أهم الادعاءات الشكوكية والرد عليها

يوجد على الساحة المسيحية الشرقية الكثير من الادعاءات الشكوكية أو اللاأدرية التي يتم المناداة بها في الكنائس الإنجيلية. والكثير من هذه الادعاءات الشكوكية تطعن في إمكانية اليقين أو إمكانية أن يكون للمسيحي البروتستانتي موقف عقيدي واضح. على أنه غالبًا ما يصاحب الطعن في اليقين التعليمي دعوة إلى حصر الحق المسيحي في الاختبار والسلوك. فبينما يُطعن في إمكانية اتخاذ المواقف العقيدية الواضحة يتم تمرير الجانب الاختباري من المسيحية على أنه البديل لعدم إمكانية التيقن عقيديًا مما يقوله الكتاب المقدس. لهذا فإن تلك الادعاءات الشكوكية مسكونية بطبعها. ففي حين تُفَرِّق العقيدة بين البشر يصبح الاختبار الباطني هو الإمكانية التي في وسعها أن تجمع بينهم. طبعًا المسكونية لا تُقال بهذه الصراحة، لكنها تُتْرَك كالنتيجة التي ينبغي أن تلخص إليها أنت شخصيًا من الطعن في إمكانية اليقين والوضوح القعيدي.

في السطور التالية سأستعرض في عجالة تلك الادعاءات الشكوكية مع تقديم رد مختصر عليها.

الادعاء:
"رحلة البحث عن الحق أهم من الوصول إلى الحق نفسه".

الحقيقة:
هذا الادعاء يريد من طرف خفي أن يقول لك أن الحق يُخْتَبَر ولا يُعرف عقليًا. وبحثك عن الحق هو اختبار خلاصي من نوع ما. أي مجرد البحث في حد ذاته له قيمة خلاصية. إلا أن الإنسان غير باحث عن الحق، بل رافض له (رو ١ : ١٨ ، ٢٥). الحق، المتجسد يسوع، هو الذي بحث عنا ووجدنا في هروبنا واختبائنا منه (ورغم هذا صلبه الإنسان الباطل). والحق المكتوب ينادينا ويمتحنا. ولا يوجد اختبار للحق المتجسد، شخص يسوع المسيح، بدون إدراك واعٍ للحق العقيدي المتعلق بشخصه وعمله (الحق المكتوب).

الادعاء:
"من الكبرياء أن تقول أنك متيقن من الحق".

الحقيقة:
هذا الادعاء يمارس نوع من الإرهاب الفكري، أو التحجيم الفكري لك. بل ويقدم الشك على أنه فضيلة، واليقين على أنه رذيلة. وبهذا فهم يدعون الشر خير والخير شر، ويجعلون الظلام نورًا والنور ظلامًا (إش ٥ : ٢٠). بل من الكبرياء اتهام كلمة الله بالغموض وعدم الوضوح. فهذه هي الكذبة الأولى التي أدت إلى السقوط "أحقًا قال الله" (تك ٣ : ١). لكن كلمة الله تُوصف في الكتاب المقدس بأنها نور (مز ١١٩ : ١٠٥، إش ٨ : ٢٠، ٢ بط ١ : ١٩)، وأنها حكمة (مز ١١٩ : ١٣٠، ١٩ : ٧، كو ٣ : ١٦)، وأنها صادقة وأكيدة (مز ١٩ : ٧، ١١١ : ٧، يو ١٧ : ١٧، ٢ تي ٣ : ١٥ – ١٧).

الادعاء:
"هناك فرق بين الحق وبين ما نعتقده عنه".

الحقيقة:
الغرض من هذا الادعاء هو جعل مسافة بيننا وبين الحق بحيث يتعذر الوصول إليه. وكأن هناك حق ودرجات أو مستويات أو ألوان منه ممثلة في العقيدة. لكن هذه نسبية يراد بها القول من طرف خفي أنه لا يوجد حق وباطل، ولا يوجد صواب وخطأ. وما تتيقن منه أنت على أنه حق ليس سوى تفسيرك له أو لون له. ولكن هذا التمييز بين الحق وما نعتقده عنه لاأدرية مُغرضة. إذ يوجد فقط حق وباطل، صواب وخطأ. إن كان ما نعتقده صحيحًا فنحن نمتلك الحق ذاته. وإن كان ما نعتقده غير صحيح فهو باطل. تغيير موقفنا العقيدي يعني واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة: أننا انتقلنا من الصواب إلى الخطأ، أو من الخطأ إلى الصواب، أو من خطأ إلى خطأ آخر. الكتاب المقدس يعلمنا أن هناك صورة أصلية للحق؛ وهي كل ما هو مُعْلَن فيه. وأي ادعاء لا يتطابق مع معيار الحق المُعْلَن في الكتاب المقدس هو باطل. لهذا توصف التعاليم الكتابية بأنها "كلمات ربنا يسوع المسيح الصحيحة" (١ تي ٦ : ٣ – ٤)، وأنها "صورة الكلام الصحيح" أي النموذج المعياري للحق الذي ينبغي مطابقة وقياس كل شىء آخر عليه (٢ تي ١ : ١٣)، وأنها "التعليم الصحيح" (٢ تي ٤ : ٣)، و"الكلمة الصادقة التي بحسب التعليم ... التعليم الصحيح" (تيطس ١ : ٩).

الادعاء:
"الله غير محدود فلا تظن أنك تستطيع فهمه".

الحقيقة:
المقصود بهذا الادعاء هو إستخدام لامحدودية الله، ولا محدودية الحق المتعلق به، للقول أنه لا يوجد حق واضح واحد متعلق به. وهي قفزة غير مُبَرَّرة من لامحدودية الله إلى اللايقينية أو اللاأدرية به وبحقه. خلط بين عدم إستقصاء الله incomprehensible وبين إمكانية معرفة حقه المُعْلَن بوضوح knowable . ومع أن الله فعلاً لا يُحد ولا يُستقصى، إلا أن كل ما أعلنه عن نفسه واضح ويكفي للخلاص. معرفتنا عن الله وحقه ليست استقصائية لكنها تظل حقيقية وواضحة كما هي مُعْلَنة في الكتاب المقدس. إن الادعاء بأن الله غير محدود وبالتالي لا نستطيع أن نتيقن من الحق المتعلق به هو مثل سخافة القول أن الشمس عظيمة وكبيرة جدًا حتى أن نورها لا يُرى أو غير واضح.

وهذا الادعاء يوجد منه نسختان أو تنويعتان. الأولى هي الادعاء بأن الكتاب المقدس عظيم جدًا ولا تستطيع الإلمام به. وهم يريدون بهذا الادعاء مصادرة أية يقينية لديك حول ما يقوله الكتاب. وبالإضافة إلى ما قلناه سابقًا أن عظمة النور ولاإستقصاءه لا تنفي كونه نورًا، نقول أن في الكتاب المقدس عمق لا يُحد، وفيه أيضًا ثبات ويقينية ووضوح وترابط لا يُحد. والثانية هي الادعاء التعددي بأن المتدينون من كل الديانات يصفون جزء من الله مثل العميان الذين وقفوا أمام فيل ضخم وأخذ كل واحد فيهم يتحسس جزء من الفيل ويقول عنه أنه الله. طبعًا أول شئ يُقال هنا هو أن صاحب الادعاء يرى نفسه على أنه الوحيد الذي يمتلك الصورة كاملة، أي صورة الله وصورة الحقيقة، الأمر الذي لم يستطع أن يراه المتدينون. وهذا تناقض. وثانيًا، فإن بعض التشابهات بين إله الكتاب المقدس الثالوثي الشخصي وبين آلهة الديانات الأخرى لا تعني أننا جميعًا ننظر إلى نفس الحقيقة من زوايا مختلفة، ولكن المسيحية فقط هي النور وباقي الديانات ظلمة تتخللها بعض الومضات.

الادعاء:
"كان المسيح يمجد السؤال ... كان كل تعليمه للناس من خلال إنه بيطرح عليهم أسئلة".

الحقيقة:
الهدف من هذ الادعاء هو القول من طرف خفي أن البحث عن الحقيقة والصراع معها هو الغرض. مما يعني أن الحقيقة ليست واضحة بما يكفي، وأن البحث عن الحق يكون من خلال إثارة الأسئلة. وأن المسيح كان يُعَلِّمُ بإثارة الأسئلة (أكثر من الإجابة عن الأسئلة أو التعليم المباشر) مما يعني أن الغرض ليس الإجابة في حد ذاتها ولكن الصراع مع الحق والبحث عنه.

صحيح أن الرب يسوع استخدم السؤال كأداة تعليمية. إلا أن هذا لا يعني أن الكثير من الأسئلة التي سألها المسيح لا تحمل إجابتها فيها (مت ٥ : ١٣ ، ١٦ : ٢٦). ولا يعني أن المسيح كان هدفه (الأساسي) إثارة الأسئلة أكثر من الإجابة عنها أو تقديم تعليم مباشر وصريح. أو أن كل ما أراده هو أن تفكر لنفسك وتصارع مع الحق وتكتشف الحق بنفسك (ولكن الإنسان رافض للحق كما رأينا وقد صلب المسيح الحق المتجسد). ولا يعني أنه لا يوجد حق واضح المعالم وثابت ونستطيع التيقن منه. فهو نفسه شهد بأنه كلم اليهود بالحق (يو ٨ : ٤٠). وما أكثر ما قيل عن الرب يسوع أنه "فتح فاه وعلمهم" أو عبارات مشابهة. أنظر فقط ما ذكره البشير متى عن ذلك: (٤ : ٢٣، ٥ : ٢ ، ٧ : ٢٩، ٩ : ٣٥ ، ١١ : ١، ١٣ : ٥٤، ٢١ : ٢٣). إن أحد ألقاب الرب يسوع المسيح الهامة هو أنه "اللوجوس" أي "الكلمة". المُعْلِن والمُعَلِّمُ وليس الفيلسوف الذي يطرح الأسئلة عليك لكي تقوم بحل الواجب في المنزل.

الادعاء:

وصف العقائد الكتابية على أنها إشكاليات ومعضلات، مثل القول "معضلة التجسد"، أو "إشكالية الثالوث"، أو "إشكالية الكتاب المقدس".

الحقيقة:
على ما يبدو أن هذا الادعاء يحاول القول من طرف خفي أن الإجابات على تلك الإشكاليات أو المعضلات هي فقط مجرد محاولات صوب الحق وأنه ليس هناك وضوح أو يقين به بحيث ستظل الإشكاليات والمعضلات عالقة. ما من شك أن هناك صعوبات في فهم بعض جوانب الحق المسيحي. إلا أن وصف عقائده الجوهرية بأنها إشكاليات أو معضلات ينفي طبيعة كونه في الأساس إعلان الله عن نفسه. صحيح أن إعلان الله عن نفسه به معلنات وسرائر في نفس الوقت، لكن تظل صفته الغالبة أنه إعلان وليس إبهام أو غموض. حل وليس إشكالية. نعمة تنازل الله إلى لغتنا وبشريتنا ومحدوديتنا. طريق الله إلى الإنسان ومن ثم طريقنا إليه، وليس عثرات في طريق معرفتنا الله. سحابة مجد وليست ضبابًا أو غيومًا. نور وليس ظلمة.

أن تتحدث عن إعلان الله، إذًا، على أنه إشكالية وليس حل، أو أنه معضلة وليس حل لمعضلات كثيرة، هو أن تطعن في طبيعة الإعلان نفسه. إن الثالوث والتجسد والكتاب المقدس هي حلول الله لإشكاليات البشر. فكلمة الله تخلق النور: "وَقَالَ اللهُ: ‘لِيَكُنْ نُورٌ’، فَكَانَ نُورٌ". (التكوين ١: ٣).

الادعاء:
"الصليب هو لُب الرسالة المسيحية وهو سر عظيم لا نستطيع أن نفهمه بالكامل"، "سأظل طول عمري لا أفهم أبعاد الصليب حتى حينما أذهب إلى الرب هناك"، "هل تعلم يا يسوع أني لا أفهم صليبك"، "عندما قبلت الصليب لا أدعي أني فهمت لكن أزعم أني اختبرت ... لا أزعم قط أني أفهم أبعاد الصليب ... هل كل ما نعرفه نفهمه؟".

الحقيقة:
الغرض من هذا الادعاء هو حصر الصليب في اختبار لا يُفهم. وصاحب الادعاء يستغل عظمة الصليب لكي يقول أن الصليب عظيم لهذا لا نستطيع أن نفهمه. وهذا الادعاء أشبه بالادعاءات السابقة بأن الله عظيم ولا يُحد، وأن الكتاب المقدس عميق ولا يُمكن أن يُحد. استغلال عظمة حق ما للطعن في إمكانية اليقين من معناه أو وضوحه. ولكن هذه لأدرية وشكوكية.

طبعًا أن تقول أن الصليب يُخْتَبَر ولا يُفهم هو مأزق مُفتعل. ذلك لأن الصليب هو الإثنان معًا. يُفْهَم عقليًا ويُختبر قلبيًا. صحيح أن عمل الصليب عظيم ولا يُحد، لكن شتان الفرق بين ذلك وبين القول أنه عظيم لذلك لا يُفهم. فهذه ليست اللغة التي يتحدث بها العهد الجديد عن الصليب. الصليب في العهد الجديد هو إعلان الله. نعم هناك عمق وارتفاع وعلو في الصليب لا يُحد، لكن هذا لا ينفي الوضوح الذي فيه. ولا ينفي كونه إعلانًا في الأساس. إن عظمة وضخامة الشمس لا تنفي كونها نورًا. وهكذا الصليب. الغنى الموجود في الصليب لا يعني عدم الوضوح كما يمكن أن توحي الأقوال أعلاه.

لقد استعمل بولس في (رو ٣ : ٢١ – ٢٥) ثلاث كلمات يونانية مختلفة لكي يؤكد على كون الصليب إعلانًا عن بر الله "ظهر ... قدمه ... لإظهار ... لإظهار". في الصليب أعلن الله كيف يمكن أن يُبَرِّرُ الفاجر ويظل الله بارًا أي عادل. وذلك من خلال استيفاء الثمن أو الدين من البديل. يُعِلِّمُ بولس أيضًا، في كورنثوس الأولى ١، بأن الصليب هو حكمة الله. كاتب العبرانيين بدوره يربط إعلان الابن عن الله (الآب) بعمل الصليب، وكيف أن الابن أعلن الآب لنا من خلال الصليب (عب ١ : ١ – ٣). كل هذه النصوص وغيرها تؤكد أن الصليب إعلان الله لنا عن نفسه. وهو ليس شئ مبهم لا نفهمه.

أخيرًا وليس آخرًا، المجاهرة باختبارات الإلحاد ثم العودة إلى الإيمان والحديث عن ذلك على أنه رحلة صراع مع الحق والبحث عن إجابات لأسئلة إيمانية صعبة. وهذه محاولة ضمنية للقول كُن أمينا للأسئلة التي في رأسك، والتي في هي في حقيقتها شكوكًا، أيًا كانت النتيجة (بدلاً من القول كُنْ أمينًا لكلمة الله؟!). ولكن هذا شئ يدعو للخزي أن يرتد المسيحي عن الإيمان. وإن عاد للإيمان فالفضل لنعمة الله التي انتشلته مرة أخرى. الفضل لعمل النعمة التي تنازلت وتعاملت مع شكوكه وليس لكونه مفكر أو باحث عن الحقيقة أو تنويري ثائر يحتاج إلى إجابات خاصة به. والمجد لنعمة الله التي ارتضت أن يوضع الله تحت شروط الإنسان الخاطئ، وليس لكونه يترك الإيمان ويعود إليه حينما يقتنع عقليًا أو يصل إلى ما يرضيه فكريًا.

ليس الغرض مما سبق هو أن نطعن في البحث أو الدراسة أو أن نحجر على الأسئلة. إطلاقًا. ولكن شتان الفرق بين السائل الخاضع والمتيقن من عصمة ووضوح وكفاية الكتاب المقدس، وبين السائل المتشكك الذي وضع عقله كقاضٍ فوق كلمة الله. أن نسأل ونحن في روح الإيمان والخضوع لوضوح وكفاية الحق الإلهي المكتوب ليس مثل أن نسأل ونحن متشككون في كفايته ووضوحه. فقد كان هذا موقف الآباء "أؤمن لكي أفهم". وكان أيضًا موقف المصلحون من بعدهم. أي الإيمان الواثق في وضوح وكفاية كلمة الله والساعي إلى الفهم على هذا الأساس الراسخ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس