هل الإنسان ثنائي أم ثلاثي التكوين؟ وما هي التطبيقات اللاهوتية لذلك؟


الاعتقاد بأن الإنسان مكون من جسد ونفس وروح اعتقاد شائع لدى الكثيرون. ويُستخدم لتبسيط أو شرح عقيدة الثالوث ولا سيما في الدفاعيات الموجهة للمسلمين. واسْتُخْدِمَ قديمًا لدعم هرطقات متعلقة بشخص المسيح والخلاص. وهو خلفية الاعتقاد بأن علم النفس له ما يضيفه إلى المسيحية. إلا أن الاعتقاد بالتكوين الثلاثي للإنسان غير صحيح، ومن ثم كل شيء آخر تأسس عليه.

إن الكتاب المقدس في أولى صفحاته يعلمنا بأن الإنسان ثنائي التكوين. فعندما خلق الله الإنسان "جبل الرب الإله آدم من الأرض ترابًا". هذا ما يخص الجانب المادي أو الجسدي فيه. ثم "نفخ في أنفه نسمة حياة". وهذا هو الشق غير المادي له، أو الروحي. "فصار آدم نفسًا حية"، أي صار كائن ثنائي التكوين يتحد فيه الشقين المادي وغير المادي (الروحي). هذا الخلق على مرحلتين يخبرنا عن الطبيعة الثنائية للإنسان. ومن ثم فلا يوجد، إذًا، في أحداث الخلق، أي مسوغ للاعتقاد بأن الإنسان كائن ثلاثي التكوين بحيث أن الروح شيء والنفس شيء آخر.

استخدام الكتاب المقدس أيضًا لكل من لفظتي "نفس" و"روح" بالتبادل يؤكد هذه الثنائية. فالعهد القديم مثلاً يستخدم لفظتي "روح" ruakh و"نفس" nephesh كمرادفان: "أنا أيضًا لا أمنع فمي. أتكلم بضيق روحي. أشكو بمرارة نفسي" (أي ٧ : ١١). إشعياء أيضًا يقول "بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضًا بروحي إليك في داخلي أبتكر" (إش ٢٦ : ٩). العهد الجديد بدوره، وبالاتساق مع العهد القديم، يستعمل كلمتي "روح" pneuma و"نفس" psyche بالتبادل، وليس أن الروح شيء مختلف عن النفس: "تعظم نفسي الرب. وتبتهج روحي بالله مخلصي" (لو ١ : ٤٦ - ٤٧). قارن أيضًا صلاة المسيح "الآن نفسي اضطربت" (يو ١٢ : ٢٧)، مع قول يوحنا في الأصحاح التالي "ولما قال هذا يسوع اضطرب بالروح ... " (يو ١٣ : ٢١).

وقد يسأل سائل ماذا عن النصوص التي تشير إلى أن الإنسان ثلاثي التكوين وأن النفس مختلفة عن الروح، مثل قول بولس "ولْتُحْفَظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح" (١ تس ٥ : ٢٣)، وقول كاتب العبرانيين "لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته" (عب ٤ : ١٢)؟ ألا يشيران هذين النصين إلى تكوين ثلاثي للإنسان؟ إن الرد المختصر والمباشر على ذلك هو أن هذه ليست ثلاثة أجزاء للإنسان، بل إشارة إلى كل التكوين الإنساني. أسلوب أدبي يُقصد به حصر كل الكيان الإنساني. أو كما يقول مكارثر في نفس هذا السياق "في بعض الأحيان، يمكن تكديس المصطلحات أو دمجها للتشديد على المعنى". وإن كان كل شيء يخصه الكتاب المقدس بالذكر يعني أنه يشير إلى جزء في الإنسان، فإن الإنسان بذلك يمكن أن يكون رباعي التكوين "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك" (مر ١٢ : ٣٠). بل إنك لو أضفت إلى القائمة السابقة "روح" و"جسد"، نظرًا لكونهما لا يردان بها، لصار الإنسان بذلك سداسي التكوين.

هذا فضلاً عن أن الكثير من المصطلحات التي تستخدم لوصف الإنسان متداخلة. فبعد أن يستعرض اللاهوتي جويل بيكي المصطلحات الكثيرة التي يستعملها الكتاب المقدس للإشارة إلى الإنسان، مثل "نَفَس" (بفتح الفاء)، و"القلب"، و"الكليتان"، و"العظم"، يستنتج الآتي:

"في ضوء هذا المسح للمصطلحات، نجد تداخلًا بين الكلمات التي قد نفترض أنها متميزة في المعنى. يمكن أن تشير مصطلحات مثل ‘النَفْس’ و ‘الروح’ إلى الحياة الجسدية، ويمكن أن تشير كلمات مثل ‘العظام’ [مثل أي ٢١ : ٢٤] و ‘الكلى’ [مثل مز ٧ : ٩ ، أم ٢٣ : ١٦، إر ١١ : ٢٠] إلى الصفات العقلية والنفسية".

ماذا يعني ذلك بالنسبة لباقي التعاليم المسيحية؟

إن ما سبق هو أحد الأسباب التي ينبغي أن تدفعنا لرفض قياس الثالوث على الإنسان. فالإنسان، كما رأينا، ليس ثلاثي التكوين من جسد ونفس وروح، بل ثنائي التكوين، وأن النفس والروح يستعملهما الكتاب المقدس، بالتبادل، كمرادفان. في حين أن الله ثالوث، آب وابن وروح قدس. إذًا، لا يصح أن تقيس الثالوث على الإنسان، لأن الأخير ثنائي التكوين. فضلاً عن أن الإنسان مركب، من جسد وروح، أو جسد ونفس، يمكن أن ينفصلا. بينما الله غير مركب، بل جوهر واحد موجود في ثلاث أقانيم متمايزون.

وإن عرفنا أن التقسيم الثلاثي للإنسان قد اِسْتُخْدِمَ لدعم هرطقات قديمة يمكن أن تضح لنا خطورة هذا الاعتقاد. يقول تشارلز هودج في لاهوته النظامي:

"التعليم بالتكوين الثلاثي للإنسان، والذي تبناه أفلاطون، أُدْخِلَ جزئيًا في الكنيسة الأولى، ولكن سرعان ما أصبح يُنظر إليه على أنه خطير، إن لم يكن هرطقة. اعتبر الغنوصيون أن الروح في الإنسان كانت جزءًا من الجوهر الإلهي، وغير قادرة على الخطية. وعَلَّمَ الأبولوناريين أيضًا أن المسيح كان لديه فقط جسد ونفس بشريين، ولكن ليس روح إنسانية. إلا أن الكنيسة رفضت تلك العقيدة القائلة بأن النفس والروح جوهرين مختلفين، حيث تم تأسيس هاتين الهرطقتين على تلك العقيدة. في وقت لاحق، علّم أشباه البيلاجيين أن النفس والجسد خاضعان للخطية الأصلية، ولكن ليس الروح. لذلك، صار جميع البروتستانت ... أكثر حماسة في الحفاظ على التعليم بأن النفس والروح هما نفس الشيء والجوهر. وهذه، كما أوضحنا من قبل، كانت العقيدة المشتركة للكنيسة".

التطبيق الآخر لكون الإنسان ثنائي التكوين، وأن النفس والروح فيه هما شيئًا واحدًا، هو أن هناك تنازع في الاختصاص بين المسيحية وعلم النفس إذًا. ويبدو أن الاعتقاد بأن الإنسان مكون من روح ونفس وجسد هو خلفية أو أساس أن علم النفس يعالج الجانب النفسي في الإنسان، بينما المسيحية تتعامل مع جانبه الروحي. إلا أن هذا الاعتقاد غير صحيح.

لو أخذت مثلاً ذات التسمية التي تطلق على علم النفس، لوجدت أن الكلمة الإنجليزية Psychology مكونة من مقطعين؛ الأول هو الكلمة اليونانية psyche وتعني "حياة، نَفْسْ". والثاني مشتق من الكلمة اليونانية "لوجوس" والتي تعني "كلمة، منطق". فكما هو واضح من التسمية نفسها (علم نفس)، ومن الأصل الإيتيمولوجي (الجذور التاريخية) لكلمة سيكولوجي، فإن علم النفس هو دراسة النَفْسْ. ومن خلال الدراسة والتحليل يسعى علماء النفس إلى تقديم شفاءً أو علاجًا للنفس البشرية. أي أن علم النفس يقوم بمحاولة فهم مشكلات النفس البشرية بالإضافة إلى تقديم حلول أو شفاء لها.

بالمقابلة مع ذللك، فعندما يتكلم العهد الجديد مرارًا عن خلاص النفس ‏psyche‏ (مر ٣ : ٤، ١ بط ١ : ٩) فهو يقصد الخلاص الروحي. فضلاً عن ‏ذلك، يعلّم الكتاب المقدس بأن الإنسان مريض روحيًا بداء الخطية ويحتاج إلى شفاء روحي منها. إن الخطية كمرض والخاطيء ‏كمريض، هو موضوع يمتد بطول الكتاب المقدس (إش ١: ٥ – ٦، هو ١٤ : ٤، مت ٩ : ٢٢، ١٣ : ١٥، مر ٢: ١٧، يو ١٢: ٤٠، ‏رؤ ٢٢ : ٢)‏‎.‎

تأسيسًا على ذلك، فبما أن الكتاب المقدس يستخدم كلمتي "روح" و"نفس" بالتبادل، وأنهما شيئًا واحدًا، وبما أن الكتاب المقدس يؤكد على أن الخاطيء مريض روحيًا بداء الخطية، وأن الخلاص هو شفاء نفسه من هذا المرض (طبعًا مع عدم استبعاد الجانب القضائي من الكفارة)، إذًا، فهناك نوع من التنازع بين علم النفس والمسيحية. إن كان علم النفس يقدم شفاء للمسيحي، فماذا بقي بعد للمسيحية لكي تنجزه؟ وإن كانت المسيحية تقدم شفاءً روحيًا لنفس الإنسان، إذًا، فإن علم النفس ينتحل لنفسه ما تتميز به المسيحية وحدها.

وهكذا، فإن تعليمًا يبدو بسيطًا مثل الاعتقاد بأن الإنسان ثلاثي التكوين، فضلاً عن كونه في حد ذاته تعليمًا غير كتابيًا، فإنه يؤدي إلى تعاليم أخرى خطيرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس