تعليق على عظة "الإنسان كائن مفكر أم كائن عطشان" للدكتور ماهر صموئيل

يبدأ الدكتور ماهر صموئيل كلامه من يوحنا ٤ بالإشارة إلى أن عظته عن السامرية توافق التقويم القبطي "أحد السامرية". وهذا يأتي كمخالفة للمنهج المصلح في الوعظ التفسيري الذي يتناول كلمة الله سفر سفر وآية آية شارحًا النص كما هو حتى لا يُشَوَّه الحق أو يُغْفَلُ منه أي شئ. إلا أن الدكتور ماهر صموئيل يستعير أكثر من مجرد التقويم القبطي. بل الأرثوذكسية الشرقية نفسها بتركيزها على الكفارة العلاجية (الثيوسيس) بأن الإنسان خُلِقَ غير مكتمل الإنسانية (على صورة الله) وكان عليها تكميلها من خلال السعي لكي يكون على مثاله.

في هذه العظة يطعن الدكتور ماهر صموئيل كالعادة في العقيدة، وفي الخلاص القضائي. الغريبة أنه يحاول أن ينفي عن نفسه هذا المنهج بقوله مثلاً "العقيدة جميلة" إلا أن ما يقرر ما إذا كان منصفًا أو مجحفًا تجاه العقيدة ليس ما يدعيه، بل طريقة تعامله معها، أي أن يكون هناك توافق بين المبدأ وتطبيقه. إن الدكتور ماهر صموئيل بطعنه في العقيدة من ناحية وقوله أن العقيدة مهمة أو جميلة من ناحية أخرى يشبه شخص ينهال على صديقه بالضرب والطعن بينما يؤكد له في نفس الوقت أنه جميل ومهم!

من بين العبارات الخطيرة التي قالها الدكتور ماهر صموئيل للطعن في الأهمية البالغة للعقيدة هو اقتباسه للأب متى المسكين: "الأب متى المسكين له وصف جميل للعقيدة. يقول العقيدة هي خارطة الطريق إلى المسيح. وكم هو تعيس الإنسان الذي يتوقف عند الخريطة ويذاكر الخريطة ويحفظ الخريطة ويرسم الخريطة ويدرس الخريطة ويفصص الخريطة ... على فكرة الخريطة أعطيت لنا لنتحرك نحو الغرض. والغرض هو المسيح. فالخلاص ليس بالخريطة. لكن الخلاص بالمسيح. العقيدة السليمة هي طريقنا إلى المسيح لكن ليست هي التي تخلص الإنسان".

وطبعًا هذا مأزق مفتعل منه كما اعتدنا على الكثير من مآزقه المفتعلة. لسنا مضطرون للاختيار بين المسيح والعقيدة. في الحقيقة ليس من الممكن أن نختار بين المسيح والعقيدة. ذلك لأننا لا يمكن أن ندرك أمجاد المسيح إلا من خلال العقيدة الصحيحة. ولا يمكن أن ننمو في علاقتنا بالمسيح إلا من خلال النمو في المعرفة اللاهوتية عنه. فالعقيدة هي الواسطة التي يستخدمها الروح القدس لتقديسنا واِتْحَادنا بالمسيح أكثر "لاحظ نفسك والتعليم وداوم على ذلك، لأنك إذا فعلت هذا، تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضًا" (١ تي ٤ : ١٦)، "وكأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به" (١ بط ٢ : ٢). ولا يمكن أن نحب المسيح إلا من خلال أن نحبه بكل "الفكر والقلب" معًا "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك" (مت ٢٢ : ٣٧). العقيدة إذًا هي خارطة الطريق وهي الطعام وهي عرش المسيح في العقل وطريقه إلى القلب. إلا أن منهج الدكتور ماهر صموئيل في تهميش ما يريد تميشه هو أن يجعله وسيلة إلى غرض. كثيرًا ما تحدث عن الخلاص القضائي على أنه وسيلة إلى غرض. وهنا يفعل نفس الشئ بجعل العقيدة وسيلة إلى غرض أيضًا.

ومن المعروف أن الأب متى صوفي المنهج، ويؤمن بعالمية الخلاص، وينكر التبرير بالإيمان وحده. وهذه ليست المرة الوحيدة التي يقتبس فيها الدكتور ماهر صموئيل أصحاب التعاليم غير الكتابية. فقد سبق وقال أن القس الكاثوليكي الصوفي هنري نووين هو الذي أنقذه نفسيًا وروحيًا عندما قرأ كتابه. ورشح كتاب القسيسة الليبرالية فليمنج روتلدج "الصلب"، والتي تطعن فيه في البدلية العقابية وتنادي بأن الشيطان نفسه سيخلص في النهاية، على أنه ثاني أعظم كتاب عن الصليب. المفارقة الساخرة هي أن الدكتور ماهر صموئيل يقتبس هذه الأسماء كسلطة تفسيرية وتعليمية على الشعب الإنجيلي بينما سبق له وطعن في لوثر على أنه كان يعاني من الشعور المفربط بالذنب وبالتالي تركيزه على عقيدة التبرير بالإيمان وحده ناتج عن هذا الاضطراب النفسي!

من ضمن العبارات المذهلة التي قالها الدكتور ماهر صموئيل هو أنه يعرف ربما أكثر من الكثيرين ما يعني أن يكون الإنسان محتاجًا. ولا يبدو لي هنا سوى أنه يشير إلى خلفيته كطبيب نفسي يستطيع أن يحلل احتياجات الإنسان. إلا أن الكتاب المقدس قد سبق وحلل حاجات الإنسان الروحية والنفسية قبل الطب النفسي بل وبصورة أصدق منه. ولا يوجد فرق بين الحاجات الروحية والنفسية أو أي إنقسام بينهما. فالكتاب المقدس يستعمل مصطلحي "النفس" و"الروح" بالتبادل.

يقدم ماهر صموئيل المسيح في هذه العظة على أنه من جاء، لا لكي يرفع عنا دينونة الخطية، أو سلطانها، بل كمن يتوحد ببشريتنا ليقدم لنا شبعًا روحيًا. المسيح هو المكتمل الإنسانية الذي جاء لكي يعطينا الارتواء الروحي. وفي الحقيقة جاء المسيح لكي يفعل كل ذلك. بل وأكثر منه بكثير. لكن لو كان هذا هو الجانب الرئيسي من خلاص المسيح لكان هذا منظورًا للخلاص مرتكزًا حول الإنسان. المسيح جاء أولاً لكي يقدم كفارته إلى الله، من خلال استرضاء غضبه وعدله. وبناء على هذا الاسترضاء المقدم رأسيًا يتحقق الشبع. إن شبعنا الداخلي متوقف على شبع الله في استرضاء المسيح بقدر ما أن سلامنا الشخصي متوقفًا على سلامنا مع الله.

والدكتور ماهر صموئيل دائم الطرح للتعليم الأرثوذكسي الشرقي بأن الإنسان مخلوق غير مكتمل الإنسانية. والسقوط هو انحراف عن مسار تكميل الإنسانية والذي يتحقق من خلال أن نصير على مثال الله. والمسيح جاء لكي يعيدنا إلى مسار أو طريق تكميل إنسانيتنا. وهذا الفكر غرضه إقصاء الجانب القضائي لكل من الخطية والخلاص من المشهد من خلال إعادة تعريف الإنسان وسقوطه. وهذا الطعن في الجانب القضائي من الخلاص يكون مصحوبًا بتقديم الاختبار الصوفي كبديل له. وهو صوفي لأنه يقصي دور العقيدة لحساب الاختبار أو المحبة. وهذا ما قاله الدكتور ماهر صموئيل بالحرف الواحد إذ علّم بأن الإنسان يبحث عما لا يعرفه. إنه يحب وهو يبحث عما يحبه ولا يعرفه. ليس هو كائن مفكر بل كائن يحب. والحل، أو بالحري العلاج، لحالة الإنسان، ليس هو العقيدة، ولا الخلاص من الدينونة، بل أن يدخل في علاقة محبة مع المسيح (مع إقصاء العقيدة عنه).

في نفس هذا المنهج يقدم ماهر صموئيل في عظته هذه عمل الله الفدائي على أنه سر، واتحاد المسيح بالمؤمن سر. وهو حقًا سر. والدكتور ماهر صموئيل له محاولة سابقة في إقصاء الصليب عن العقيدة من خلال الحديث عن سرانيته. إلا أن سرائرية اتحاد المسيح ليست هي الجانب الوحيد في هذا الاتحاد. فقد اتحد بنا كآدم أخير وكرأس عهدي جديد لكي يعتقنا من انتمائنا لآدم الأول. وهذه علاقة اتحاد قانونية وقضائية. إن اتحادنا بالمسيح هو من منظور ما حقًا اتحادًا سريًا لا ندرك أبعاده، بل يحدث بالعمل السري للروح القدس، إلا أن الكتاب المقدس يعلمنا بوضوح أن هذا الاتحاد السري مؤسس على اتحادنا بالمسيح في حياته وفي موته وفي قيامته وفي صعوده. سرية هذا الاتحاد ليست إذًا البعد الوحيد له.

ولا ينبغي أن يفوتنا هنا أن الطعن في العقيدة غالبًا ما يكون مرتبطًا بالطعن في الخلاص القضائي (الخلاص من غضب الله ودينونته). والعلاقة بين العقيدة والخلاص القضائي تكمن في أن كلاهما حقًا موضوعيًا وواقعًا خارجًا عنا يتخذ الله كالمركز. فالطعن في العقيدة يصاحبه تقديم الاختبار كالبديل. والاختبار شئ شخصي داخلي غير موضوعي. وجعل الاختبار الجانب الرئيسي للإيمان هو تهميش لحق الله الموضوعي من خلال إعلاء الاختبار الإنساني عليه. جعل ما يريده الإنسان في المركز وليس ما يريده الله. ولا ينبغي أن يكون هناك تعارض بين الاثنين ولكن مركزية الله دائمًا هي الحل لمشاكل الإنسان. والخلاص القضائي أيضًا متمركز حول الله في كونه يضع مطالب الله وناموسه العادل في مركز الفداء. أي أن الكفارة موجهة رأسيًا إلى أعلى (لاسترضاء غضبه) قبل أن تكون موجهة أفقيًا إلى الإنسان (لشفاءه وشبعه).

وعظة الدكتور ماهر مليئة بهذا الحشو الذي يطعن في العقيدة والخلاص القضائي من ناحية ويركز على الاختبار الفردي من ناحية أخرى. إلا أن هناك عبارة أخرى استوقفتني يصادق فيها ماهر صموئيل على تعليم ج. ك. تشسترتون بأنه "عندما يطرق رجل باب بيت من بيوت الدعارة، إنه في الأصل يبحث عن الله ... في الواقع أعماقك كانت تبحث عن الله لكنك ضللت الطريق". وهذا تصريح غير كتابي بالمرة ينفي عقيدة الفساد الجذري ويصور الإنسان على أنه حسن النية ويريد الله ولكنه فقط أخطأ الطريق إليه! كما أنه يقلل من جسامة الخطية وفداحتها باعتبارها خطأ غير مقصود يظهر عكس ما يبطن. صحيح أن الإنسان يملأ الفراغ المصنوع على شكل الله بداخله بأمور أرضية، إلا أن هذا يفعله الإنسان متعنتًا وقاصدًا. إنه متمرد على الله حتى أنه لا يريد سلطانه الأدبي ولهذا يحاول أن يملأ فراغه الداخلي بمعزل عن الله. ليس أن الإنسان يبحث عن الله فطرق بالخطأ على أبواب بيوت الدعارة، بل إنه يعرف أين يوجد الله ولكنه اختبأ منه مرة عند السقوط ولم يزل يقول له "ابعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر" (أي ٢١ : ١٤). وعندما تجسد الله قالوا له صراحة "لا نريد أن هذا يملك علينا" (لو ١٩ : ١٤). بل إنه يتلذذ برؤية التمرد على الله "الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت، لا يفعلونها فقط، بل أيضًا يسرون بالذين يعملون" (رومية ١: ٣٢).

هذه العظة للدكتور ماهر صموئيل إذًا تأتي كمخالفة لكل من مركزية العقيدة الواضحة والصحيحة، ومركزية الجانب القضائي للخلاص (التبرير والبدلية العقابية والغفران)، في المنهج البروتستانتي المصلح.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس