تفنيد الاعتراضات على البدلية العقابية (٣)

كيف يحمل شخص عقوبة شخص آخر؟

هذا الاعتراض يُصاغ بصور مختلفة:
"ليس من العدل أن يأخذ المسيح البار عقوبة الخطاة"
"كيف يمكن أن يعاقب البرئ بدلاً من المذنب؟"
"القانون ينص على أن العقوبة تكون شخصية، فكيف يأخذ شخص عقوبة جريمة ارتكبها آخر؟"
"البدلية العقابية هي تَصَوُّر (خيال) قضائي Legal Fiction"

الصيغ السابقة تشترك جميعًا في الاعتراض على البدلية العقابية من منطلق أن مَنْ عُوقب ليس هو ذاته مَنْ ارتكب الخطأ. وليس من العدل أن يأخذ البرئ مكان المذنب. ويتم الاستشهاد بـ قول الحكيم "مبرىُ المذنب، ومُذَنِّبُ البرئ، كلاهما مكرهة الرب" (أم ١٧ : ١٥).

على أن هناك اعتراض كاثوليكي على هذا التعليم. ولكن، رغم أنه يختلف إلى حد ما عن الاعتراضات السابقة، إلا أنه يشترك معها في كونهم جميعًا إنكار للاحتساب، ومن منظور ما إنكار للاتحاد مع المسيح. فطبقًا لـ آر سي سبرول، فإن الكاثوليك يعترضون على التبرير القضائي والاحتساب بأنهما "خيال قضائي":

"تَعَرَّض هذا المفهوم (التبرير القضائي، الاحتساب) لانتقادات حادة من قبل الروم الكاثوليك معتبرينه ‘خيالًا قضائيًا’. والسبب في اعتراضهم هو أنهم يرون أن هذا المفهوم يلقي بظلاله على نزاهة الله لأنه (الله) يعلن الشخص بار أو صالح في حين أن هذا الشخص ليس بارًا في الواقع (لم يزل خاطئ). إن تحويل الله الخيال إلى حقيقة يعني أن الله متورط في نوع من الاحتيال. بالنسبة لكاثوليك لروما، يمكن لله أن يعتبر أو يعلن أن الشخص صالح فقط إن أصبح هذا الشخص بارًا في الواقع أولاً. أي شيء أقل من هذا هو خيال". (سبرول: ما هو اللاهوت المصلح)

على أن الاعتراضات السابقة جميعها تغفل شيئًا خطيرًا وجوهريًا في العلاقة بين المسيح ومؤمنيه؛ ألا وهي الاتحاد به. إن العهد الجديد يستعمل الكثير من الصور للتعبير عن "اتحاد المؤمنين بالمسيح". فهو اتحاد الرأس بالجسد (أف ١ : ٢٢، ٤ : ١٥، ٥ : ٢٣، كو ١ : ١٨، ٢ : ١٩). واتحاد العريس بالعروس (يو ٣ : ٢٩، رو ٧ : ١ - ٤، ٢ كو ١١ : ٢). واتحاد الكرمة بالأغصان (يو ١٥ : ٥). كما أننا لبسنا المسيح (غل ٣ : ٢٧). وأننا مبنيون فيه معًا (أف ٢ : ٢٠ – ٢٢). في العهد القديم أيضًا كان مُقَدِّم الذبيحة يضع يده على رأسها للتوحد معها حتى تنتقل ذنوبه إليها فيأخذ هو براءتها (لا ١ : ٤ ، ٣ : ٢ ، ٤ : ١٥ ، ١٦ : ٢١). إن الصور المجازية السابقة هي زوايا مختلفة لنفس الحقيقة الواحدة والثمينة أننا واحد مع المسيح.

وإن تأملنا، إحدى هذه الصور المستعملة في توضيح علاقة الاتحاد بين المسيح والكنيسة، ولتكن علاقة العريس بالعروس، سنجد أنها تجعل الاعتراض أعلاه لا أساس له من الصحة. فالعروس تأخذ اسم زوجها (في الغرب على الأقل) وما له من كرامات وغنى لأنها أصبحت واحدًا معه (فعليًا وقانونيًا). هناك وحدة قانونية حقيقية بينهما. صحيح أن الزوج لا يُعاقب من أجل شئ ارتكبته زوجته (النماذج البشرية لا تتطابق مع الحقائق الإلهية)، إلا أنه من الممكن أن يموت أو يضحى من أجلها. وأن يدفع ديونها التي تراكمت عليها في فقرها قبل الارتباط به. فهو كفيلها وضامنها. وما يتخذه من قرارات أو اجراءات تنصرف آثارها علهيا أيضًا بسبب علاقة الاتحاد بينهما.

ليس ذلك فقط، بل إن بولس أيضًا يضع نيابية المسيح كرأس عهدي للخليقة الجديدة، في مقابلة مع نيابية آدم كرأس عهدي للبشرية الساقطة (رو ٥ : ١٢ – ١٩، ١ كو ١٥ : ٢١ – ٢٢، ٤٥). ونحن فيه وهو فينا كما نقرأ كثيرًا في رسائل بولس. إن بولس هنا لا يتحدث عن صورة مجازية، بل عن علاقة نيابية وعهدية حقيقية. بل إن هذه الوحدة بين المسيح ومؤمنينه ترجع، من منظور ما، إلى الاختيار قبل تأسيس العالم "اختارنا فيه قبل تأسيس العالم" (أف ١ : ٤).

هذا الغنى والتنوع في علاقة اتحاد المسيح بالكنيسة دعا الكثيرون، ومن بينهم البيوريتان، لمحاولة التأمل في هذا الحق العظيم وتنظيمه. فقد عَلَّموا بأن هناك أبعاد أو مستويات مختلفة للاتحاد مع المسيح. فهو، من منظور ما، اتحاد أزلي، بما أننا أختيرنا فيه قبل تأسيس العالم. وهو اتحاد قانوني في حياته وموته عند ملء الزمان. وهو أيضًا اتحاد سري لنا معه الآن بعمل الروح. يقول بيكي:

"بالنسبة إلى البيوريتان، كانت عقيدة التجديد جانبًا أساسيًا من عقيدة الخلاص، وكانت علاقتها (عقيدة التجديد) باتحاد المؤمن مع المسيح ذات أهمية كبيرة. كان الاتحاد مع المسيح يُفهم عادة بطريقة ثلاثية: اتحاد أزلي/قائم بذاته، اتحاد زمني/فدائي تاريخي، واتحاد تطبيقي/سري. إن الفداء الذي قصده الله في الأبدية وأتمه المسيح في الزمن غير مكتمل حتى يتم تطبيقه في اختبار المؤمن". (جويل بيكي: التعليم اللاهوتي للبيوريتان – عقيدة للحياة)

طبعًا ليس المقصود من الاتحاد الأزلي للمسيح مع الكنيسة أن الكنيسة موجودة أزليًا. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذا التعليم يظل هناك مستوى من الارتباط أو الاتحاد مع المسيح قبل تأسيس العالم، بما أن القديسيون اختيروا "فيه" قبل الخليقة.

يرى بيرخوف أيضًا أن الاتحاد بالمسيح هو أساس عقيدة الخلاص بأكملها:

"الاتحاد العهدي للمسيح مع أولئك الذين أعطاهم الآب إياه في المشورة (الأزلية) للفداء. في مشورة السلام، أخذ المسيح على عاتقه طواعية أن يكون رأس المختار وضامنه، والمُعَيَّن له أن يخلق البشرية الجديدة، وعلى هذا النحو يؤسس برهم أمام الله بدفع عقاب خطاياهم وتقديم طاعة كاملة للناموس (عنهم) وبالتالي ضمان نصيبهم في الحياة الأبدية. في ذلك العهد الأبدي اِحْتُسِبَتْ خطية شعبه إلى المسيح واِحْتُسِبَ إليهم بره. إن احتساب بر المسيح لشعبه في مشورة الفداء يتم أحيانًا اعتباره على أنه تبرير أزلي. إنه بالتأكيد الأساس الأزلي لتبريرنا بالإيمان، وهو الأساس الذي نستقبل عليه كل البركات الروحية وعطية الحياة الأبدية. ولما كان الأمر كذلك، فإن الاتحاد بالمسيح أساسي لكل عقيدة الخلاص، وحتى المراحل الأولى من تطبيق عمل الفداء، مثل التجديد والدعوة الداخلية". (بيرخوف: اللاهوت النظامي)

في هذا العهد الأزلي بين الآب وابنه، والذي موضوعه مجد المسيح في الكنيسة وفداؤها، من خلال اتحاد الابن بالكنيسة، نجد المسيح اتخذ على عاتقه طواعية اتمام هذا العمل. وإن كنا نقول أن العقد شريعة المتعاقدين، فإن العهد الأزلي هو شريعة المتعاهدين. إن المسيح لم يُجبر على هذه التضحية، بل اتخذها طواعية في ذلك العهد الأزلي. فضلاً عن ذلك، أن تقول أنه ليس من العدل أن يأخذ البرئ عقوبة المذنب، هذا فعلاً ليس عدلاً، بل نعمة. لو أردنا العدل، فسيكون نصيبنا جميعًا هو الجحيم. إن كفارة المسيح البدلية عدل من منظور أنه لم يُجبر عليها بل تجد أساسها في العهد الأزلي بين الآب وابنه. وهي ليست عدلاً بل نعمة من منظور أنه لا يستحق العقوبة، بل نحن.

شاد بدوره يرى أن الاتحاد بالمسيح هو أساس عقيدة الخلاص، وأن هناك مستويات أو أبعاد مختلفة من هذا الاتحاد:

"على أساس هذا الاتحاد الروحي والسري يقوم الاتحاد العهدي والقانوني بين المسيح وشعبه. ولأنهم متحدون معه روحيًا وحيويًا وأزليًا وسريًا، فإن استحقاقه يُحْتَسَب إليهم، وتقصيراتهم تُحْتَسَب إليه. إن احتساب بر المسيح يفترض الاتحاد معه. لا يمكن أن يُحْتَسَب إلى غير المؤمن، لأنه لم يتحد مع المسيح بالإيمان". (دبليو جي تي شاد: اللاهوت العقيدي) 

بناء على كل ما سبق، فإن اتحادنا بالمسيح، والذي هو اتحاد غني ومتنوع، هو العلة والأساس لاحتساب بره إلينا، واحتساب ذنوبنا عليه. إنه أساس تلك المبادلة الحلوة بأنه أخذ ما لنا وأعطانا ما له. ليس إذًا خيالاً قانونيًا، بل حق مؤسس على اتحاد حقيقي على مستويات مختلفة: أزليًا وزمنيًا وسريًا. وليس ظلمًا للمسيح لأنه لم يُجْبَرُ عليه بل اتخذ على عاتقه هذا العمل طواعية.

للذهاب إلى التفنيد الأول
للذهاب إلى التفنيد الثاني

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس