الثالوث الاجتماعي


عزيزي البروتستانتي الشرقي المعاصر، لقد صدروا لك مفهومًا اجتماعيًا عن الثالوث. فكثيرًا ما يتم تعريف الثالوث على أنه كائن علاقاتي. وأن الآب والابن والروح القدس في علاقة محبة أزلية. وأنه لابد من وجود علاقة محبة أزلية بين الأقانيم قبل الخلق، وإلا لكان الله بلا محبة. إلا أن هذا مفهومًا اجتماعيًا للثالوث يؤدي إلى كافة الهرطقات!

الثالوث الاجتماعي طبقًا لأحد التعريفات:

"هو تفسير مسيحي للثالوث على أنه يتكون من ثلاثة أقانيم في علاقة حب، مما يعكس نموذجًا للعلاقات البشرية. يؤكد (هذا) التعليم أن الله كائن اجتماعي بطبيعته. تقترب الوحدة البشرية من التوافق مع صورة وحدة الله من خلال العطاء الذاتي، والتعاطف، والعشق لبعضنا البعض، وما إلى ذلك. هذا الحب هو تشابه أخلاقي ملائم مع الله، ولكنه يتناقض بشكل صارخ مع وحدة الله في الكينونة".

طبقًا لهذا التعريف، إذًا، يتم النظر إلى الثالوث نظرة اجتماعية، وليس طبقًا لما هو الله في ذاته (لهذا يرى التعريف تناقض بين المفهوم الاجتماعي للثالوث والمفهوم الأنطولوجي؛ الكينونة). أي تعريفه بناء على العلاقات وليس بناء على الكينونة. وبما أن ما نعتقده عن الله يؤسس لما نعتقده عن أنفسنا والخلاص، هذا التعريف الاجتماعي، إذًا، هو الأساس لنظرة اجتماعية لكل من عقيدة الإنسان والخلاص وإرسالية الكنيسة. فطالما أن الأقانيم في علاقة محبة اجتماعية، فإن هذا بدوره يُعَرِّف ما فعله الله على الصليب، بأنه استرداد الإنسان إلى شركة مع الله. ويحدد بدوره مشكلة الإنسان الروحية، أنه منقطع عن الشركة مع الثالوث. وأن إرسالية الكنيسة ليست الإنجيل، ولكن العلاقات والمجتمع، أو أن الإنجيل هو يوتوبيا العلاقات والشركة والمحبة والسلام والمساواة المتبادلة. الأمر الذي يمكن أن نطلق عليه نظرة شفائية علاقاتية لكل من الإنسان والخلاص والكنيسة والإرسالية.

طبعًا هناك جوانب من الحق في ذلك. فالإنسان منقطع عن الشركة مع الثالوث الأقدس حقًا. وأن المسيح جاء لاسترداد الإنسان للشركة مع الثالوث فعلاً. لكن هذه النظرة الاجتماعية للثالوث، باستبعادها للثالوث لما هو عليه، أي في كينونته الأزلية، فضلاً عن كونها نظرة غير صحيحة عن طبيعة الله، تستثني الجانب القضائي من الخلاص، وتجعله رسالة علاقاتية. إذ تحصره في مفاهيم علاقاتية علاجية، بما أن الثالوث علاقات اجتماعية حبية فيما بين الأقانيم، وعلى الإنسان أن يعكس ويحاكي تلك العلاقات الاجتماعية الحبية. كما أن هذه الصياغة الاجتماعية للثالوث عادة ما تكون بسبب أجندات سياسية (أُقْحِمَت على الثالوث) لدعم المساواة والسلام الاجتماعي. فكما أن الأقانيم في علاقات اجتماعية متساوية، فإن هذا يؤسس للمساواة المجتمعية.

إن جَعْل الثالوث ثالوثًا لأن هناك علاقات اجتماعية، أو علاقات قائمة على المحبة، يجعل الوحدة الجوهرية أساسها علاقات اجتماعية قائمة على المحبة. بل ويركز على الأقانيم باعتبارهم مجتمعًا غافلاً وحدة الجوهر. فضلاً عن محاولة جعل الصفة المركزية في الله هي المحبة، مع أن الكتاب يعلمنا أن إلهنا نار آكلة أيضًا، أي أنه قداسة وبر وعدل، وأنه "قدوس قدوس قدوس".

إلا أن العلاقات الثالوثية، كما فهمتها المسيحية التاريخية، لدى كل من الآباء ورجال الإصلاح، هي علاقات كينونة، أنطولوجية، وليست محبة علاقاتية متبادلة في الأساس. المحبة المتبادلة بين الأقانيم ليست هي أساس العلاقات الثالوثية. بل إن الأولى تجد أساسها في الأخيرة، أي في الكينونة. أو ما أطلق عليه الآباء الحلول المتبادل، أو السكنى المتبادلة، أو التداخل المتبادل، للأقانيم perichoresis . هذا الحلول المتبادل عبر عنه المسيح بقوله "صدقوني إني في الآب والآب فيّ" (يو ١٤ : ١١). ويوجد حلول متبادل بين كل أقنوم وآخر لأنهم يشتركون في الجوهر الواحد. هذا الحلول المتبادل، والذي هو علاقة كينونة، وليس علاقة اجتماعية، يظهر في اعطاء كل أقنوم للآخر المجد والحب المتبادل.

إن الحلول المتبادل يعني أن هناك جوهر واحد يشترك فيه الأقانيم. وإلا ما كان الحلول المتبادل ممكنًا. والجوهر الواحد للآب، هو في الابن بناء على الولادة الأزلية. والجوهر الواحد هو في الروح القدس بناء على الانبثاق من الآب والابن أزليًا. أي اللاولادة واللاانبثاق فيما يخص الآب، وولادة الابن أزليًا من الآب، وانبثاق الروح القدس أزليًا من كل من الآب والابن. وهذه العلاقات الثالوثية هي علاقات كينونة، وليست علاقات اجتماعية. تطبيقًا لذلك، أن تقول أن أساس العلاقات الثالوثية هو المحبة، هو أن تقول أن الوحدة الثالوثية أساسها العلاقات الاجتماعية، وليس وحدة الكينونة أو الجوهر.

كما أن نَفْيَنَا لمفهوم الولادة البيولوجية عن الكينونة الإلهية لا ينبغي أن يدفعنا لنفي أي مفهوم للولادة الأزلية للابن من نفس جوهر الآب. وكما قال ت. ف. تورانس، أن الأبوة (والبنوة) البشرية تعكس طبيعة الله، ولكن لا تؤسس لها. أي أننا نعرف الله، لا من خلال إسقاط المفاهيم البشرية على ذات الله، ولكن من خلال إعلان الله لما هي عليه كينونته بالفعل. لهذا، فإننا نؤكد بكل جوارحنا أن ولادة الابن أزليًا ليست ولادة بيولوجية. وليست معناها أن الابن مخلوق أو مبدوء، على العكس فهو الخالق الأزلي. إلا أننا في نفس الوقت نؤكد الولادة الأزلية الأنطولوجية (اللابيولوجية) للابن من الآب. لسنا مضطرون إذًأ، للاختيار بين الولادة البيولوجية والعلاقات الاجتماعية.

لقد علّمت الكنيسة على مر التاريخ، بواسطة الآباء ثم المصلحون من بعدهم، بعلاقات الكينونة تلك (وليس بالثالوث الاجتماعي). لكن للأسف فإن المفهوم الثالوثي الصحيح، والمؤسس على الكتاب المقدس كما تم صياغته وتأكيده في الشرح النيقاوي القسطنطيني لعقيدة الثالوث، غير شائع لدى البروتسانت الناطقين بالعربية. أن تنكر علاقات الكينونة الأزلية بين الأقانيم، والمتمثلة في الحلول المتبادل ووحدة الجوهر من ناحية، وفي الأبوة الأزلية للاب، والولادة الأزلية للابن من الآب، والانبثاق الأزلي للروح القدس من الآب والابن، من ناحية أخرى، هو أن تحيد عن قويم الإيمان.

فضلاً عن قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني في القرن الرابع، وقانون الإيمان الأثناسي في القرن الخامس، فإن المصلحون في القرن السابع عشر، قاموا بصياغة علاقات الكينونة الأزلية بالاتساق مع الفهم النيقاوي القسطنطيني لعقيدة الثالوث، من خلال اعترافات الإيمان المصلحة. وإليك البعض منها:

إقرار الإيمان البلجيكي ١٦١٩:

"وفقًا لهذا الحق وبحسب كلمة الله هذه، نحن نؤمن بإله واحد وحيد، هو واحد في الجوهر، وفيه ثلاثة أقانيم متمايزون تمايزًا فعليًّا، وحقيقيًّا، وسرمديًّا، بحسب خصائصهم غير القابلة للمشاركة؛ وهم: الآب، والابن، والروح القدس. الآب هو علَّة، وأصل، وبداءة كل الأشياء، المنظورة وغير المنظورة؛ والابن هو كلمة الآب، وحكمته، وصورته؛ والروح القدس هو القوة والقدرة السرمديَّة، المنبثق من الآب والابن".

"نؤمن بأن يسوع المسيح، بحسب طبيعته الإلهيَّة، هو ابن الله الوحيد، المولود من الأزل، غير مصنوع ولا مخلوق (وإلا سيكون بهذا أحد المخلوقات)، لكنه مساوي للآب في الجوهر وفي السرمديَّة، الذي هو رسم جوهره، وبَهاءُ مَجدِهِ، ومساوٍ له في كل شيء ... ولهذا يقول ميخا النبي: مَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الْأَزَلِ".

"نؤمن ونعترف أيضًا بأن الروح القدس منبثق منذ الأزل من الآب والابن، ومن ثَمَّ فهو غير مصنوع، وغير مخلوق، وغير مولود، بل فقط ينبثق من كليهما".

إقرار إيمان ويستمينستر ١٦٤٦:

"في وحدانيّة اللاهوت توجد ثلاثة أقانيم، من جوهر واحد، وقدرة واحدة، وسرمديّة واحدة: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس: الآب ليس من أحد، فلا هو مولود، ولا هو منبثق؛ والابن مولود أزليًّا من الآب؛ الروح القدس مُنبثق أزليًّا من الآب والابن".

إقرار الإيمان المعمداني ١٦٨٩:

"هذا الكائن الإلهي اللامتناهي هو ثلاثة أقانيم حقيقية، الآب والكلمة أو الابن والروح القدس. هؤلاء الثلاثة لديهم نفس الجوهر والقوة والأزلية، ولكل منهم الجوهر الإلهي الكامل دون إنقسام. الآب ليس مشتق من أحد، لا مولود ولا منبثق. الابن مولود من الآب منذ الأزل. الروح القدس ينبثق من الآب والابن. الثلاثة جميعهم لامحدودون وليس لهم بداية، وبالتالي هم فقط إله واحد، غير منقسم في الطبيعة والوجود. ومع ذلك، فإن هؤلاء الثلاثة يتميزون بعدة خصائص مميزة وعلاقات شخصية. حقيقة الثالوث هذه هي أساس كل شركتنا مع الله واعتمادنا المعزي عليه".



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس