تفنيد الاعتراضات على البدلية العقابية (١)

"المسيح لم يمت بدلاً عنا ولكن لأجلنا"

يُصاغ هذا الاعتراض بصور مختلفة مثل: "على الصليب متنا مع يسوع، لم يمت بدلاً عنا"، أو كما شبهها أحدهم بدخول ابن الله الآتون مع الفتية الثلاثة. والهدف من هذا الاعتراض، أيًا كانت الصيغة المستعملة، هو نفي مفهوم البدلية. أي أن المسيح لم يمت عوضًا عنا، أو في مكاننا، ولكن إلى جوارنا، معنا.

سنفحص هذا الادعاء من عدة أوجه. أولاً لاهوتيًا، وثانيًا في ضوء نصوص العهد الجديد واللغة اليونانية، وأخيرًا بالنظر إلى مدى وضوح ومنطقية الادعاء نفسه عند أخذه إلى أبعاده المنطقية. وسنرى أنه لا يصمد أمام كل واحدة من تلك فضلاً عن الدليل التراكمي نفسه.

أولاً لاهوتيًا

إن تعبير أو مفهوم "مات لأجلنا" ليس ضد "مات عنا". المعنيان متداخلان ويكملان أحدهما الآخر. الذبيحة مثلاً تأخذ مكان الخاطئ (بدلاً عنه)، وفي نفس الوقت لأجله أو لمنفعته، لكي ينجو هو ولتكون له الحياة. والكفيل أو الضامن الذي يسدد الدين عن المدين، يفعل ذلك عوضًا عنه، وفي نفس الوقت لأجله، أي حتى لا يكون المدين مثقل بالدين أو السجن. النائب القانوني أيضًا يقوم بأعماله النيابية بدلاً عن الذين يمثلهم. فهو الذي يبحث القوانين ويشرعها ويعقد الصفقات ويتفاوض مع الآخرين دون أن يفعل أي ممن يمثلهم هذه. وفي نفس الوقت لأجلهم ولصالحهم حتى يتمتعوا هم بمزايا إنجازاته. الجندي بدوره يذهب إلى الحرب ليدافع عن شركائه في الوطن حتى يموت عنهم. وعندما يموت عنهم فهو قد مات لأجلهم ولمنفعتهم، أي لكي يتمتعوا هم بالحرية وبكل مزايا المواطنة. والكتاب المقدس يصور المسيح بكل الصور السابقة: فهو الحمل البديل (يو ١ : ٢٩). وهو الضامن أو الغارم الذي دفع ديون خطايانا (فالمسيح أشار إلى الخطية بمعنى ‘دين’: ‘اغفر لنا ديوننا’ كما جاءت في الأصل اليوناني)، لهذا يعلم بولس بأنه "محا الصك الذي كان علينا ... الذي كان ضدًا لنا" (الصك كما جاء في الترجمات الإنجليزية هو سجل المديونية) (كو ٢ : ١٤). وأنه آدمنا الأخير ورأسنا العهدي الجديد الذي يمثلنا (رو ٥). وأنه الخادم الذي ذهب إلى الصليب لكي يُسْحَق عقبه من الأعداء عوضًا عنا (مت ٢٠ : ٢٨).

فضلاً عن ذلك، إن القول أن المسيح مات لأجل الإنسان، لا ينفي أنه مات لأجل أمور أخرى. فالكتاب المقدس يعلمنا أن المسيح صُلِبَ من أجل الله، ومن أجل الإنسان، ومن أجل الشيطان، ومن أجل الخطية، ومن أجل الخليقة بأكملها. إن موت المسيح كان موجهًا لهذه الأطراف جميعًا. لاسترضاء غضب الأول (رو ٣ : ٢٦)، ومن ثم، تغيير الثاني، وسحق الثالث، ونزع فعالية الرابعة، ومصالحة الأخيرة ذاتيًا وتجديدها.

ثانيًا بالنسبة للنصوص الكتابية واللغة اليونانية

النصوص الكتابية التي تتكلم عن موت المسيح تستخدم على الأقل حرفين للجر: anti و huper . الأول يفيد البدلية، والثاني يفيد المنعفة (لأجل، لصالح). يقول قاموس المصطلحات اليونانية للعهد الجديد BDAG في تعريفه لـ anti أنها تُستخدم "للدلالة على أن شخص، أو شئ، يُستبدل بآخر"، و"للدلالة على أن شئ يساوي، أو في مكان، شئ آخر"، و"للإشارة إلى عملية تدخل بالنيابة عن".

كمثال على الأول anti :"إن ابن الإنسان لم يأتي لِيُخْدَم بل لِيَخْدِم، وليبذل نفسه فدية عن anti كثيرين" (مت ٢٠ : ٢٨، لو ٢٢ : ١٩). وقد جاءت anti لتفيد معنى البدلية في نصوص أخرى مثل: "أرخيلاوس يملك على اليهودية عوضًا عن هيرودس أبيه" (مت ٢ : ٢٢)، "عين بعين" (مت ٥ : ٣٨)، و"أيعطيه حية بدل سمكة؟" (لو ١١ : ١١).

وكأمثلة على استخدامات حرف الجر huper بمعنى "لأجل":

"هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم (لو ٢٢ : ١٩ – ٢٠)"، "الخبز الذي أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو ٦ : ٥١)، "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحباءه" (يو ١٥ : ١٣)، "لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعيان لأجل الفجار ... ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو ٥ : ٦ – ٨)، "بذله لأجلنا أجمعين" (رو ٨ : ٣٢)، "إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذًا ماتوا" (٢ كو ٥ : ١٤ – ١٥)، "جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا" (٢ كو ٥ : ٢١)، "صار لعنة لأجلنا" (غل ٣ : ١٣)، "كما أحبنا المسيح أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة طيبة" (أف ٥ : ٢، ٢٥)، "الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (١ تي ٢ : ٥ – ٦)، "لكي يذوق الموت لأجل كل واحد" (عب ٢ : ٩)، "تألم البار من أجل الأثمة" (١ بط ٣ : ١٨).

ولكن كما تلاحظ فإن العهد الجديد استخدم حرف الجر الأخير huper والذي يعني "لأجل" أكثر من الأول anti والذي يعني "بدلاً من". ولكن، كما يقول تي دبليو شاد W. G. T. Shedd فإن هذا يعزز معنى البدلية وليس ضدها. والسبب في ذلك هو أن حرف الجر huper يشمل كل من البدلية والمنفعة.

يقول شاد:

"حرف الجر huper ، مثل حرف الجر for في اللغة الإنجليزية (في اللغة العربية: عن، لأجل)، له دلالتان. قد يشير إلى ميزة أو فائدة، أو قد يعني البدلية ... في ‏٢ كو ٥ : ٢٠ – ٢١ استعملت huper بمعنى anti : "نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح huper christou ، تصالحوا مع الله. لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا huper hemon ". في فيلمون ١٣، من الواضح أن huper تساوي anti : "الذي كنت أشاء أن أمسكه عندي لكي يخدمني عوضًا عنك huper sou في قيود الإنجيل".

يضيف شاد أن الغرض من إستخدام العهد الجديد لحرفي الجر anti و huper للحديث عن موت المسيح هو معالجة الموضوع من زوايا مختلفة، بحيث أنه عندما يرد حرف الجر anti فالهدف هو التركيز على البدلية. في حين عندما يُستعمل حرف الجر huper فالهدف هو الحديث عن البدلية ونتائجها، أي أن حرف الجر الأخير يشمل البدلية والمنفعة معًا.

وطبقًا لكلمات شاد:

"في ضوء هذه الحقائق، من السهل أن ندرك سبب إستخدام كتبة العهد الجديد لحرف الجر huper أكثر من حرف الجر anti، وهو للإشارة إلى علاقة موت المسيح بخلاص الإنسان. يستبعد حرف الجر الأخير فكرة المنفعة أو الميزة ويحدد فقط فكرة البدلية. بينما قد يتضمن الأول كلا الفكرتين. لذلك، عندما يُعبر كاتب الوحي المقدس عنهما معًا في نفس الوقت، فهو يختار حرف الجر huper . وهو بذلك يعلّم بكلتا الحقيقتان أن المسيح مات بدلاً من الخاطئ ولمنفعته في نفس الوقت".

ثالثُا من حيث الادعاء نفسه

بناء على ما سبق فإن القول أن يسوع مات لأجلنا ولم يمت عنا هو مأزق مفتعل. والصواب هو الاثنين معًا. بل إن من يقول أن يسوع مات لأجلنا، بغرض نفي البدلية، ليس له خيار سوى أن يجعل موت المسيح تعاطفًا معنا أو مثالاً نقتدي به في التضحية. مثل من يقومون بحلق رؤوسهم تعاطفًا مع مرضى السرطان. إذ ليس بوسعهم فعل أكثر من ذلك. بل إن هذا الادعاء يصبح ادعاءً غامضًا وبلا معنى عند تطبيقه على بعض النصوص. على سبيل المثال، لو كان المعنى هو نفي البدلية وجعله "إلى جوار، مع" فإن عبارات مثل "أُسلم من أجل خطايانا" (رو ٤ : ٢٥)، و"الذي بذل نفسه لأجل huper خطايانا" (غل ١ : ٤)، تصبح لا معنى لها. إلا أنه في (رو ٤ : ٢٥) يتحدث عن الطبيعة القضائية لعمل المسيح كما يشير باقي النص "وأقيم لأجل تبريرنا". كما أن النص الآخر (غل ١ : ٤) قيل في سياق دفاع بولس عن الإنجيل ضد تهويده من خلال إضافة أعمال الناموس إلى الإيمان.

أخيرًا وليس آخرًا، ففيما يتعلق بالقول أننا متنا مع المسيح على الصليب، فهذا لا ينفي أنه مات بدلاً عنا. إن اتحادنا بالمسيح من الغنى بحيث أن المسيح بديل عنا ونائب لنا في ذات الوقت. إن موت المسيح بدلي في تحمله للعقوبة. فنحن لم نكابد العقوبة التي كابدها هو. ونيابي في كون موته على الصليب له آثاره علينا بما أنه آدم الأخير. أي أن موت إنساننا العتيق على الصليب هو الموت عن كل انتماءاتنا الآدمية الأولى. المسيح، إذًا، هو وحده البديل الذي يتحمل الخسائر ويسدد الدين ويكابد العقوبة. بينما هو النائب الذي يحقق لنا الإنجازات التي تُحسب لنا. إن مفهوم البدلية والنيابية من التداخل بحيث يستحيل فصلهما عن بعضهما فيما يخص علاقتنا بالمسيح.

وبالنسبة لتشبيه عمل المسيح بظهور ابن الآلهة مع الفتية الثلاثة داخل الأتون، فالحديث هنا ليس عن الكفارة، ولكن عن الاضطهاد. ثم أن لا أحدًا من الأربعة، أي لا الفتية الثلاثة ولا ابن الله كان يتعذب، بل كانوا جميعًا يتمشون في الأتون وكأنهم يستمتعون بنسيم الصيف كما تقول الترنيمة القديمة. إن الرسالة هنا أن ابن الله مع أتقياءه في ضيقهم وفي اضطهادهم من أجله. بل في المقابلة مع ذلك إن ما عمله المسيح على الصليب تعبر عنه كلماته ليلة القبض عليه بصورة جيدة جدًا: "قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبونني، فدعوا هؤلاء يذهبون" (يو ١٨ : ٨).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس