله الكتاب المقدس. والاختلافات بين المحرك الأول، أو المحرك غير المتحرك، وبين إله الكتاب المقدس عديدة وجذرية.

إن أول اختلاف نلحظه بين إله أرسطو وإله الكتاب المقدس هو أن الإله الأرسطي أبدي مثل المادة. أي أن المادة ليست مخلوقة بواسطته، بل موجودة منذ الأزل جنبًا إلى جنب معه. والسبب في ذلك، كما سيتضح أكثر لاحقًا، هو أن إله أرسطو هو "المُحَرِّك غير المتحرك" أو "المُحَرِّك غير المتأثر". إن كان هذا الإله قد خلق الكون، فهو حتمًا تحرك عند الخلق، مما يعني أنه ليس إلهًا طبقًا لأرسطو. يقول فريم:

"مثل باقي الفلاسفة اليونانيين، لم يؤمن أرسطو بأن للعالم بداية. لذا فإن المحرك غير المُتحرك ليس مثل الإله الكتابي، الذي خلق العالم في اللحظة الأولى من الزمن".

إله أرسطو المحرك غير المتحرك، أيضًا، هو إله مستغرق في عزلة، ومنحصر في ذاته، ولا يفعل شيء، ولا يفكر في العالم. بل ونستطيع القول أنه لا يعرف إن كان العالم موجود أم لا من الأساس، لأنه إن عرف عن وجود العالم سيكون قد تأثر به أو تحرك:

"وبالمثل، طبقًا لوجهة نظر أرسطو، يجب ألا يتأثر (الإله) بأي شكل من الأشكال بالعالم، وإلا فسيكون هو المتحرك، وليس المُحَرِّك. لذلك يجب ألا يعرف هذا الكائن العالم (لأن المعرفة تعني أن تتأثر بطريقة ما بموضوع المعرفة)، أو يحب العالم، أو يتصرف في العالم".

وهنا يثور السؤال، كيف إذًا يحرك إله أرسطو الكون دون أن يتحرك هو؟ إن هذا ليس بمشكلة لدى أرسطو، فالمحرك غير المتحرك هو مثل المغناطيس، يجذب الكون، بما فيه من أشياء وأشخاص، دون أن ينجذب أو يتحرك هو نحوه، بل إنه لا يعلم عن وجود الكون شيء من الاساس:

"فكيف يسبب (إله أرسطو) الحركة إذًا (دون أن يتحرك)؟ إجابة أرسطو هي أنه (إله) شديد الجاذبية وبالتالي يؤثر على الأشياء في العالم للتوجه نحوه. شَبَّه مفسرو أرسطو المحرك الرئيسي (إله أرسطو) بالهدف الذي يركض من أجله المتسابقون، أو بمغناطيس يجذب الحديد إليه. وأشبهه أنا (جون فريم) بحفل لموسيقى الروك، حيث يلقي المشجعون الهائجون أنفسهم على أقدام المغني، بينما يبقى هو نفسه (على ما يبدو) في حالة ذهول".

إلا أن إله أرسطو يزداد غرابة وتعقيدًا ووثنية. فهو، ليس فقط لم يخلق العالم ولا يعرف شيء عن وجوده، ولا يحبه ولا يتفاعل معه ولا يفعل شيء من أجله، بل ولا يستطيع التفكير في شيء سوى في أفكاره، وذلك حتى يظل غير متحرك:

"ماذا، إذًأ، يفعل المحرك غير المتحرك، إن لم يتسبب إيجابيًا في حدوث الأشياء، وإن كان لا يعرف العالم أو يحبه؟ إجابة أرسطو هي أنه يفكر. يتساءل المرء لماذا بدأ أرسطو فجأة في استخدام اللغة الشخصية هنا، بينما لم تبرهن حجته، حتى الآن، سوى على مبدأ غير شخصي. ولكن ما الذي يفكر فيه هذا الإله إن لم يكن العالم؟ يجيب أرسطو: إنه يفكر في نفسه. لكن ما هي الحقائق التي يفكر فيها عن نفسه؟ يجيب أرسطو: أفكاره. المحرك الرئيسي هو ‘فكر يفكر في فكره’. إن كان المحرك الرئيسي يفكر في شيء ما عن نفسه بخلاف أفكاره، فإن أفكاره ستتحرك بذلك الشيء الآخر. لكي تكون أفكاره غير متأثرة (متحركة) تمامًا، لا يمكن إلا وأن تكون ناتجة عن نفسها فقط".

إن إله أرسطو، طبقًا لـ جون فريم، هو مجرد فليسوف في أفضل حالاته، أو فكرة لا تستطيع سوى أن تفكر في ذاتها، بل هو نوع من الفراغ:

"ماذا عسانا أن نقول حول إله أرسطو؟ أولاً، إن المحرك الرئيسي (غير المتحرك) هو شبه فيلسوف. كما اعتقد أفلاطون أن الفلاسفة يجب أن يكونوا ملوكًا، يعتقد أرسطو أن إلهه فيلسوف ... فهو لا يستطيع أن يعرف العالم، لئلا يكون متغيرًا بالنسبة له. ولا يمكن أن يكون تفكيره في أي شيء آخر غير نفسه، خشية أن يكون متعلقًا بشيء آخر. ولا يمكن أن يفكر في أي صفة يمتلكها إلا تفكيره، لئلا يتأثر (يتحرك) تفكيره بشيء آخر. لذا فإن فكره في النهاية هو فكرة عن فكرة، أو بعبارة أخرى، فكر ليس له محتوى على وجه الخصوص".

تأسيسًا على ما سبق، فإن إله أرسطو غير شخصي، فهو على ما يبدو آلة أو ماكينة تفكير لا تكل من التفكير في فكرها. وليس لديه الحرية التي تمكنه من التفاعل مع الكون دون أن يفقد هويته أو جوهره. كما أنه ليس أفضل من المادة بكثير. فمع أنه غير متغير، ولا يحتاج إلى المادة، إلا أن كلاهما أزليان. بل يبدو أن المادة تتفوق عليه في كونها تحب وتنجذب وتصبو نحو علاقة به، بينما يكون هو في حالة ستاتيكية من الانغماس في الفكر الذي يفكره، حتى أنه لا يعلم عن وجود الكون المادي من الأساس.

كيف يمكن إذًا تشبيه إله أرسطو بإله الكتاب المقدس ولو من بعيد؟ إن الرب هو خالق السماء والأرض من العدم، فالمادة ليست أزلية. كما أنه حامل كل الأشياء بكلمة قدرته الفعالة، وليس بانجذاب الأشياء إليه بينما هو خامل. ويعلم كل العلم عن أدق تفاصيل خليقته. ويشعر بآلام الإنسان بل وحتى بالحيوانات غير العاقلة (مت ١٠ : ٢٩). ويفكر في ذاته وفي الخليقة، ويحب ذاته ويحب الخليقة دون أن يتغير، فهو إله علاقاتي وليس خاملاً منحصرًا في فكره. إن إله التجسد والصلب، الشخصي، الثالوثي، لا يمكن مصالحته أبدًا مع إله أرسطو.

وعليه، طبقًا للاهوتي جيفري جونسون، فإن أرسطو قام بتشويه المعرفة الطبيعية، التي خُلق بها (الإعلان الطبيعي)، عن الله الحي الحقيقي، ليصل في النهاية من خلال الفلسفة إلى إله وثني مختلف تمامًا عن إله الكتاب المقدس. المحرك الأولي غير المتحرك هو صنم من صنع خيال أرسطو والتشابه بينه وبين الله الحي الحقيقي تشابه سطحي جدًا. لهذا نختم بكلمات جونسون:

"رجال دفاعيات الافتراضات المسبقة مثلي ليسو ضد جسد العقيدة التي يتم توصيلها من خلال الإعلان الطبيعي. نحن ضد الفلاسفة الوثنيين الذين قمعوا وعَوَّجَوا وحرفوا ما تم إيصاله في الإعلان الطبيعي. لم يعترف الفلاسفة اليونانيون بإله الإعلان الطبيعي. إطلاقًا. لقد رفضوا ما عرفوه في قلوبهم من خلال محاولة صياغة تفسيرهم الخاص لله. لقد أنكروا استقلال الله عن الكون ووجوده الشخصي في الكون".


Frame, John M., History of Western Philosophy and Theology. P & R Publishing Co., 2015

Johnson, Jeffrey, saving natural theology from Thomas Aquinas, FGP, 2021

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس